أخبار - 2019.09.13

عبد العزيز قاسم: الباجي قائد السّـبـسي بيـن المهمّ والأهمّ

الباجي قائد السّـبـسي بيـن المهمّ والأهمّ

في الصيف، تحتفل تونس رسميا بعيدين من أهمّ أعيادها الوطنية، عيد ميلاد الجمهورية في 25 جويلية وعيد ميلاد المرأة التونسية الجديدة في 13 أوت وتناست منذ ما يزيد عن ثلاثين سنة ذكرى 3 أوت عيد ميلاد الرجل الذي لولاه ما كان العيدان المذكوران. كان الاحتفال بهذا العيد الرئاسي الممتّد لثلاثة أسابيع يندرج في المنستير ضمن المهرجانات الصيفية الهازجة الطربة.

وتشاء الأقدار أن يلتحف عيد الجمهورية هذه السنة بالسواد حدادا على وفاة الرئيس الأوّل للجمهورية الثانية. ولهذا التطابق رمزية سرّية ذات بُعدٍ ميتافيزيقي أو ميثولوجي عسى أن يستلهم منها كتّابٌ وشعراء إبداعاتٍ عن مصائر الأمم والأفراد ما تزال غائبة عن الساحة منذ أن اندلعت ما سمي بالثورة التي جاءتنا بالترويكا سيّئة الذكر. سنحتفل العام المقبل بعيد الجمهورية الثالث والستين وبالذكرى الأولى لوفاة الرئيس الراحل محمد الباجي قائد السبسي الذي ترك بصمات لا تمًّحــي في واقع تونس وفي تاريخها رغم جحود الجاحدين.

لنتذكّرْ: اندلعت الانتفاضة التي أطاحت بنظام فاسد ماديا وأخلاقيا وثقافيا رافعة شعار الحرية والكرامة. كانت موجة غضب عارمة زاد من تأجُّجِها سقوط مئات من الضحايا على يد قنّاصة محترفين جيء بهم لإيصال النظام إلى نقطة اللاعود. وببراعة مذهلة ركب الإسلاميون على الأحداث وادّعوا أنّهم هم الذين أشعلوها وفتحوا أبواب السجون على مصاريعها وانتشر نزلاؤها وليسوا كلّهم أبرياء فعاثوا من جديد ومازالوا يعيثون. اندسّوا في دواليب الدولة وأتخموا الإدارة بالعرجاء والنطيحة نهبوا أموالها في شكل تعويضات خيالية جزاء اعتباطيا لما قدَّمت أيديهم من تخريب مادّي ومعنوي استمرّ مدى خمسين سنة وضعوا خلالها كل عِصِيِّهم في عجلات النمّو والتنمية. واستجابة للوصيَّيْن القطري والتركي جنّدوا الآلاف من الشباب الضائع الصايع بعثوا بهم إلى بؤر التوتّر يذبحون ويغتصبون وينهبون كما جنّدوا مجموعة من البنات لتأدية فريضة العهر المقدّس من خلال جهاد النكاح ترفيها «حلالا» لأسوأ ما خلق الله «صحون مشهيات» قبل وجبة الحور العين الأبدية. والأنكى من كلّ ما اقترفوا استحداثُ جهازٍ انتقامي لبثّ الكراهية والفرقة الدائمة بين المواطنين سمَّوْه «هيئة الحقيقة والكرامة» يهدف إلى فرض مزيد من التعويضات المؤديّة إلى إفلاس الدولة بالكامل وإلى غاية أخرى هي الأهم: تلطيخ سمعة بورقيبة وشيطنة مشروعه الحضاري العظيم. علما بأن هذه الهيئة التهمت الملايين من الدنانير موَّلتها الدولة بما كانت تحصل عليه من قروض متفاقمة. ولم يعمل الإخوان في ذلك كلّه إلا بمبدأي الغنيمة والضغينة.

