رشيد خشانة: عقاب للحاكمين والمعارضين عــلى الــسّـواء

عقاب للحاكمين والمعارضين عــلى الــسّـواء

أزاحت الانتخابات الرئاسية ليوم 15 سبتمبر الجاري الغطاء عن مشهد سياسي غير مسبوق، وصفه البعض بـ»الزلزال»، ونعته آخرون بكونه نهاية المنظومة الحاكمة والمُعارضة على السواء، منذ 2011، في انعطاف سيُلقي بظلال كثيفة على الانتخابات التشريعية المقرّرة ليوم 6 أكتوبر. ولابدّ من التذكير، بداية، بأنّ المناخ الذي جرت فيه الانتخابات برهن على نضج سياسي واحتكام للقانون ومرجعية الصناديق، بالرغم من قصر سنّ التجربة التونسية، ممّا يضعها في مصاف النماذج التي يُقتدى بها، بغضّ النظر عن النتائج. وفي كثير من التجارب التعددية انقلب الصراع على الرئاسة إلى حرب طاحنة لا تُبقي ولا تذر... أمّا في تونس فلم ترتق المخالفات المسجلة إلى مخالفات جوهرية، تؤدّي إلى إلغاء بعض النتائج. ومن هنا فإنّ القواعد والمساطر التي وضعها الدستور أعطت أكلها و«اشتغلت» بشكل أزاح الكثير من العقبات وسهّــل إيجاد الحلول في مواقف دقيقة.

مع ذلك تُعتبر نسبة المشاركة مُخيبة للآمال، بالرغم من فتح باب التسجيل لأكثر من مليون ونصف المليون من الناخبين الجُدد، معظمهم من الشباب. لكنّ الأرجح أنّهم عزفوا عن المشاركة، بدليل أنّ أكثر من نصف المسجلين (مليونا ناخب) لم يذهبوا إلى مراكز الاقتراع. وإذا ما تمعنّا في الخط البياني للمشاركة، نلاحظ أنّ هناك تراجعا مُخيفا من انتخابات إلى أخرى، ففي الانتخابات البرلمانية لعام 2014 نسبة المشاركين 68 في المئة، وفي الانتخابات الرئاسية لسنة 2014 كانت 60 في المئة في الدورتين الأولى والثانية، لتنهار في الانتخابات البلدية العام الماضي إلى 34 في المئة، وها هي ترتفع من جديد، لكن باحتشام.

«الانضباط» للتحكّم في النتائج

الواضح أنّ ضجر الشباب من الوعود الانتخابية جعله يُعاقب كلّ من حكم في الفترة الماضية، وخاصّة رؤساء الحكومات والوزراء السابقين، بالامتناع عن خوض اللعبة الانتخابية من الأساس، وإلقاء ورقة التصويت في وجوههم. وبتعبير آخر فإنّ العقاب أتى في مستويين: عزوف شريحة واسعة من الشباب عن الاقتراع من جهة، وحجب الثقة عن رموز من النخب الحاكمة والمعارضة من جهة ثانية، بالنسبة إلى من أدّوا الواجب الانتخابي. وفي هذه الحالة فإن «الانضباط في التصويت» هو الذي يتحكم في النتائج. وهذا ما يُفسّر نسبة الأصوات المرتفعة التي حصدها من نالوا مباركة «النهضة» وهم قيس سعيد وعبد الفتاح مورو وسيف الدين مخلوف.

كما برز دور الشعبويين الذين استأثروا بنسب غير متوقّعة من الأصوات، ووضعوا تونس في مدار التيارات اليمينية التي تعصف بمحيطنا الجغرافي القريب، ممّا ستكون له حتما تأثيراته في الانتخابات التشريعية. ولن يكون مُستغربا أنّ هذه التيارات التي توسم بـ«الشعبوية» ستكون الفائز الأكبر في المجلس النيابي المقبل. أكثر من ذلك، أتى هذا العقاب موجّها إلى الحاكمين والمعارضين على السواء، في استحضار لمشاهد الصراخ والتنابز بالألقاب في مجلس النواب، والبرامج الحوارية الصاخبة على شاشات القنوات التلفزية. وفي هذا السياق جاءت نتائج التصويت مُعبّرة عن الموقف الغاضب من أداء النخب الحاكمة منذ عهد «الترويكا» إلى اليوم.

