»فتريّة«: كـوميديـا ســوداء تحاكي واقعا تراجيـديا
رغم هيمنة الأفلام الدرامية على الإنتاج السينمائي في تونس، إلاّ أنّ الكوميديا استطاعت في السنوات الأخيرة أن تحجز لها مكاناً قارّا ضمن أكثر الأفلام متابعة ومشاهدة من قبل الجمهور. ويأتي فيلم »فتريّة« للمخرج وليد الطايع ضمن هذا السياق الإبداعي وكجزء من هذه الموجة التي تسعى إلى تقديم رؤية فنية ناقدة للواقع المعاش بصورة فنية ساخرة.
الفيلم الذي تدوم مدّة عرضه 79 دقيقة، جمع ثلّة مـن خيرة المسرحيين التونسيين، على غرار الفنّان القدير عيسى حراث وجمال مداني وصباح بوزويتة والمتألقة ريم الحمروني، إلى جانب مصممة الرقص نادية سايجي.
شخصيات خيالية مستوحاة من واقع الحياة
بأسلوب طريف وفكاهي لا يخلو من السخرية والنقد اللاذع، يعود بنا فيلم «فتريّة» إلى حقبة زمنية مهمة في تاريخ تونس، تميّزت بعديد التناقضات والمغالطات في فترة حكم الرئيس الراحل بن علي. حيث تدور أحداث الفيلم في سنة 2004، تزامنا مع انعقاد أشغال القمّة العربية في تونس، حيث تتقاطع مسارات وحكايات خمس شخصيات رئيسية لا تلتقي إلاّ في المشهد الأخير من الفيلم، بعد أن يتمّ القبض عليهم من طرف أعوان الأمن.
تتنامى أحداث السرد بحرفية سامقة وسلاسة عالية، لتخبرنا عن عدّة مصائر وأقدار لخمس شخصيات مختلفة في الظاهر لكنّها تشترك في المعاناة والشقاء والبحث عن حياة أكثر أملاً وأقل قسوة، بعد أن عصفت بها المحن وتمكّن منها الإحباط والتشاؤم وتردّت أوضاعها الاجتماعية.
فقد نجح الممثلون في أداء أدوارهم بعد أن تعمقوا في تجسيد الشخصيات، لنستشعر مآسيهم وآلامهم، وغربتهم حتّى داخل جلودهم، دون الوقوع في فخ المبالغة في التمثيل والإفراط في التعبير الزائد عن الحدّ، رغم خلفيتهم المسرحية.
فهذا «عمار»(عيسى حراث) الرجل المسنّ الذي قطع شوطا طويلا للحصول على العلاج في أحد المستشفيات العمومية بالعاصمة، يتأرجح بين مكتب وآخر أملا في ملاقاة طبيب القلب، ولكن دون جــدوى، بعد أن رفض دفع رشوة لأحد الممرّضين واختار أن يتّبع الإجراءات العادية. وهذا «حمادي» فنّي كهربائي، يجد نفسه متورّطا في إصلاح شبكة الكهرباء القديمة والمعقّدة واستبدال الأسلاك المهترئة في إحدى العمارات الآيلة للسقوط بعد أن استعانت به «نزيهة» (صباح بوزويتة) أحد متساكني العمارة، وهي أرملة في العقد الخامس من العمر تعاني من حالة اكتئاب نفسي حادّ بعد أن تخلّى عنها زوجها وهاجر أبناؤها للدراسة في الخارج، لتجد في حمادي فرصة الأمل الأخير للخروج من حالة العزلة الاجتماعية والانطواء. وتلك «صالحة» (ريم الحمروني) شخصية غير تقليدية وغير مألوفة تسعى إلى كسب قوتها اليومي بكلّ الطرق لتأمين احتياجات عائلتها بعد أن قهرتها الأوضاع المتردّية، فتارة تجدها ضمن النائحات المتطوّعات لتشييع الموتى في الجنائز وطورا ضمن النساء المزغردات والمردّدات في حفلات الزفاف (بمقابل)، قبل أن تتحول لاحقا إلى بائعة للخمر خلسة وإلى ترويج المخدّرات، ومع ذلك فهي الأم المثالية التي تسهر على تربية ابنها والزوجة الداعمة والمساندة لزوجها على مواجهة مصاعب الحياة وضغوطاتها.
