عامر بوعزّة: لماذا اختـار التـونسيــون قيــس سعــيّــد؟
بفوز قيس سعيّد في الانتخابات الرئاسية تكون تونس قد حقّقت قفزة عملاقة في سياق الانتقال الديمقراطي، لا يتعلّق الأمر فقط بالتداول السّلمي على السلطة، أو بنزاهة الانتخابات وشفافيتها، بل بالفرص التي توفّرها الديمقراطية لتحقيق الإرادة الشعبية وفرض كلمة الجمهور. فالمرشّح الذي حصد أعلى نسبة أصوات في هذه الانتخابات لا ينتمي إلى أيّ حزب من الأحزاب ولا ينحدر من عائلة إيديولوجية بعينها »في الظاهر« ولا تُعرف له مسيرة سياسية يمكن أن تمنحه »شرعية نضالية« لطالما اعتُبِرت شرطَ وجودٍ في ساحة السّلطة.
إصرارُ قيس سعيّد على استقلاليته الصّورةَ التي يريد أن يحتفظ بها لنفسه، صورةَ رجل عادي من عامّة الشعب لم يعوّل إلاّ على صناديق الاقتراع للوصول إلى قصر قرطاج. وتعكس هذه الصورةُ نصيبا لا يستهان به من الحقيقة، إذا تجاهلنا كلّ ما يقال عن دور الخوارزميات في صنع الظاهرة وصدّقنا الديمقراطية وحدها. في النهاية لم تعد رئاسة الجمهورية حكرا على فئة دون أخرى من فئات الشعب وطبقاته كما كانت من قبل، ولم يعد أيّ صوت يعلو على صوت الشرعية الانتخابية.
القصّة تقوم على إغواء سردي، فهو أستاذ جامعيّ متقاعد، لا يعرفه الكثيرون إلاّ ضيفا على التلفزيون، يتحدّث في القانون الدستوري، أو يعلّق على الشأن العام بهدوء ورصانة. ولمّا كانت سفينة الدولة تتقاذفها الأمواج العنيفة والرياح العاتية التي تكاد تمزّق نسيج المجتمع، كان يتكلّم بصوت جهوري ورطانة نادرة تلفت أسماع الأجيال الجديدة التي لا تعرف إذاعة صوت العرب في عزّ أمجادها. يتكلّم قيس سعيّد دائما كما الأستاذ في قاعة المحاضرة، بصورة مختلفة عن السائد، ونغمة ناشزة عن الزعيق الذي تقتات منه برامج الحوار السياسي، وهكذا بدأت تتشكّل شيئا فشيئا صورة «الرجل المختلف» الذي يمثّل الحكمة والتعالي عن الانتماء الحزبي وعن الصراعات المصلحية الضيقة، ثم تتالت أفكاره أثناء الحملة الانتخابية عن الديمقراطية التشاركية وعن دور الشعب في التنمية المحلية، عن فلسطين والصراع العربي الصهيوني فتشكّلت صورة «الرجل النظيف» الذي يمثّل حالة استقامة فريدة من نوعها ويحمل أفكارا ومبادئ وقيما يُظنّ دائما أنّها لم تعد ملائمة لعصر الثقافة المعولمة والليبرالية المتوحشة حيث يعتبر الفساد وجهة نظر وأسلوب حياة ونمط تفكير، فأضحى شبيها بأبي العلاء البشري في الدراما الاجتماعية التي قدّم فيها أسامة أنور عكاشة نسخة عربية حديثة من شخصية «دون كيشوت».
يفسّر قيس سعيّد كلّ شيء بشعار «الشّعب يريد»، ويَعِدُ الشّباب الملتفّ حوله والمنبهر به والذي يعتقد أنّه يحمل في حقيبته حلولا سحرية لكلّ معضلات البلاد، بأنّه سيقلب الهرم السياسي رأسا على عقب، ويعفُّ عند المغنم، وأنّ لا حاجة له بمباهج الرئاسة، فيمكنه حتّى البقاء في بيته كأيّ موظف عادي من موظفي الدولة والسير على قدميه في الشارع حتّى وهو رئيس. وتسهم هذه الصورة الملائكية في إلهاب المخيّلة الشعبية مجدّدا بفكرة الثورة على النمط وتحطيم الأنموذج، وتستجيب أيضا لفكرة توزيع البؤس بشكل عادل عندما يستحيل تعميم الرفاه!