أكيد أن تعليمات «النهضة» قضت بالامتناع عن التصويت لمنصف المرزوقي وحمادي الجبالي، ممّا وضعهما في ترتيب مُحرج، مقابل إعطاء الأصوات أساسا لسعيد ومورو. في المقابل أعلنت بعض قيادات النّهضة بالتلميح ثمّ بالتصريح، أن ترشيح رئيس الحركة راشد الغنوشي للانتخابات البرلمانية، هو بداية الطريق للفوز برئاسة مجلس النواب، إذا ما حصل توافقٌ على ذلك مع الكتل البرلمانية الأخرى.

شركة مساهمة

أمّا القصبة فستكون في هذا السيناريو عبارة عن شركة مساهمة تتّفق الكتل التي ستُفرزها الانتخابات التشريعية على تقاسمها، كلٌّ بحسب حجم كتلته من الأصوات. وهذا ما سيفتح الباب لبعض بقايا «النداء» (وليس كلّها) وربّما بعض المرشّحين الآخرين أمثال لطفي المرايحي، ليكونوا ضمن الائتلاف  الحاكم، مع اختيار شخصية مستقلّة لرئاسة الحكومة، من التكنوقراط الضالعين في المسائل الاقتصادية. ومن المهمّ التوقّفُ هنا عند تجربتي المرايحي والصافي سعيد، اللذين كانا المرشحين الوحيدين، اللذين برزا في الدور الأول من خارج الأحزاب الحاكمة والتيارات الشعبوية، فحصلا على مرتبة مشرفة، بإمكانات محدودة جدّا، قياسا على أحزاب أنفقت أموالا طائلة... بلا طائل.

بكلّ هذه الأبعاد شكّلت تجربة الانتخابات الرئاسية منعطفا جديدا وغير متوقّع في مسار الانتقال الديمقراطي، بالرغم من جميع السلبيات، التي تحتاج إلى التدارك والعلاج، ومنها خاصّة الانتشار الواسع للمال الفاسد بلا رقيب أو حسيب، وبروز التيارات الشعبوية، التي تتغذّى من المال الحرام. ويتّضح هذا الترابط في مسار المرشح نبيل القروي، الذي وصفته صحيفة الغاردين بكونه «برلوسكوني تونس». ومعروف أن برلوسكوني هو ملك الشعبوية وامبراطور المال والإعلام في آن معا.

منعطف جديد؟

من هنا فإن الخوف كلّ الخوف، مع انتصار الشعبويات وإمساك حركة «النهضة» بمقاليد الحكم، من أن تخسر تونس التميُز الذي طبع شخصيتها السياسية والفكرية، بفضل التوازن بين ثلاث عائلات ترمز لثلاثة روافد هي: الحداثيون (بجناحيهم اليساري والليبرالي) والإسلاميون والمحافظون (أو الحرس القديم البورقيبي والتجمّعي). وتُشكّل خلخلة التوازن بين هذه الروافد تهديدا للنهج الوسطي الذي سمح للتجربة التونسية بأن تنجح حتّى الساعة. مع ذلك يبقى المسار الديمقراطي التونسي منارة للعالم العربي، بسلبياته وإيجابياته. ولم تُجانب مجلة «إيكونوميست» الصواب حين كتبت في عددها الأخير قائلة «في منطقة تشهد عودة الاستبداد، تدعو الانتخابات التونسية للفرح». ونحن لا نفرح طبعا للنتائج، وإنّما لكون التجربة مستمرّة، وقد تكون قادرة على تصحيح نفسها في الاستحقاق الانتخابي المقبل، بفضل ديناميكياتها الذاتية، مثلما فعلت في انتخابات 2014. لذا، لن تكتمل ملامح المشهد السياسي الجديد إلا بعد ظهور نتائج الانتخابات التشريعية، فعلى أساسها سيُبنى المستقبل على الأمدين القريب (خمس سنوات) والمتوسط (عشر سنوات).

رشيد خشانة

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.