صناديق الاقتراع جاءت بالإخوان المسلمين وذلك أحد أهمّ مخاطر الديمقراطية الناشئة في المجتمعات القاصرة. ظنّت شريحة واسعة من التونسيين أنّ الدول العادلة المستقيمة تُساس بالبسملة والحمدلة والحوقلة والصلعمة. في هذا الجوّ المناهض للعلم والعقل، في هذه الحضيرة التي انتشرت فيها معاول الهدم حول معالم ما خلّفه الزعيم الحبيب بورقيبة من عمران حضاري، وفي خضمّ حملة مسعورة ضدّ «الأزلام»، وفيهم أخيار وأشرار، أليس من قبيل المفارقة  العظمى أن يتولّى قيادة المركب في بحر الظلمات ربّانٌ ماهر تخرّج مباشرة من المدرسة البورقيبية؟ حاول الوزير الأوّل الباجي قائد السبسي أن يسير بالدولة نحو مرفإ آمن بأقلّ عطب ممكن ويكفيه فخرا أنّه أشرف على تنظيم أكثر الانتخابات شفافية منذ الاستقلال. وكانت التسريبات تشير إلى أنّه هو المرشّح الطبيعي لرئاسة الجمهورية المؤقتّة. لكن من حسن الحظ تراجع الإخوان عن هذه النية الملغومة وظنّوا أن الطريق معبَّد وأنّهم لم يعودوا في حاجة إلى دليل فضلّوا أيّما ضلال...

الباجي قائد السبسي بورقيبي، والبورقيبيون عموما لا يتقاعدون. ولم تطل به وقفةُ التأمّل في الأحداث. رأى العبث بمصالح الدولة، حضر الاغتيالات وعايش إرهاصات الإرهاب والتفتيت الممنهج للإرث البورقيبي فتحرّك وأنشأ حزبا عتيدا في وقت قياسي سمّاه «نداء تونس»، نداء استغاثة وتعبئة، وخاض به الانتخابات التشريعية وانتزع المرتبة الأولى من حزب الإخوان ثمّ دخل انتخابات الرئاسة. وفي الوقت الذي دفع فيه الإسلامويون بمجموعة من الإماء والحريم للتظاهر مطالبات بتعدّد الزوجات، يقولها الباجي حازما جازما «لا رجوع إلى ما قبل مجلة الأحوال الشخصية». وفاز الباجي بالرئاسة بحوالي مليوني صوت أغلبهم نساء.

كان ناخبو الرئيس وناخباته يؤمّلون ويحلمون بأن يضيِّق الخناق على الإسلاميين وأن يقصيهم عن الحكم. ناسين أنّهم لم يُمكِّنوه من أغلبية تشريعية تسمح بذلك فاضطرّ «الشيخ» العلماني البراغماتي إلى التعامل مع «الشيخ» الإخواني لتشكيل ما سمّي بحكومة التوافق. واتّضح لكلّ ذي عينين أنّ صاحب قلعة «مونبليزير» ليس بأقلّ مكرا ودهاء من صاحب قصر قرطاج. ناور وتثعلب وفخّخ حزب النداء وفجّره بما جعل حزب النهضة يحتلّ المرتبة الأولى في المجلس من جديد. وثارت ثائرة ناخبي الرئيس واتّهموه بخيانة الأمانة وكالوا له ما كالوا من الشتم والسباب. والواقع أنّ الرئيس وجد نفسه أسير دستور فاسد أفرغ الرئاسة من أبسط صلاحياتها وكان يظنّ أنّه يستطيع من خلال رئيس حكومة مدين له أن يمرِّرَ ما يرتئيه من قوانين وقرارات وكان الحساب مخطئا فقد سدّ الشيخ «باسم الله» كل الثغرات. ومع كلّ هذه الوقائع الواضحة للعيان، استمرّ الغاضبون من ناخبي الرئيس ينعتونه بالتنازل المذلّ لخصوم كان المفروض أن يلجمهم فألجموه وكان الرجل في وضع يصحّ فيه قول الشاعر الشامي عبد الغني النابلسي:

ألقاهُ في اليَمِّ مكْتوفًا وقالَ لهُ     إيَّـــاك إيَّــاكَ أَنْ تبْتَلَّ بالمــاءِ