ويقول قيس سعيّد عن تجربته: إنّه برفعه شعارَ «الشعب يريد» يعود بالثورة إلى نقطة البداية، ويسترسل في وصف ما يسميه «النقاء الثوري» متمثّلا بما أبداه الشعب التونسي فجر الخامس عشر من جانفي العام 2011 من قدرة على تسيير الشأن العام وانضباط تلقائي للقانون ووعي بأولوية المصلحة العامة وحرص على استمرار الدولة. وهي مبّررات كافية من وجهة نظره للوثوق في قدرة الشعب على تسيير نفسه بنفسه وتحميله أعباء الحكم في تنظيم مجالسي يصعد من المحلّي إلى الجهوي ثم الوطني بشكل تنتهي معه الحاجة إلى الأحزاب السياسية ويزول كلّ القرف الذي خلّفته للناخبين خلال ثماني سنوات من التجربة الديمقراطية.
لكنّ مقولة «الإرادة الشعبية» حين تغادر سياقها الأصلي -سياق الفوضى الثورية- تتّخذ لها مدلولا آخر: قبول جزء من الشعب بإرادة جزء آخر تفوّقَ عليه انتخابيا! فإلى أيّ مدى يمكن أن يعبّر مشروع قيس سعيد عن إرادة الشعب والحال أنّ العوامل التي أفضت إلى فوزه بنسبة عالية من الأصوات في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية قد لا تكون مرتبطة ضرورة بهذا المشروع بل هي إجابة حاسمة عن السؤال الكبير الذي هيمن على المراحل الأخيرة من السباق الرئاسي: هل أنت مع الفساد أم ضدّه؟
لفهم العلاقة المعقّدة بين الجزء والكلّ في إطار «الرؤية الثورية» نقرأ ما كتبه رضا شهاب المكّي الذي يحتلّ موقع «المنظّر» في مشروع قيس سعيّد. وفي مقال نشره موقع «الحوار المتمدّن» بعنوان «هل تمثّل فكرة - الكتلة التاريخية - مخرجا لتعطّل الثورة التونسية؟» العام 2015 صاغ الكاتب المعروف في الأوساط اليسارية باسم «لينين» «دستورا صغيرا» يتضمّن ثلاثين نقطة تتدرّج من التوصيف النوعي للأزمة السياسية والاجتماعية التي تعيشها البلاد حتّى تصل إلى فكرة الحكم المجالسي الصاعد من المحلّي إلى المركزي وفي هذا المقال المرجعي نعثر على أهمّ المقولات التي يستخدمها قيس سعيّد باستمرار في تفسير مشروعه.
ينطلق التوصيف من أنّ مجتمع ما بعد الثورة لم يتخلّص من هيمنة فكر الجزء على الكلّ الذي يتشكّل داخله. حيث يحافظ كلّ جزء على أحقيته وأولويته وشرعيته التاريخية وهذا ما أدّى إلى التباين في تحديد أولويات المرحلة، بين مفاهيم مختلفة على غرار «الوحدة الوطنية» و«عودة الاستقرار» و«الحرية السياسية» و«الخوف من عودة الاستبداد»، وأدّى تنافر المصالح إلى استحالة تشكّل وطني واسع قادر على الفعل والانتقال النوعي الى مرحلة جديدة تستوعب استحقاقات الثورة وشعاراتها. ولذلك يعتبر المكّي أنّ النخب السياسية ألزمت الطبقات الأكثر تضرّرا من النظام القديم بسقف مطالب فئات من البورجوازية الصغيرة أقلّ تضرّرا، حيث اتفقت على تحقيق «الانتقال الديمقراطي». ولذلك يقترح مشروع «الانتقال الثوري» نحو مجتمع ودولة جديدين بعد أن بدأ المجتمع القديم ودولته القديمة يفقدان شروط استمرارهما التاريخي، هذا المشروع لن يكون في حاجة إلى جدل الهوية، وجدل الأحزاب اليمينية واليسارية والطليعية والانتخابية لأن هذا الجدل لا يعكس الا مصالح ذاتية متقوقعة.
