عادل الأحمر: هـاجـت عليه الحـملة!

عادل الأحمر: هـاجـت عليه الحـملة!

العيّاش قال: كنت أمام التلفاز أشاهد المترشّحين للرئاسية، وقد اصطفّوا وقوفا من أجل مناظرة تلفزية، كأنّهم في امتحان، يكرم فيه المرء أو يهان، فإذا بطرق قويّ على الباب يقطع أنفاسي، ويخرجني من صراعي مع النعاس.

فتحت الباب، فإذا به واحد من الأحباب، قادم عليّ بدعوة رسمية، لحضور سهرة انتخابية، ينظّمها أحد المترشحين الكبار، فاعتذرت له أشدّ الاعتذار، وقلت : «إذا كانت سهراتهم الانتخابية مثل مناظراتهم التلفزية، فإنّي بصراحة أخيّر عليها شيشة وكاس تاي أحمر بالكاكاوية»، فقال صاحبي : «إلى متى يا عياش ستتهّرب من السياسة؟ إنّك مهما فعلت ستلحقك، بالقوّة وإلا بالسياسة»، فقلت : «ليس الذنب ذنبي أنا المسكين، بل مسؤولية السياسيين، الذين لا يملكون أن يشدّوا انتباه الناس لمدّة دقيقة، فكيف لهم أن يخطبوا ساعة وبلغة طليقة ؟». قال صاحبي : «دع عنك هذه الأفكار المسبّقة، فليس الخطاب في الناس مباشرة مثل الحديث في التلفزة».

ولمّا لم أجد فائدة من النقاش وتشييح ريقي، تحاملت على نفسي وقبلت دعوة صديقي، فإذا به يأخذني إلى قاعة حفلات زيّنت بأبهى الألوان، وكأنّها تستعدّ لقبول عرسان، وقد وقف المستقبلون بالباب، وكأنّهم أصحاب الفرح يرحّبون بالأقارب والأحباب. ولفت نظري قرب قاعة الاجتماعات، اصطفاف مجموعة من الحافلات، أخذ ينزل منها شباب يحملون الأعلام والرايات، وهم يردّدون الشعارات تلو الشعارات، في تمجيد المترشّح العتيد، ورأيه السديد، يصاحبهم المزود والبندير، وجوّ كبير!.

وانتبهت إلى أنّ الشبان، وهم ينزلون من الحافلات، يتسلّمون من شخص في استقبالهم أكياسا وزجاجات، فاستغربت من الأمر، وسألت صديقي عن السرّ، فقال لي: «ليس في الأمر سر ودعك من الغباء، فما رأيته يسلّم للشباب هو لمجة وقارورة ماء، لسدّ الرمق بعد طول السفر، وبعض الدنانير مصروف جيب لا ينفع ولا يضر». قلت: «أليس هذا شراء لمشجعين وهميين ؟»، فردّ عليّ : «أبدا يا عياش يا مسكين ! هذه فقط مكافأة رمزية لشباب عاطل عن العمل، ضاقت به السبل»، فضحكت من سذاجة تفكير، وواصلت مسيري. ولما دخلنا قاعة الاجتماع وأنا متعجّب من الأمر، استقبلونا بأكياس الحلوى وزجاجات العطر، فقلت لصاحبي: «هل أنا في اجتماع سياسي أم في عقد قران؟»، فأجابني: «ما دخلك أنت يا إنسان؟  ها أنت تعود إلى البيت بهديّة، فافرح بما غنمت وانس البقيّة!». قلت : «لكن هذا شراء مبطّن للأصوات، ولا يمكن لي أن أقبل مثل هذه الهبات»، فضحك صاحبي من تعليقي ثمّ قال: «مالك تهوّل الأمور يا ابن  الحلال؟ ما هذا إلا مظهر بسيط من آداب الضيافة وحسن الاستقبال، وهل يحاسب الناس على كرمهم، ويلامون على رفعة شيمهم؟ وهل ستلوم أيضا يا صديقي الحيران، من سيذبح في ليلة الانتخابات الخرفان، ليتصدق بها على الفقراء والمساكين، تقرّبا من الله ربّ العالمين؟ وهل ستشهّر بمن سيرسل إلى  العائلات  الزوالية، أقفافا مملوءة موادّ غذائية، تزامنا مع الحملة الانتخابية؟»... فقلت مقاطعا: «هذه الأعمال الخيرية ظاهرها برّ وصدقة، وباطنها حملة انتخابية... ولكن قل لي: من أين يأتون بالمال؟». أجابني صديقي: «لاعليك! فما أكثر أولاد الحلال: مناضلون متحمّسون، أهل خير متبرّعون، وجماعة عن صكّ  غفران يبحثون، وقد يأتي الدعم من دول شقيقة، أو جمعيات صديقة».

وبينما كان صاحبي يعدّد مصادر التمويل، وهي تصطف مثل القطار الطويل، نهضت من مكاني مغادرا القاعة ، تاركا لصديقي، وهو مشدوه من الأمر، كيس الحلوى وزجاجة العطر، فإذا به يهرول ورائي، ويعلو صوته بالنداء: «شد ! شد ! العياش هرب !». وحانت منّي التفاتة وأنا أصل إلى الباب، فإذا بي أرى الحاضرين، صغارا وكبارا وشوابين، يجرون خلفي منادين: «مندس ! جاسوس ! عميل !»...

...وفجأة أظلمت الدنيا أمام عيني، ولم أعد أرى شيئا، ولما فتحتهما وجدت نفسي أمام التلفاز، والمتناظرون لا يزالون واقفين، يجيبون كالطلاب الممتحنين، وبطريقة جدّ وديعة، على أسئلة المذيع والمذيعة...

عادل الأحمر

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.