عامر بوعزة: هل التطور حكر على النهضة؟

عامر بوعزة: هل التطور حكر على النهضة؟

واحدة من أهم مميزات الإسلاميين في تونس قدرتهم على التكيّف مع الظروف والتأقلم مع المتغيرات والتظاهر ولو لحين بالرضوخ لسلطة الأمر الواقع. وقد اهتدت حركة النهضة إلى هذه الميزة في ذاتها واستخدمتها عندما غيرت القوى الغربية موقفها من الإسلام السياسي وتجاوزت مقولة الإسلاميين المعتدلين في خضم حربهاضدّ الإرهاب، فجعلت منها راية بيضاء في معركة لا تحتمل المكابرة،وانصاعت صاغرة إلى خارطة الطريق التي وضعها رباعي الحوارالوطني في 2013 وغادرت منصة الحكم، ثم أصبحت لاحقا تسوّق ذلك بوصفه تنازلا منها لحقن دماء التونسيين، متعامية عن كل الأخطاء التي ارتكبتها في تلك المرحلة وفي مقدمتها تدهورُ الوضع الأمني وبلوغُ حالة الاحتقان حدّ تتالي الاغتيالات السياسية بشكل مشهدي مفزع.

ورغم ما تبذله ماكينة الدعاية النهضوية عبر مختلف منصّات التواصل الاجتماعي من أجل تثمين التطور السياسي في الحزب نحو التخلص من عبء الموروث الإخواني والاندماج في الدولة المدنية والمجتمع الحداثي، نقف على مشكلتين أساسيتين قد تجعلان الناخب التونسي لا يطمئن كثيرا إلى مراجعات النهضة وتحولاتها، بل يعتقد أن في الأمر مناورة اقتضاها الظرف الداخلي بعد تراجعها إلى المرتبة الثانية في 2014 ودخولها في حالة توافق مع «العلمانيين»، كما اقتضاها الظرف الخارجي عندما جرت الرياح في المحيط العربي بما لا تشتهي سفنها.

المشكلة الأولى تتعلق بهذه التطورات التي تأتي في قالب مفرقعات صحفية لا مراجعات حقيقية وموثقة، ما يجعلها هشة غير موثوق بها كثيرا في أوساط النخبة على وجه الخصوص،فالأمر لا يتجاوز حدود مقالات لطفي زيتون عن قضايا علمانية، أو اعتذار عبد الفتاح مورو عن كلام صادم نشر له في حضرة «وجدي غنيم» في تلك المرحلة التي اعتقدت فيها قيادات النهضة بحقّ أنها بصدد تأسيس الخلافة السادسة، فضلا عن أخبار متفرقة عن خلافات تشقّ مجلس الشورى بين صقور ومعتدلين في كل المواقف التي تُطلب منه إزاء قضايا الدولة واستحقاقات الانتقال الديمقراطي، والتطور حينئذ مقتصر على الفئة القيادية التي ترتدي ربطة العنق وتمارس الحكم وتظهر في وسائل الإعلام،  ولا نقف على مجهود حقيقي لتطوير خطاب المساجد مثلا، أو العمل عبر شبكة المكاتب المحلية الموزعة في كامل تراب الجمهورية على إعادة تهيئة الأتباع وتطوير نظرتهم لعلاقة الدين بالدولة في ظلّ التصورات الجديدة التي تزعم النهضة تبنيها بعيدا عن فكرة الدولة الإسلامية والخلافة الراشدة والشريعة بوصفها حلاّسحريا لكل مشكلات العصر. فهذه المرتكزات الثلاثة يتغذى منها طيف إسلاموي واسع النطاق يغلب على قواعده التشدّد والتصلب،لا سيّما عندما يرفع شعارات الطهورية السياسية ويشرّع للإقصاء، بما يجعله أكثر تهديدا للمسار الديمقراطي.

أما المشكلة الثانية فتكمن في أنّ هذا التطور الذي أصاب القيادة النهضوية لم يصدر عن نقد ذاتي وتحمّل جريء وشجاع للمسؤولية التاريخية، وكلّ الأخطاء التي ارتكبتها يجري العمل على التفصّي منها تحت شعار التطور، وفي هذا السياق يندرج مثلا النزاع حول الجهاز السرّي ومسؤوليته في الاغتيالات السياسية، لا سيما أن النهضة لم توفق في الحسم بشكل نهائي وواضح مع تاريخها النضالي وما استخدم فيه من عنف ضدّ الدولة بأشكال مختلفة. وعلاوة على أن النهضوي يعتبر دائما محاسبته على ما ارتكبه من أخطاء أثناء ممارسته الحكم شكلا من أشكال الاستئصال، ملوّحا بعبارة «العودة إلى السجن» لإيقاظ الرهاب لدى جمهور الأتباع فإنه يعتقد دائما أن التطور وهو سنة طبيعية في الكون حكر عليه ولا يجوز لغيره، فهو وحده الذي يحق له أن يتطور عشر مرات في السنة الواحدة وينتقل من موقف لآخر مثل عقارب الساعة،لكنه عندما يواجه خصومه لا يجد حرجا في استخدامقضية تعذيب وقعت في الخمسينات، وهو وحده الذي يمارس حق التصنيف والوسم، فيجعل نفسه وصيّا على الثورة التي أشعلها الفقراء والمهمشون بينما ينسب خصومه إلى «المنظومة القديمة»، دون أن يفكر ولو لحظة في أن التطور الذي أصابه أصاب هذه المنظومة أيضا، ولو لا ذلك لما وضعت يدها في يده يوما.

عامر بوعزة

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.