عودة روسيا إلى المتوسّط ونهاية القطبيّة الأحاديّة

عودة روسيا إلى المتوسّط ونهاية القطبيّة الأحاديّة

تتجلّى عودة روسيا إلى منطقة البحر الأبيض المتوسّط أساسا في تطوّرات الأزمة السّوريّة وتدخّل هذا البلد بقوّة السّلاح لتغيير مجرى الأحداث فيها في سبتمبر 2015،ومع تواتر تحرّكات البحريّة الروسيّة في مياه المتوسط منذ 2008 وتكثيف النّشاط الدبلوماسي الرّوسي لمنع التدخل العسكري الفرنسي – الأمريكي في سوريا بدأ الحديث في تقارير المحلّلين عن عودة روسيا إلى المتوسط. هذه العودة تجعلنا نستحضر انسحاب روسيا من المنطقة إثر زلزال انهيار الاتّحاد السّوفياتي الذي تلته عشرية التسعينات التي غابت فيها روسيا عن الساحة الدبلوماسيّة والعسكرية في المتوسط وفي الشرق الأوسط على وجه الخصوص .وكانت إحدى البوادر الأولى لاستئناف النشاط الروسي في المنطقة تتمثّل في تعيين الرّئيس الرّوسي بوريس يلتسين للدبلوماسي افغيني بريما كوف في 1996 كوزير للشؤون الخارجيّة تمهيدا لعودة قويّة عل السّاحة.

لكنّ الإعلان الصّريح عن هذه العودة لم يصدر إلاّ بتاريخ 1999 حين أكّد رئيس الوزراء الرّوسي آنذاك Vladimir Poutine، أنّ روسيا أصبحت مؤهّلة لحضور بحري دائم في مياه المتوسط.ويندرج هذا الإعلان صلب سياسة الرّئيس الرّوسي الذي عبّر حال وصوله إلى الحكم عن عزمه على الارتقاء بروسيا من جديد إلى مستوى دولة عظمى، حيث شاهدنا إثر ذلك نشاطا متصاعدا لا فحسب على الصّعيدين الدّبلوماسي والعسكري في المنطقة بل كذلك على المستوى الاقتصادي. ولئن بدا اهتمام روسيا بالمتوسط كبيرا وسخّرت له إمكانيات هامّة إلاّ أنّه لا يشكّل مع ذلك حدثا مبتكرا من النّاحية التاريخيّة، إذ كان المتوسّط في نظر الحكّام الرّوس عبر التّاريخ فضاء اقترن جوهريّا بالرّغبة في فكّ العزلة الجغرافيّة عن روسيا منذ القرن الخامس عشر وكانت للامبراطوريّة الروسيّة طموحات عرقيّة ودينيّة تهدف إلى إقامة دولة «السلاف - الأورطدوكس» تمّ استبدالها لاحقا بالإيديولوجية الشيوعيّة عند قيام الاتحاد السوفياتي. إلاّ أنّ المنظور الجغراسياسي لم تتغيّر أهدافه الأساسيّة خلال الثلاثة قرون الماضية، وهي إضافة إلى فكّ العزلة الجغرافيّة، النّفاذ إلى البحر الأبيض المتوسّط ومن ثمّ إلى الشّرق الأوسط والمحيط الأطلسي. هذا المنفذ الاستراتيجي يبقى اليوم أساسيّا بالنّسبة إلى المصالح الرّوسيّة في المنطقة.

المصالح الروسيّة في منطقة المتوسّط

تتمثّل هذه المصالح في الرّهانات المرتبطة بوضع القوّة العظمى الذي تطمح إليه روسيا، وفي المصالح الأمنيّة والاقتصاديّة. أمّا بخصوص الرّهانات المرتبطة بوضع القوّة العظمى فإنّ وصول فلاديمير بوتين إلى الحكم كان عاملا أساسيّا في استئناف السياسة الروسيّة المتوسطيّة بأبعادها الثلاثة: الدبلوماسي والاقتصادي والعسكري. وقد أضفت موسكو على المتوسّط منذ 2001 صفة المنطقة الاستراتيجيّة ضمن عقيدتها البحريّة كما هو الحال بالنّسبة إلى البلطيق والبحر الأسود وبحر «أزوف». وتشير نفس العقيدة إلى رغبة موسكو في التشجيع على إقامة منطقة استقرار سياسي - عسكري وحسن جوار في هذا الفضاء. وترمي روسيا من وراء هذا الطّرح إلى الحضور بقوّة في هذه المنطقة الاسـتراتيجيّة وهــو ما لا يتنافى مع إرث الإمبراطوريّة الرّوسية والاتّحاد السّوفياتي. هكذا يصبح المتوسّط فضاء للتّنافس مع القوّة الأعظم حيث دافعت موسكو منذ التّسعينات عن نظام عالمي متعدّد الأقطاب يضع حدّا للقطبيّة الأحاديّة ولسياسة التدخّل الغربي الذي تفاقم منذ ذلك التّاريخ (كوسوفو 1999، العراق 2003، ليبيا 2011، سوريا حاليا).

