أخبار - 2019.10.28

»التّمييز الإيجابي« كلمـة حـقّ دستوريّة أريد بها »لامركزيّة« مسرحيّة

»التّمييز الإيجابي« كلمـة حـقّ دستوريّة أريد بها »لامركزيّة« مسرحيّة

ظاهرة تفشّت في الآونة الأخيرة ولم تشغل الرّأي العامّ، لأنّها ببساطة، تتعلّق بالشّأن الثّقافي والشّأن الثّقافي يبقى كعادته شأنا لا شأن له إلاّ من منظور المتعاطين له من مبدعين وفنّانين ومثقّفين. يتعلّق الأمر بإحداث المراكز الوطنيّة للفنون الدّراميّة والرّكحيّة بالجهات أي بمختلف ولايات الجمهوريّة. وقد كان عدد هذه المراكز منذ بداية إحداثها في أوائل التّسعينيّات وإلى حدود 2010، لا يتجاوز الثّلاثة وهي كلّ من مركز الكاف وقفصة والمركز الوطني لفنّ العرائس بتونس. فيما أصبح عددها يناهز العشرة في ظرف أقلّ من عشر سنوات. والملفت للنظر أنّ خمسة مراكز منها تمّ فتحها في الأشهر القليلة الماضية أي في فترة ما قبل الانتخابات حتّى لا ندّعي أنّ الحملة الانتخابيّة سبقت أوانها.

مرجعيّتان تحضنان هذه الظّاهرة. الأولى ظرفيّة وهي تتعلّل ربّما بالفرض الدّستوري أو ما اصطلح على تسميته بالتّمييز الإيجابي فيما يتعلّق بالثّقافة وبحقّ المواطنين في كامل تراب الجمهوريّة في الثّقافة. أمّا المرجعيّة الثّانية فهي إيديولوجيّة باعتبار أنّ المراكز الوطنيّة للفنون الدّراميّة والرّكحيّة هي من سلالة منظومة الفرق المسرحيّة الجهويّة التي أينعت في السّتّينيّات وتهاوت صروحها في أواسط الثّمانينيّات.

التّمييز الثّقافي الإيجابي، حقّ دستوري

من المهمّ جرد وتقييم الأسئلة الحقيقيّة التي أدّت إلى إدراج اللاّمركزيّة المسرحيّة في مصطلح التّمييز الإيجابي. فالعودة إلى مطالب الجهات الثّقافيّة لا تظهر أيّ مطلب في خصوص الإنتاج المسرحي (ووظيفة الإنتاج هي الوظيفة الأهم والأوكد الموكلة للمراكز الوطنيّة للفنون الدّراميّة والرّكحيّة، قياسا مع وظائف التّكوين والتّوزيع والتّنشيط والنّشر وتطوير الفكر المسرحي من خلال النّدوات الفكريّة...). ذلك أنّ الجهات «المهمّشة» ثقافيّا أو المنسيّة، حدّدت شواغلها وحاجاتها الثّقافيّة عموما بنقص الفضاءات المهيّأة للعرض الفنّي بمختلف تصنيفاته المسرحي والسّينمائي والتّشكيلي والفرجوي عموما، كما طالبت بتأهيل الموارد البشريّة القائمة على الشّأن الثّقافي وطالبت أيضا بإتاحة الأطر الحاضنة للمواهب الفنّيّة لدى الفئات الشّابّة واستنطاق كوامن الإبداع لديها، تصدّيا للفراغ الرّوحي والفكري وتحصينا ضدّ ترصّد النّوازع المتطرّفة.

بعد 2014، أي بعد الانكباب على وصيّة التّمييز الإيجابي، وبالنّظر إلى اهتراء البنى الثّقافيّة التّحتيّة، نصبت ساحات للفنون في أغلب المناطق المهمّشة ودشّنت بصفتها فضاءات اعتباريّة مسخّرة للمبادرة الإبداعيّة المتطوّعة المتحرّرة والمفتوحة للعموم دون شبابيك تذاكــر أو أيّ شـــرط من شروط الفضاءات النّظاميّة البادرة، وقد خصّصت لها ميزانيّة هامّة، قوبلت في حينها بحماسة كبيرة وبترحاب شديد.