كما تسعى «نادية» (نادية سايجي) مصممة الرقص إلى تكثيف بروفات عرضها الراقص في ظروف صعبة نتيجة الضجيج الصاخب الصادر عن إحدى الحظائر العشوائية والتي هي على ملك رجل متنفّذ وشديد السطوة.
هذه الشخصيات الرئيسية في الفيلم هي نماذج من الواقع تكشف عن المعاناة الإنسانية اليوميّة التي رسمها المخرج بشكل كوميدي ساخر، ليستنسخ الواقع الاجتماعي والتربوي والثقافي (في تلك الفترة) ويعيد إنتاجه بمفارقاته ومعضلاته دون إسقاطات ودون الوقوع في فخّ المباشرتية الفجّة.
سيناريو متقن بإخراج استثنائي
«فتريّة» ومن معانيه ذروة الفوضى التي كانت تعيشها تونس (وربّما لا تزال الأوضاع على حالها ولكن بشكل مغاير) في فترة ما قبل الثورة، هو فيلم مختلف من حيث الشكل الإخراجي، إذ اختار المخرج سرد الأحداث بالاعتماد على أسلوب «أفلام القصص المتفرّقة» (films à sketchs) التي تضمّ في طيّاتها مجموعة من القصص، قد تكون لها سياقات مختلفة تماما أو تربطها بعض التداخلات والتقاطعات في الأحداث والأبطال. أربع حكايات مختلفة، تدور في يوم واحد وفي إطار مكاني وسياقات مختلفة تماما، جعلت من سيناريو فيلم «فتريّة» تحفة فنيّة بعد أن خرج عن المألوف وقطع مع النمطيّة في سرد الأحداث وفي بناء الشخصيات بعيدا عن أساليب المطّ والتطويل التي أرهقت النصوص السينمائية خاصّة في بعض الأعمال الكوميدية.
وقد نجح مخرج العمل في تطويع السيناريو والأبطال بعيدا عن التشتّت في الأفكار وعدم الاتّساق في وتيرة سرد الأحداث وذلك بالاعتماد على «توليف تناوبي»(montage alterné) ساهم في بسط الحبكة السينمائية وتقديم لقطات في شكل مجموعة من الفصول الدرامية (على طريقة تقسيم فصول المسرحية) مستقلّة بذاتها ويطبعها إيقاع تصاعدي وترتيب منطقي.
قصص متعدّدة يجمعها فيلم واحد، تطرح وتناقش مجموعة من القضايا والإشكاليات الاجتماعية في علاقة بمشكلة اهتراء المنظومة الصحية، وتصدع العلاقات الأسرية، واستفحال ظاهرة الفقر وانعكاساتها على الفرد والمجتمع، بالإضافة إلى الكشف عن الوضعية المزرية والمتردّية للفنان والفنّ بصفة عامّة...ليبقى الرابط الوحيد المشترك بين هذه الحكايات هو المعاناة والمُقَاسَاة والتهميش في ظلّ نظام كان ينكر هذا الواقع الاجتماعي والثقافي البائس.
نجح مخرج العمــل في رســـم هيكل الفيلم وأحداثه وفي تحـريك الكاميرا بسلاسة لرصد مسارات مختلف الشخصيات بتناقضاتها وتباين أفعالها دون التخلي عن بهجة الصورة وعمقها الإبداعي، كما تَوَفَّقَ في تكييف الشريط الصوتي ليجاري السياق الزمني للأحداث معتمدا في ذلك على آلات إيقاعية (الدربوكة والطبل) في إشارة إلى ظاهرة التملّق التي كانت سائدة في تلك الفترة، فضلا عن نجاحه في صياغة حوار تهكمي وهزلي بمفردات منتقاة بعناية من البيئة والثقافة المحلية.
الفيلم يقدّم لنا كوميديا مضحكة ولكنّها في نفس الوقت تستوقفنا وتحثّنا على التفكير وإعادة التقييم لحقبة زمنية مضت وتركت أثرا كبيرا في أذهان من عاشها، حتّى نستوعب الدرس ونعمل على التخلّص من حاجز الخوف لمواجهة الواقع الصعب وتذليل العقبات بدلا من القبول بسعادة مزيّفة تخفي وراءها كمّا من الآلام والمتاعب والخراب.
ناظم الوسلاتي
- اكتب تعليق
- تعليق