هذا التصوّر اعتمده قيس سعيّد حرفيا، والنقطة الثلاثون التي ينتهي إليها هي التعريف الاصطلاحي لشعار «الشعب يريد» إذ يقول: «إنّ إعادة التشكّل السياسي للدولة من الأسفل نحو الأعلى لكفيل لوحده بضمان الوجود الفعلي للشعب في سلطات القرار أثناء صياغة السياسات وأثناء ممارسة تلك السياسات».
هل يعني هذا المشروع أنّ قيس سعيّد ينتمي فكريا إلى أقصى اليسار العلماني ويتبنّى رؤية ماركسية متطرفة؟ ففكرة إعادة التشكيل السياسي للدولة تنطلق من أنّ المجتمع الذي ننتمي إليه الآن هو «مجتمع بورجوازي لا يمثّل فيه الفرد في علاقته بالآخرين إلاّ وسيلة لتحقيق مصلحة خاصّة»، ويريد هذا المشروع الانتقال بالفئات الأكثر تضرّرا في هذا المجتمع إلى موقع محوري عبر تخليص الدولة من مركزية الحكم والقرار وإعادة بنائها على قاعدة تقاسم السلطات الأصلية بين المحليات والجهات والمركز، ما يُمكّن من القطع مع تسلّط النخب. في هذا المستوى ينزاح قيس سعيّد قليلا عن موقع «زعيم الصفّ الثوري» ليقترب من موقع المصلح السياسي تحت شعار «ليطمئن الجميع»، فمشروعه لن يلغي اقتصاد السوق، بل سيتصدّى للمضاربة والاحتكار والتهريب والتهرّب (مكافحة الفساد)، وفي نفس الوقت لن يقبل بهيمنة اقتصاد السوق وحده وسيعمل على تطوير «أنماط جديدة لإنتاج الثروة وتخزينها وتوزيعها واستهلاكها تنبني على التعاقد والتضامن والتشارك والتقاسم». لكن هذا المشروع منذ منطلقاته النظرية ينطوي على قدر من العنف لا يتحمّله السّياق المحلّي ففي خاتمة نصّ رضا المكي وتعليقا على التمثيلية النيابية (كما هو الوضع راهنا) يقول إنّ الشعب المحكوم بالوكالة لا يقبل بأيّ نوع من أنواع التضحية لفقدانه الثقة في الذين أوكلوا لأنفسهم تمثيله، وهذا الشعب «إذا فرض عليه القبول بالتضحية فسيسقط ضحايا من هنا وهناك».
قدّم قيس سعيّد مشروعه حول الحكم المحلّي والديمقراطية التشاركية في سياق انتخابي مصرّا حتى اللحظات الأخيرة على استخدام عبارة «تفسير» في وصف ما يقوم به أنصاره ومريدوه الذين يمثّلون في الغالب الشباب المثقّف والفئات المهمّشة والجهات المحرومة، وهذه الصيغة تضفي على النظرية طابع «الحلّ السحري» وتعزّز فكرة «المخلّص» وتجعلها خارج مدار النقد والتنسيب، ما قد يبرّر العنف اللفظي الذي ضجّت به صفحات الفايسبوك انتصارا لقيس سعيّد ما جعله يتنصّل علانية من أيّ ارتباط بفضاءات التواصل الاجتماعي، كما قد تبرّر الشكوك الكبيرة حول دور الغرف الخلفية المظلمة التي قد تكون المتحكّم الفعلي في إرادة الناخبين وفي صنع الظاهرة وابتكار رمز على مقاس المرحلـة ينـاسب التوازنات الحزبية الجديدة ولا يهدّدها فعليا.