ومع إدراك روسيا لمحدوديّة قوّتها العسكريّة والاقتصاديّة وتشبّثها بضرورة الرّجوع إلى مجلس الأمن الدّولي في قضايا السّلم والأمن لإحباط ما أسماه Sergueï Lavrov وزير الخارجيّة الرّوسي بصفقات تغيير الأنظمة فإنّها تسعى إلى إحداث توازن قوّى بين الشرق والغرب يسمح بتعطيل السياسات الأحاديّة التعسّفيّة وبتحجيم النّفوذ الغربي الذي سُخّرت له نظريّات ومفاهيم جديدة مثل «مسؤوليّة الحماية» (R2P) التي تتيح التدخّل في شؤون الدّول. وتبرّر موسكو حضـورها في المتوسّـط في تـصـريح لـ Sergueï Lavrov بتاريخ 2013 قال فيه: «إنّ حضور روسيا في البحر الأبيض المتوسط يشكّل عامل استقرار بالنّسبة إلى المنطقة. وترى موسكو أنّ مفهوم «مسؤوليّة الحماية» الذي اعتمده الغرب انقلب إلى «عقاب» للشّعوب وأنّ التدخّل الغربي في عديد الأزمات لم يؤدّ إلى حلّها».

وبخصوص المصالح الأمنيّة لروسيا يجدر التّذكير بالجولة التي قام بها ايفغين بريماكوف وزير الخارجية الروسية في الشّرق الأوسط سنة 1996 والتي أكّد فيها أنّ المتوسط يوفّر لروسيا منفذا مباشرا لمنطقة الشرق الأوسط الاستراتيجية التي تقابلها الواجهة الجنوبية الرّوسية غير المستقرّة. وإنّ أيّ شكل من أشكال عدم الاستقرار في الشرق الأوسط يمكن أن يجد له صدى في هذه الخاصرة الرّخوة لروسيا. لذلك حظيت أحداث ما يسمّى بالرّبيع العربي جنوب المتوسّط منذ 2011 باهتمام كبير من قبل موسكو التي نظرت إليها بحذر وتخوّفت من أن تمتدّ موجة الإسلام الراديكالي عبر الشرق الأوسط إلى القوقاز الذي يعاني أصلا من عدم الاستقرار. ولموسكو قراءة خاصّة للثّورات الشعبيّة منذ ان اندلعت في بلدان جنوب المتوسّط حيث تحمّل بعض البلدان الخليجيّة جزءا كبيرا من مسؤوليّة هذه الثّورات وهو ما حدا ببعض الملاحظين الرّوس إلى وصف هذه الظاهرة في بداياتها بـ»الثورة الإسلاميّة الكبرى». ولفهم أسباب هذا الاهتمام الرّوسي بالثورات الشعبيّة العربيّة. يجدر التذكير بأنّ عدد المسلمين الرّوس يناهز الـ20 مليونا وهم يشكّلون مجموعة دينيّة كبرى في الفدراليّة ويتواجدون أساسا بمنطقتي القوقاز والفولغا أورال، لذلك يشكل تردّي الأوضاع في سوريا غير البعيدة عن القوقاز خطرا على الأمن الرّوسي وتشير الإحصائيات إلى أنّ عدد الرّوس الذين التحقوا بجبهات القتال في سوريا يناهز 2400 مقاتل تتوجّس روسيا من عودتهم واستعمال خبراتهم لدعم التمرّد في القوقاز وتعمل على التأثير في موازين القوّى في الشرق الأوسط بتوظيف الهلال الشيعي الذي يمتدّ من إيران إلى سوريا ولبنان عبر العراق ويشكّل منطقة عازلة معادية للعناصر السنيّة المتطرّفة المدعومة حسب موسكو إيديولوجيّا وماديّا من داخل منطقة الخليج.

