منجي الزيدي: التقـاعـد والمتقـاعـدون

منجي الزيدي: التقـاعـد والمتقـاعـدون

تزايد انشغال الرأي العام التونسي في الآونة الأخيرة بالمتقاعدين، ومردّ ذلك بالأساس الوضعية الصعبة لأنظمة التغطية الاجتماعية وصناديق الضمان الاجتماعي وما انجرّ عنها من تأخّر في صرف الجرايات ونقص في مقاديرها، وتراجع القدرة الشرائية لفئة آخذة في الاتساع تجاوز عددها المليون شخص، أضحوا يشعرون بالغبن وعدم الاعتراف بهم، وهم الذين أفنوا سنوات عديدة من أعمارهم وصحّتهم في خدمة المجتمع.

الواقع أنّ أوضاع المتقاعدين هي انعكاس لما هي عليه تجربة التقدم في السنّ في مجتمعنا ولطبيعة العلاقات التي تربط بين الأجيال فيه. ذلك أنّ السّن معطى بيولوجي يتشكّل اجتماعيا وفق تركيبة المجتمع وثقافته. وبالتالي فإنّ النظام الاجتماعي هو الذي يُسنِد المكانة والأدوار المناسبة لكلّ شريحة عمرية، ويحدّد «روزنامات» الانتقال بين مختلف المراحل العمرية من الطفولة الى الشباب ومن الكهولة الى الشيخوخة...فالمجتمعات التقليدية المتضامنة التي تلعب فيها الأسرة الممتدّة دورا هامّا تُعلي من شأن المُسن الخبير والحكيم، في حين تتضاءل هذه المكانة في المجتمعات الفردانية التي تسود فيه ثقافة المنافسة وتُعلي رموز القوّة البدنية والشباب الدائم...

وحريّ بنا أن نتفادى هنا الخلط السائد بين المتقاعد والمسنّ. فالتقاعد مرتبط بنظام إداري ينظّم النشاط المهني ويرتكز على اعتبارات اقتصادية بالأساس. كما أنّ «الشيخوخة» مصطلح غير دقيق وغير ثابت وذلك لارتفاع مؤشّرات أمل الحياة عند الولادة وتطوّر الصحّة وظروف العيش، ناهيك عن التمديد في فترة النشاط المهنيّ لبعض الفئات... ولقد أصبح الفرد اليوم يبلغ سن التقاعد وهو في صحة أفضل وقدرات بدنية ومادية أحسن من ذي قبل، كما أنّ فئات كثيرة صارت تفضّل أنظمة التقاعد المبكّر لتتفرّغ لنشاطات أخرى مهنية واجتماعية... وبالتالي فإنّ التقاعد لا يعني بالضرورة خريف العمر.
لم تعـد العلـوم الاجتماعية تتحدّث عن «الشيــخـوخـة» و«الســن الثـالث» Troisième âge وغيرها من المصطلحات التي تحيل إلى الضعف والوهن والانسحاب من الحياة، بل صارت تُفضِّل مصطلح «النصف الثاني من الحياة» وما يحمله من معاني الاستمرارية وتواصل مسيرة العطاء بأشكال وبصيغ مختلفة ومبتكرة.

ولكنّ الأمر لا يخلو من الصعوبة والحساسية. ذلك أنّ التقاعد مرحلة مستجدّة تتخلّلها فترة بحث عن هوية جديدة، فالنشاط المهنيّ يطبع حياة الإنسان لما يستغرقه من وقت ويستهلكه من جهد. وتتطلّب نهايته تهيئة نفسية واستعدادا ماديا ومعنويا. فتأثيث الحيّز الزمني الجديد الواسع نسبيا ليس بالأمر اليسير بالنسبة إلى الكثيرين. وهو يزداد صعوبة للبعض ممن كانوا يتحمّلون مسؤوليات تكسبهم وجاهة اجتماعية وتجعل منهم محلّ طلب ممّن يحيطون بهم، فكثيرا ما تكون الوضعية صعبة نفسيا مع دخول هواتفهم في فترة «صمت اجتماعي» واضطرارهم إلى الوقوف في طوابير الصناديق الاجتماعية أو في قاعات الانتظار في إدارات كانت تحت إمرتهم...