هذا من قبل الطّاقات التي كانت تحتاجها لتنشط وتتفتّق. إلاّ أنّ عدّة أطراف ما لبثت أن استأثرت بها لتتحوّل إلى مآرب أخرى: مآوي للسّيّارات يسترزق منها أصحاب الشّهادات العليا وغيرهم من العاطلين عن العمل. وباستثناء بعض المبدعين والمنشّطين الذين طوّروا مبادرات لإحياء مدنهم وقراهم، فإنّ مصطلح ساحات الفنون مني بتشويه حقيقي لمدلولاته الدّستوريّة ومن النّاحية السّوسيولوجيّة حرّف مغزاه الثّقافي والاجتماعي بشكل يثير التّساؤل حول ما إذا وقع التّفكير بشكل جدّي ومحوكم اقتصاديّا ومعرفيّا وفكريّا قبل الاندفاع نحو هذه البادرة. فقد بيّنت تداعياتها أنّ العجلة التي وسمت إنجازها أحدثت خلطا بين الحاجات الاجتماعيّة للجهات المنسيّة وحاجاتها الثّقافيّة. إضافة إلى أنّ ساحات الفنون لم تستقطب الطّاقات البديلة التي كانت تستهدفها بل إنّها افتتحت على وقع الطّبل ذي المرجعيّة النّوفمبريّة التي ورثتها عن مرجعيّة سابقة لقافلة كانت تستريح من سيرها في محطّات الإعلام ما قبل النّوفمبريّة.

بالتّالي، لم يكن يذهب إلى الظّنّ أنّه حصّل ما في الصّدور وما في الأفكار وها قد أكّدته الانتخابات الرّئاسيّة في انتظار التّشريعيّة.

المناطق المنسيّة كان يمكنها أن تقبل بمبادرات تأهيل للفضاءات القارّة العموميّة والخاصّة أيضا يتيح لها توفير فرص للعرض الفنّي وللتّنشيط الثّقافي في ظروف احترافيّة تراعى فيها هيبة الفنّ والفكر ويحترم فيها المواطن وهو يرتادها.

المرجعيّة الإيديولوجيّة

رجوعا إلى البوادر التبشيريّة باللاّمركزيّة الثّقافيّة في العهد البو رقيبي، كانت ملهمتها تجربة الثّقافة «الحامية»(نسبة إلى الحماية الفرنسيّة). فإنّ مأسسة المسرح الجهويّ وهو سلف المراكز الوطنيّة للفنون الدّراميّة والرّكحيّة، يرشح بشيء من التّوق إلى ترويض العقليّات الجهويّة والعشائريّة واحتوائها إيديولوجيّا (تذكّروا الاعتصامات والمطالب الصّاخبة بالتّنمية والتّشغيل والمناوشات العشائريّة في أعقاب 14 جانفي).

التّداخل بين الإطار المرجعي للخمسينيّات والسّتّينيّات من جهة وبين العشريّة الثّانية في الألفيّة الثّانية، أمر ملفت من حيث أنّه يبرز استعمال اللّامركزيّة المسرحيّة في ظرف يتّسم بالرّغبة في الحشد بل وفي الحاجة إليه.

الإطار الأوّل كان يرنو إلى احتواء المناطق النّائية بوصفها موارد بشريّة يمكن تطويعها للانخراط في التّجارب والخيارات الاقتصاديّة والسّياسيّة. أمّا الإطار الثّاني فيتخلّله استقواء الجهات المحرومة باستحقاق التّمييز الإيجابي ومطالبة كلّ منطقة بمركزها الوطني للفنون الدّراميّة والرّكحيّة. على أنّ السّؤال يطرح حول ما إذا كانت هذه المطالبة صادرة من تلك المناطق في حدّ ذاتها وكمجموعة من «المستهلكين» الثّقافيّين ومن المهتمّين بالشّأن الثّقافي أم إنّها مطالب صدرت عن مجموعة من الإطارات المسرحيّة التي طالب كلّ واحد منهم بإحداث مركز يديره ويشرف على شؤونه.
يبدو على ضوء التّمشّي في إحداث هذه المراكز الأخيرة، أنّ مسألة اللّامركزيّة المسرحيّة كانت مجرّد عنوان لعمليّة إحداث مواطن شغل لمسرحيّين يعيّنون في أغلبهم بجهاتهم، على خلفيّة من الصّخب الاحتجاجي والنّقابي. تلت ذلك عجلة على خطى الاستحقاقات الانتخابيّة.

هذا الزّبد. أمّا ما ينفع المسرح فالبحث جار عن برامج تسند هذه المراكز الوطنيّة وعن قوانينها الأساسيّة وعن سبل حوكمتها الإداريّة ووضع العاملين فيها من مسرحيين وإداريّين وأعوان... إلاّ بعض الاستثناءات وهي قليلة جدّا. فإذا استطاعت تلك التي تخرّجت من دفعة التّسعينيّات، أن تصمد وتثابر على نحت مسيرتها وصياغة مشاريعها رغم هشاشة إمكاناتها، فإنّ المراكز الجديدة تبدو في أمسّ الحاجة إلى استقصاء مبرّرات إحداثها واستكشاف علاقتها من عدمها بمصطلح التّمييز الإيجابي.

فوزيّة بلحاج المزّي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.