كذلك لم تغب المصالح الاقتصاديّة عن اهتمامات السّياسة الخارجيّة الروسيّة، ويذكر أنّ الرّئيس بوتين قام بجولة في الشّرق الأوسط في أفريل 2005 رافقه خلالها مدير الشركة المصنّعة لطائرات MIG الحربيّة ومدير الوكالة الفيدراليّة لتصدير الأسلحة لكنّه في زيارته إلى المنطقة في 2007 حرص على أن يكون مرفوقا بوفد هامّ من رجال الأعمال الممثّلين لشركـات كبرى مثل Rosatom (طاقة نوويّة) وRoussal (المنيوم) والشركة الماليّة Sistema وLoukoil وGazprom (النفط والغاز) وRZD (سكك الحديد).

وفي جـوان 2009 زار الرئيـس Dmitri Medvedev مصـر ومعه وفد يتكوّن من 400 رجـل أعمـال مـن ضمنـهـم Boris Ivanov مديـر Gazprom International وSergei Kirienko رئيس Rosatom وهـو ما يؤكّد بوضوح توظيف السياسة الخارجية الروسيّة لقطاعين أساسيّين في الاقتصاد الروسي هما صناعة السّلاح وقطاع الطاقة لتعزيز الحضور الروسي في المنطقة. وتعدّ روسيا من أكبر المصدّرين للسّلاح في العالم إذ حققت Rosoboron Export (الوكالة الفيدراليّة لتصدير الأسلحة)، مبيعات ناهزت 13 مليار دولار في 2016، وتلقّت طلبات تقدّر بـ38 مليار دولار أي ما يقارب ثلاثة أضعاف صادراتها في 2016 ولم تكن صناعة السّلاح الروسيّة لتنجو من الإفلاس في تسعينات القرن الماضي لولا صادراتها.

وقد ورثت روسيا عن الاتّحاد السوفياتي علاقات وطيدة في مجال التعاون العسكري والفنّي مع عديد البلدان في الضفة الجنوبية للمتوسط أهمّها الجزائر. ويعدّ بيع الأسلحة الرّوسية لبلدان الشرق الأوسط عامل ضغط وتأثير سياسي واقتصادي في منطقة تتميّز بعدم الاستقرار.

كذلك تعد روسيا قوّة كبرى في مجال الطاقة حيث تحتلّ مبيعات الغاز والنّفط ما يقارب %50 في الميزانيّة الفيدرالية و10% من الدّخل القومي الخام. ويلعب المتوسّط دورا أساسيا في هذا المجال إذ يشكّل الرواق الذي يمرّ منه القسط الأوفر من الغاز الروسي باتجاه أوروبا، الحريف الأوّل لروسيا. وقد تزايدت مخاوف روسيا من إمكانيّة سقوط النّظام السّوري بعد الإعلان عن اكتشاف مخزون كبير من الغاز في عرض السّواحل الشرقيّة للمتوسّط (قبرص، إسرائيل، مصر) إذ سيؤدّي ذلك حتما إلى بروز معادلة جديدة للطاقة في المنطقة قد يستثني المصالح الروسيّة. وهو ما يفسّر الموقف الحازم الذي اتّخذته موسكو إزاء الملف السّوري واستماتت في الدّفاع عنه.

ويذكر أنّ الرّئيس بشار الأسد رفض سنة 2009 إبرام اتفاق مع قطر لإنجاز مشروع قناة تضخّ الغاز القطري باتجاه المتوسّط والسّوق الأوروبيّة عبر المملكة العربيّة السعوديّة والأردن فسوريا مع إمكانيّة إيصال الغاز كذلك إلى تركيا. ويندرج رفض دمشق لهذا المشروع في إطار الرّهانات الاقتصاديّة والسياسيّة في المنطقة ومن منطلق العلاقة الوطيدة مع روسيا وإيران اللّتين تعدّان منافستين لقطر في مجال الطاقة بالتحديد إلى جانب الخلافات السياسيّة الجوهريّة المتعلّقة بالصّراع في سوريا.