يعتبر البعض مقاربة الحكم المحلّي التي يتبنّاها قيس سعيد «مقاربة قانونية تفتقر إلى البعد السوسيولوجي» (مقال العروسي العمري في الموقع الالكتروني ليدرز: هل لقيس سعيّد برنامج؟) ويمكن معاينة هذا بوضوح في «المسكوت عنه» حيث تتحدّث النظرية عن تمكين الشباب في الجهات الداخلية من الأدوات القانونية لممارسة الحكم المحلي وتخطيط التصورات التنموية الملائمة لواقعه ورفعها تصاعديا إلى المركز عبر مجالس جهوية وربما إقليمية، لكن لا تتحدث عن مصادر الثروة وعن تمويل الخطط، وهل للحكم المحلي في صيغته المقترحة علاقة بالمطالب التي رُفعت سابقا حول أحقيّة الجهات باحتكار ثرواتها الطبيعية؟
ويتقاطع هذا المسكوت عنه مع الأفكار التي ترفعها قائمات انتخابية يمينية عن الثروات المنهوبة والسيادة الوطنية واستقلالية القرار السياسي والاقتصادي والتي تعزّز بشكل ما «الثقافة الريعية». كما لا يتحدّث المشروع عن السلطة التنفيذية وعمّا إذا كانت المجالس المحلية استشارية أم سلطة قرار، بما يفسح المجال لمنتقدي المشروع باستحضار نموذج اللجان الشعبية في الجماهيرية العربية الليبية تحت حكم العقيد معمر القذافي، وهو ما نفاه قيس سعيّد دون أن يقدم إيضاحات حول تصوره لموقع الإدارة السياسية بشكلها الراهن في نظام الحكم المجالسي.
كما إنّ عودة قيس سعيّد أثناء تفسيره مشروع الحكم المحلّي إلى اللحظات الأولى من الثورة تبدو انتقائية لا تريد أن ترى إلاّ الصورة الملائكية الساذجة لشعب «احترم من تلقاء نفسه وفي غياب الدولة إشارات المرور ووقف بانضباط في الطوابير لاقتناء حاجياته من المواد الغذائية» وهذه الصورة صنعها الإعلام لتبرير شعار «ثورة الياسمين» ونفي شبهة «الفوضى الخلاّقة» عن «الربيع العربي» وهو في خطواته الأولى. بينما يعرف الجميع أنّ تلك اللحظة كانت أيضا لحظة مليئة بالعدوانية وأنّ المجتمع التونسي يعاني اليوم من ارتفاع منسوب العنف وتقلّص مساحة الأمان، كما إنّ نظرية الحكم التشاركي المحلّي عبر مجالس قاعدية منتخبــة تسكـت عن مسألة التماسك الاجتماعي وعودة الصراعات العـروشية والجهـوية في غياب الواعز الإيـــديــولوجي والانتماء الحزبي.
لكنّ السباق الرئاسي في مراحله الأخيرة، وخصوصا إثر المناظرة التاريخية التي جمعت بين المرشّحين، أفضت إلى تراجع مكانة المشروع السياسي في خطاب قيس سعيّد وتقدّم المشروع القيمي، فالعامل الحاسم في اختياره هو ما بدا في خطابه من مبدئية وثبات أخلاقي أمّا أسلوبه في ممارسة وظيفة رئيس الجمهورية فيتّسم بما يمكن تسميته بخطاب الثقة والطمأنينة الذي تضمنه أول تصريح له بعد صدور النتائج الأولية، حيث جدّد التأكيد على التزامه التام بالحفاظ على الوحدة الوطنية وتقريب أبناء الوطن الواحد بعضهم من بعض وإعطاء الشباب كامل دوره في استشراف المستقبل والانصهار في الحياة الاقتصادية، قائلا: « سأكون الأذن الصاغية لكلّ مقهور واليد المعينة لكل ضعيف والأسد الحامي لكل ضعيف كما سأكون أوّل دافع للاستثمار والابتكار والخلق والإبداع». وبهذا المعنى تبدو دعوة قيس سعيّد في أوّل تصريح له إلى جمهورية ثالثة تعلي قيمة العمل والحرية والقانون، خطوة مهمّة لتنزيل أفكاره في سياق التجربة الديمقراطية والواقع الاجتمـاعي والتاريخ السياسي للـدولة الوطنية من أجل مشروع استراتيجي جــامـع ينبذ التطرّف والإقصاء ويجعل المسؤولية والالتزام أساس التشارك بين المواطنين.
عامر بوعزّة
- اكتب تعليق
- تعليق