لرئيس الجمهورية مهمّتان أساسيتان إحداهما تمثيليته للدولة بالخارج وعلى هذا الصعيد جلب الباجي قائد السبسي لتونس بحنكته وبأناقته وبثقافته وبحسن معشره احتراما منقطع النظير في المحافل الدولية. أمّا مهمّته الداخلية فسرعان ما وجد نفسه مغلول اليدين. ومع ذلك استجمع كلّ قوّاه المعنوية فأحدث لجنة من الخبراء برئاسة السيدة بشرى بالحاج حميدة تؤسّس للحريات الفردية والمساواة في الميراث وألغى «منشور 73» الذي يمنع زواج المسلمة بغير المسلم. رأى الإخوان أنّ الرئيس قد تجاوز بذلك حدود مسؤولياته وانهال عليه وابل من الويل والثبور وفتاوى التكفير تلقّاها غير عابئ. ولم يكن أحد من السياسيين ليجرؤ على طرح هذه القضايا الجوهرية بمثل ذلك العزم والحزم ومن موقع المسؤولية. وعندما توفِّي شمتَ به أحفاد ابن تيمية وخاصّة أولئك الذين ترعاهم تركيا مثل الحثالة وجدي غنيم أو تأويهم العاصمة البريطانية التي يدعوها  بعض الصحفيين الغربيين بـ«لندنستان» وفيها يصول ويجول بمطلق الحرية ممثّل أيمن الظواهري الرسمي في أوروبا المأجور هاني السباعي. وللتاريخ، حاول طوني بلير أن يطرده من بريطانيا فتمسكّت به المخابرات. بدون تعليق...

توفّي الرئيس الباجي قائد السبسي بين أحضان الجمهورية في عيدها الثاني والستين فبكتْه وخصَّته بجنازة مهيبة وخرج الناس على جانبي الطريق الطويل من قرطاج إلى مقبرة الجلاز يشيّعونه بحسرة واجمة في لهب الهجير. كانت أجيال ما قبل الثورة من المواطنين المنتشرين في الشوارع أو المتابعين للموكب في بيوتهم عن طريق التلفاز ينظرون إلى التابوت وكأنّما هو يحوي جثمانين لرئيسين اثنين أحدهما الباجي وثانيهما بورقيبة الذي حرمته خساسة زين العابدين بن علي من جنازة تليق بقدره ومقداره. شرح الزعيم الحبيب بورقيبة بحضوري مدخله في التاريخ وذلك في مناسبتين اثنتين إحداهما أمام مجموعة من المذيعات وصحفيات الإذاعة والتلفزة أخذتُهن معي إلى قصر قرطاج، في ربيع 1982. رحب الرئيس بهنّ وقال فيما قال: «ينعتني الناس في الداخل والخارج بمحرّر تونس من الاستعمار وما في ذلك من معجزة أو تميُّز فالزعماء الذين حرّروا أوطانهم كُثْرٌ. أمّا أنا فقد حرّرت المرأة» وأضاف: «صحيح أني أجّلْتُ النظر فيما يتعلّق بالمساواة في الميراث وتبقى هذه النقطة قائمة في ذهني إلّا أني حسَّنْتُ جوانب أخرى من الميراث. مثلا: المتوفّى الذي لم يُخَلِّفْ إلا البنات منعتُ أن يشاركَهن وريثٌ آخر...»

جالت بخاطري هذه الذكرى وأنا أقف على باب روضة آل بورقيبة. كان مكتوبا على عرض مصراعيه وفي ثلاثة مقاطع عنوانٌ يختزل ملحمة كاملة كان قد اختاره الزعيم شخصيا: «المجاهد الأكبر باني/ تونس الجديدة/ محرّر المرأة». وفي اعتقادي أنّ الباجي قائد السبسي لم تغب عنه هذه المعاني الجوهرية. كان حريصا على احترام الدستور على علّاته وحريصا على تنفيذ وصيّة الزعيم الضمنية: الاستمرار في بناء تونس الحديثة وفي تحيين ما جاءت به مجلة الأحوال الشخصية.

مَنْ مِنَ المترشحين لخلافة الرئيس الباجي قائد السبسي يأنس في نفسه الكفاءة بحمل المشعل بما يتضمّنه من تنوير علـى درب لا يزال محفوفا بالأشواك والمطبّات؟ من يحمل تصوّرات حداثية للنهوض بقطاعين منكوبين أكثر من أيّ وقت مضى: التربية والثقافة؟

سأصوّت لمن يتعهد بحماية هذه القيم.

عبد العزيز قاسم

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.