حماية المصالح الروسيّة وعودة الأسطول البحري الرّوسي إلى المتوسّط

يجدر التذكير هنا بأنّ العقيدة البحريّة الروسية التي تمّ اعتمادها سنة 2001  تنصّ على اعتزام موسكو اتخاذ كافة الإجراءات الضرورية لضمان حضور البحرية الروسية على «المسرح المتوسطي» لأمد طويل. هذه العقيدة كما أشار إليها بوتين عندما كان رئيسا للوزراء في 1999 تهدف إلى تطوير المصالح الرّوسية وحمايتها أينما وجدت.

والملاحظ أنّ نشاط البحرية الروسية قد تزايد كثيرا خلال العشرية الماضية حيث دأب الكرملين منذ 2008 على إرسال مجموعة بحريّة كلّ سنة إلى المتوسّط تتصدّرها حاملة الطائرات الوحيدة الأميرال Kouznetsov وقد ساهمت الأزمة السوريّة في تسريع وتيرة الحضور البحري الرّوسي في المنطقة. واختارت موسكو في جانفي 2013 شرق المتوسط لتنظيم أكبر التمارين البحريّة التي قامت بها روسيا في المنطقة وبدا الحديث بمثابة التمهيد لنشر مجموعة دائمة تمّ الإعلان عنها لاحقا وتعدّ عشر قطع يتمّ نقلها من البحر الأسود وتكون مهمّتها حماية المصالح الروسيّة في حوض المتوسط وكذلك في البحر الأحمر والقرن الإفريقي.

وفي سبتمبر 2013 عندما كانت الولايات المتّحدة الأمريكيّة وفرنسا تتهيّآن للقيام بضربات في سوريا عدلتا عنها لاحقا، بلغ تجمّع القطع البحريّة الروسيّة في المتوسط إحدى عشر قطعة تمّ جلبها من الأساطيل البحرية الروسية في البلطيق والبحر الأسود والمحيط الهادي وهو أكبر تجمّع لقطع بحريّة روسيّة على المسرح المتوسّطي منذ سقوط الاتّحاد السّوفياتي. هذا الحضور البحري المتزايد لا يقتصر رغم ذلك على المتوسّط بل يمتدّ إلى المحيط الأطلسي والمحيط الهادي إذ نظمت روسيا تمارين بحريّة مع أستراليا في السّنوات الأخيرة وفي المحيط الهندي حيث تشارك موسكو في المهمّة الدوليّة لمكافحة القرصنة وفي القطب الشمالي من خلال دوريّات على طريق الشمال. وتحتفظ روسيا بما يقارب ثمانين بارجة حربيّة في المياه العالميّة، لكن الأسطول الحربي الرّوسي يواجه تحدّيات عديدة أهمّها تقادم القطع الحربيّة التي يناهز معدّل عمرها 30 سنة وضعف الدّعم اللوجستي، لذلك أعدّت روسيا برنامجا للفترة ما بين 2011 - 2020 يسمح بتجديد الأسطول ويمكّن ترسانة البحر الأسود التي ترجع إليها قطع المتوسّط بالنّظر من الحصول على ما يقارب الخمس عشرة قطعة. أمّا بخصوص التحدّي اللّوجستي فتجدر الإشارة إلى أهميّة ضمّ شبه جزيرة القرم الأكرانيّة الاستراتيجيّة إلى روسيا في مارس 2014 وتأمين القاعدة البحريّة الروسيّة بمدينة Sébastopol حيث يشكّل ذلك أوّل مرحلة وأهمّ لبنة في سلسلة المواقع التي ستحتلّها روسيا لاحقا في المتوسط.

وفي هذا الإطار تعتزم روسيا تطوير ميناء طرطوس السّوري بصفته نقطة الارتكاز البحريّة الوحيدة في المتوسّط للبوارج الروسيّة بغرض إنشاء قاعدة بحريّة بحلول 2020، كما تعتزم تحسين البنى التحتيّة في اللاذقيّة (سوريا) حيث تطوّر روسيا قاعدة جويّة تعتبر المنفذ العسكري الثاني لها بالمنطقة. إضافة إلى ذلك أشار وزير الدّفاع الرّوسي في بيان له حول التسهيلات اللّوجستيّة إلى إمكانيّة اعتماد الوحدات البحريّة الروسيّة في المتوسّط على موانئ اليونان وقبرص والجبل الأسود لتقديم خدمات في هذا المجال. وقد تكون روسيا حققت أكثر من ذلك في علاقاتها الثنائيّة بدول المنطقة.