ولئن اتّسعت الاختيارات لشغل الوقت الواسع المتاح للمتقاعد اليوم من أنشطة أسرية واجتماعية وحتّى مهنية فإنّ المكانة التي يحتلّها من يتقدّمون في السنّ في المجتمع التونسي تشوبها العديد من الظواهر السلبية. لقد تفشّت في مجتمعنا ظاهرة السخرية من الكبر والعجز والتقدّم في السنّ Agisme أمام تنامي ما يمكن أن نسميّه ظاهرة تضخيم «شبابوي» Jeunisme. والأمر مفهوم سوسيولوجيا باعتبار الثقل الاجتماعي والديموغرافي للشباب وجسامة الأعباء والاستحقاقات الاجتماعية والاقتصادية المترتبة عن ذلك، وباعتبار ظاهرة «الاحتكار الجيلي» التي يعاني منها «القادمون الجدد» les nouveaux venus والتي يمارسها عليهم الذين «وصلوا بعد» les déja arrivés على حدّ تعبير «بورديو». ولكنّ ما يسترعي الانتباه هو استفحال مظاهر الاستهزاء وانتشارها على وسائل التواصل الالكتروني وتكريسها من قبل النخب السياسية كورقة انتخابية، وذلك أمر يطال منظومة القيم الاجتماعية التي تشدّ المجتمع بعضه إلى بعض، ويسئ إلى الشباب أكثر ممّا يخدمه. ذلك أنّ الشباب داخل حقل السياسة ليس بمأمن من نزعات التوظيف والتجنيد، ولطالما كان وقودا لمعارك من هم أكبر سنا وأصلا تجاريا بيد محترفي التعبئة... لقد راهنت قوّى السياسة على تطلّعات الشباب ومعاناته واستثمرت في نفس الوقت فيما لحق المتقاعدين من غبن واستنجدت بخزّانهم الانتخابي.

لقد ثبت عند علماء الاجتماع والمؤرّخين من ابن خلدون مرورا بروّاد الفكر الوضعي أنّ تجدّد الأجيال محرّك للتاريخ وعامل دفع لعجلة التقدّم والتطوير. ولكنّهم لم ينفوا صفة التكامل والاستمرارية البنّاءة التي تضمن الإضافة للمكاسب الموجودة، وليس أدلّ على ذلك من قول «كارل مانهايم»: «ليس التلميذ وحده من يتعلّم من المُعلّم بل المُعلّم نفسه يتعلّم من تلميذه»، وتلك قولة تختزل فلسفة تربوية كان من أهمّ واضعيها.

من هذا المنظور حريّ بمجتمعنا أن يحافظ على علاقات سليمة بين الأجيال وأن يتحمّل مسؤوليته التربوية في تكريسها والنهوض بها من أجل «تضامن جيلي» يتقدّم بالمجتمع إلى الأمام. فالمتقاعد فاعل اجتماعي فعلي بإمكانه مساندة الطاقة الشبابية الخلاقة والمبتكرة بالخبرة والدربة والمران، دون احتكار أو استصغار. لقد ولّى عهد «التقاعد الانسحابي» la retraite retrait الذي كان يهدر إمكانات كثيرة في سياق انكفاء المتقاعد وتواريه في إطار ما يسمّى la déprise أي الاستسلام للفراغ واستهلاك ما تبقّى من العمر انتظارا وحنينا ونظرا في المرآة العاكسة..

تتربص بمجتمعنا نزعات التّفرقة والتّفكيك والطريق إلى الانهيار يمرّ بالتنازع بين الأجيال وبين أبناء الأسرة الواحدة، وأمام القيادات والمؤسّسات الاجتماعية مسؤولية جسيمة ألا وهي إعادة ابتكار اللُّحمة الاجتماعية على أسس التماسك والتواصل والتفاعل.

منجي الزيدي
أستاذ تعليم عال بجامعة تونس

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.