العلاقات الثنائيّة مع دول المنطقة

ما أنجزته الدّبلوماسيّة الرّوسيّة في علاقاتها مع دول المنطقة جدير بالإعجاب والتّقدير. فقد نجحت ولو بشروط في استمالة تركيا إلى صفّها في الملفّ السّوري الشّائك بعد أن كانت مناهضة تماما لموقفها الدّاعم للنّظام السّوري. بعد رسالة الاعتذار التي وجّهها أردوغان إلى بوتين إثر حادثة إسقاط الطائرة الرّوسيّة في 2015 رجعت العلاقات إلى نصابها بين البلدين. هذا التطوّر والرّغبة التركيّة في استئناف التّعامل مع روسيا لأنّها حسب أردوغان «تعدّ الطرف الأهمّ في محاولة إحلال السّلام في سوريا» أدّيا إلى قمّة St.Petersburg بتاريخ 9 أوت 2016 حيث واصل الطرفان المداولات حول الملفّ السّوري واتفقا على صيغة التّعاون الثلاثي الذي يجمعهما كذلك بإيران وهو ما يؤسّس لشبه تحالف تلعب فيه روسيا الدّورالأبرز.

ومرّة أخرى توظّف موسكو خبرتها في مجال الصّناعات العسكريّة لتعزيز حضورها، من ذلك أنّ الطرفين اتفقا على تجهيز تركيا بأحدث نظام صاروخي تركي (S-400) وهي بادرة أولى من نوعها لعضو في الحلف الأطلسي يستعمل السّلاح الغربي ويلتزم نظريّا بعقيدة الحلف وتوجد على أرضه قواعد عسكريّة. هذا التطوّر الخطير وترّ العلاقات بين الولايات المتّحدة وتركيا وأثار عديد التساؤلات حول مستقبل عضويّة تركيا في الحلف. وقد صرّح نائب وزير  الصّناعات العسكريّة التركي إسماعيل دمير في هذا الإطار بأنّ تركيا «رغبت في التّعاون مع أعضاء الحلف الأطلسي، لكنّ النتائج لم تكن مرضيّة. ومن الضّروري أن تطوّر تركيا نظامها الدّفاعي الخاصّ بالتّعاون مع دول أخرى» إضافة إلى ذلك اتّفق الطرفان على إنجاز مشروع الغاز Turkish Stream والمشروع الاستراتيجي الخاصّ بإنشاء محطّة للطاقة النّوويّة في تركيا.

وفي قبرص أشار أحد الصّحفيّين إلى حدث غيّر حسب رأيه الواقع الجغراسياسي في حوض المتوسّط وأدّى إلى تصدّع في صلب الاتحاد الأوروبي لكنّه في نفس الوقت برهن على تفوّق أسلوب وفاعليّة الدّبلوماسيّة الرّوسيّة. يتعلّق الحدث بتمكين البوارج الروسيّة من استعمال الموانئ القبرصيّة وتخزين التّجهيزات والموارد الضروريّة فيها بغرض التعهّد والإصلاح. هذا الاتّفاق الذي أبرمه الرّئيس القبرصي ضمن جملة من الاتّفاقيات الأخرى خلال زيارة لموسكو في نهاية شهر فيفري 2015 يضمن الحضور التكتيكي للأسطول الرّوسي في عدّة مسارح عمليّاتيّة متوتّرة. مرّة أخرى تسجّل روسيا نجاحا دبلوماسيّا في عقر دار الاتّحاد الأوروبي والحلف الأطلسي ناهيك عن تحوّل قبرص إلى جنّة ضريبيّة لرؤوس الأموال الرّوسيّة المهرّبة التي بلغ حجمها 43 مليار أورو في 2012.

وبخصوص مصر، فقد اغتنمت موسكو الفراغ السياسي الذي تركته الدّبلوماسيّة الغربيّة في هذا البلد للرّجوع بقوّة على السّاحة المصريّة وتطوير تعاونها مع أكبر بلد عربي في المجال الأمني والعسكري على وجه الخصوص. وبعد أن أبرمت صفقات هامّة معها في 2015 لتزويدها بالسّلاح بلغت 5 مليار أورو ولتعصير صناعتها العسكريّة، دخلت موسكو في مفاوضات مع المسؤولين المصريّين لتسخير قواعد عسكريّة مصريّة خاصّة منها القاعدة البحريّة والجويّة بسيدي برّاني. هذا التّقارب وجد  صدى إيجابيّا على الصّعيد الدّبلوماسي حيث يلاحظ تطابق رؤى بين البلدين حول ملفّي سوريا وليبيا (دعم المشير حفتر). وفي ليبيا يتردّد في الدّوائر الإعلاميّة أنّ الرّئيس بوتين سيجعل من ليبيا أولويّة بعد الملفّ السّوري. يأتي هذا بعد اللّقاء الذي تمّ بين المشير خليفة حفتر وضباط روس على متن حاملة الطائرات Amiral Kouznetsov يوم 11 جانفي 2017 في عرض ساحل طبرق والحديث الذي تمّ بنفس المناسبة مع وزير الدّفاع الرّوسي سرغاي شويغو.

وقد اتّفق الطرفان إثر ذلك على إعادة تنشيط التّعاون الفنّي العسكري الذي كان قائما قبل سقوط القذافي. وتجري حاليّا مفاوضات لاقتناء أسلحة بقيمة مليار ونصف أورو تتمثّل في طائرات حربيّة ودبابات وأنظمة دفاع جوّي لإعادة هيكلة الجيش اللّيبي. مقابل ذلك يترغب موسكو في الحصول على تسهيلات لأسطورها البحري وهو ما سيمكّنها من موطئ قدم في غرب المتوسّط يدعّم حضورها في سوريا وقبرص ومصر. أمّا الجزائر فتبقى شريكا تقليديّا واستراتيجيّا لموسكو وقد صرّح بوتين في 2008 عند استقباله الرّئيس بوتفليقة أنّ «الجزائر تعدّ الحليف الأساسي لروسيا لا فحسب في شمال إفريقيا لكن كذلك في كامل الحوض المتوسّطي». وقد تحصّلت الجزائر في السّنوات الأخيرة على أكثر الأسلحة الرّوسيّة تطوّرا (S-300- SU-34) وتواصل التعويل أساسا على السّلاح الرّوسي لتجهيز جيشها حيث تخصّص مبالغ مرتفعة لهذا الغرض. وتشير الإحصائيات إلى ارتفاع الاعتمادات لتصل إلى 16 مليار دولار إلى موفّى العشرينات من هذا القرن.

وبخصوص المغرب، فإنّ التّعاون العسكري مع روسيا يعدّ حديث العهد حيث انطلق في سبتمبر 2013 مع انعقاد أوّل لجنة فنّية، وقد اقتنى المغرب دبابات من طراز T72 ومنظومات دفاع جوّي من نوع  Tunguskaلتنويع مصادر تزويده بالسّلاح والانفتاح أكثر على السّوق الروسيّة. وعبّر المغرب كذلك عن رغبته في اقتناء منظومات من المضادّات الجويّة الروسيّة مع إمكانيّة التزوّد كذلك بغوّاصات روسيّة من نوع Lada. وتجدر الإشارة أيضا إلى إعلان الشراكة الاستراتيجيّة المعمّقة بين البلدين الذي تمّ بتاريخ 16 مارس 2016 خلال زيارة الملك محمد السادس إلى موسكو.

هذه النّجاحات التي حقّقتها روسيا في المنطقة تجعل منها رقما صعبا وشريكا أساسيّا في حلّ النّزاعات في المنطقة. ولم تكن عودة روسيا إلى المنطقة المتوسّطيّة لتتحقّق بهذه السّرعة لولا الحنكة الدّبلوماسيّة والتوظيف الأمثل للترسانة العسكريّة الرّوسيّة.

رجل الدّولة الألماني الشهير فون بيزمارك قال يوما: «الدّبلوماسيّة بدون قوّة كالموسيقى بدون آلات موسيقيّة». وقد نجحت موسكو في استخلاص العبرة من هذه المقولة بتوظيف قوّتها العسكريّة لتحقيق أكبر النّجاحات الدّبلوماسيّة.

أصبحت روسيا بحكم عودتها اليوم إلى مربّع الدّول الفاعلة على الصّعيد الإقليمي مرشّحة للعب دور أساسي في إرساء النّظام العالمي المتعدّد الأقطاب الذي تطمح إليه إلى جانب دول كبرى أخرى كالصّين والهند والبرازيل... وهو ما من شأنه أن يعدّل العلاقات الدّوليّة ويضع حدّا لنظام القطب الواحد الجائر.

محمد لسير

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.