الانتخابات: تطلّع نحو التقدّم وخوف من الانتكاس
من أهم مميّزات الحياة السياسية الانتخابات الرئاسية و التشريعية، أنّها المرآة العاكسة للثقافة السياسية بشكل عام والسلوك الانتخابي بشكل خاص، وعلى وقعها تنتظم الحياة العامة ويتفاعل نظام الأحزاب ومختلف التنظيمات الاجتماعية. وعلى الرغم من خيبات الأخطاء السابقة تسير البلاد نحو ترسيخ حلم الشعب بالدولة الديمقراطية المبنيّة على أساس شرعية الانتخابات.
الوضع الانتخابي العام
أكّدت التجربة التي عشناها لانتخاب المجلس الوطني التأسيسي سنة 2011، ثم الانتخابات البرلمانية سنة 2014، فالانتخابات الرئاسية على جولتين سنة 2014 ومنذ ما يزيد عن السنة الانتخابات البلدية في ماي 2018 مدى تطلّع الشعب التونسي إلى بناء نموذج ديمقراطي. وقدّمت بالمناسبة معطيات جديدة عن مدى تنامي ظاهرة التسييس في المجتمع وإعادة إنتاج الزبائنية السياسية و أشكال الولاء الجهوي والديني إلى جانب توظيف المال الخاص واقتحام رجال الأعمال المجال السياسي.
وليس من الصعوبة أن ندرك أنّ الانتخابات الرئاسية والتشريعية المرتقبة تأتي في وضع يتّسم بتراجع الاهتمام الدولي بقضية الاصلاح السياسي والتحول الديمقراطي في العالم العربي وبعدم توفير الدعم الدولي المطلوب لمجابهة التحديات التي تواجهها تونس خاصة في المجال الاقتصادي، كما تنتظم في مناخ يسوده الاستقطاب المجتمعي جرّاء السياسات الخاطئة.
وإذ يستعد الشعب لمنح ثقته لقيادة جديدة للتعبير عن مصالحه وتطلعاته من خلال المؤسسات الوطنية، فإن قسما كبيرا منه لازال يعيش هاجس الانتكاس عبر احتمال تجريد هذه القيادة من جوهرها من خلال تأسيس شبكات موازية من العلاقات القوية وغير الرسمية التي تقوم على الامتيازات الخاصة والعلاقات الشخصية والعائلية بما يجعل الارتباطات بينها وبين المُناصرين تتعزّز داخلها قيم الواسطة والمحسوبية والفساد. وهذا ليس بغريب ولا جديد عنّا.
علينا أن نعترف أنّ التعدّدية التي هي ظاهرة صحّية في المطلق لم تُسفر عن إحلال قيم الديمقراطية الفعلية لدينا، لذلك تحاول البيروقراطية الداخلية للأحزاب والمنظمات التأقلم مع التحدّيات التي يفرضها المشهد السياسي بالرغم من خلافاتها وازدواجية خطاباتها وفي صدارة ذلك استقطاب جمهور الناخبين الذي هو في الأساس جمهور "رهانات اجتماعية" أي جمهور في حاجة لمعالجة أوضاع صعبة.
هناك تغييرات غير مسبوقة لدينا فالاستقطاب السياسي حينما يتحوّل إلى انقسام سياسي يقود حتما إلى انقسام مجتمعي وبالتالي يجعل بعض السياسيين على استعداد لممارسة العنف في سبيل الدفاع عن مواقفهم.
من يحكم المجتمع السياسي؟
من سلبيات هذا المرحلة من تاريخ بلادنا التهافت على المناصب العليا ومدّ العين إلى السلطة حتى ولو لم يكن الساعي أهلاً لها، فآفة الدول عموما أن يتولّى مقاليد الحكم والمسؤولية فيها أشخاص متطفّلون على السياسة وخدمة الوطن أو لهم روابط سرية مع جهات أجنبية بسبب الأيديولوجيا أو التّبعية أو العمالة.
ولاشك أنّ ترشّح بعض الوجوه الذي صُنعت من لاشيء ينال من جدّية المسار الانتخابي ويوحي بالاستخفاف وكأننا على موعد جديد مع جماعات المصالح وفق منطق "النفوذ غير المرئي وغير المباشر"، و" الماكينة التقليدية" القائمة على الولاء الانتخابي على حساب المصلحة والبرامج،مقابل الدور المثير للقادة الدينيين في تعبئة الناخبين وتوجيههم عبر دوائرهم الخاصة و خبرتهم في التعبئة والتنظيم.
نحن بحاجة إلى ضبط معايير نستشعر من خلالها أهمية المسؤوليات العليا ونحدّد على ضوئها خصائص الكفاءات المناسبة لتولّي المناصب في الدولة، وإلى استبدال ما تَقَادم في نظرية صناعة النخبة، التي تظلّ مؤشرنا القوي الذي يترجم حيوية مجتمعنا ومدى قابليته لبلورة المشروع الحداثي، وهي القضية المركزية في جملة القضايا المرتبطة بالسلطة السياسية وآليات الحكم وعلاقتها بالثقافة السياسية من جهة وبالمجتمع في أساسه من جهة أخرى.
فالمجتمع السياسي لا يمكن أن يحكمه المغامرون .. بل النخب الوطنية أي النخبة الوزارية والنخبة الاستشارية ونخبة العلماء والنخبة المثقفة والنخبة البيروقراطية وكذلك النخبة المضادة أي المعارضة السياسية. وإذا كان هناك شبه إجماع على وجود حالة من الانحطاط القيمي لدىمكونات النخبة السياسية عامة فإن هناك في المقابل تباينا ملحوظا في خصائص و مواقف كل نخبة على حدة.
نكاد نشعر بامتعاض كبير جراء عدم استخلاف قيادات من طينة والهادي نويرة ومحمود المسعدي والشاذلي القليبي و رشيد صفر وغيرهم، فالأحزاب السياسية التي أنتجت بشكل أو بآخر قيادة سياسية من العيار الثقيل قد تخلّت عن هذه المهمة لصالح الاهتمام باللحظة الانتخابية فيما عجزت الأحزاب الجديدة عن ممارسة هذا الدور.
صوت الناخب
تمثل الانتخابات القادمة أحد المراحل المهمة لمتابعة تطوّر النظام السياسي لدينا وإسهامه في ديمقراطية النظام وتطور المجتمع . ويشارك الشعب في هذه الانتخابات وتتحدّد اختياراته من خلال عدّة عوامل أبرزها القضايا الساخنة الذي سيطرحها المترشّحون والحلول المؤمل تحقيقها،إلى جانب المتغيرات الاجتماعية المرتبطة بالوضع الاجتماعي التي كلما زادت في أيّ مجتمع تزيد من مساحة المشاركة السياسية.
وبصرف النظر عن الجدل القائم داخل المنظمات والأحزاب حول المرشّحين والمناورات التي غالبا ما تخدم المصالح الضيقة، فإنّ الهيئات الرسمية المعنية مطالبة بتوفير كل الضمانات للوصول للهدف المراد تحقيقه وهو تعبير الناخب عن إرادته في الاختيار وفقا لمعلومات صادقة ووعي تام بدوافع اختياره.
ومع كل النقائص التي يمكن تسجيلها في الانتخابات فمجرّد حدوثها هو خطوة إلى الأمام وإقرار بأهمية الديمقراطية حتى إذا لم يكن البعض يؤمن بها في قرارة نفسه. وإذا كانت الانتخابات السابقة ذات تأثيرات سلبية وشقّت الوفاق الوطني، وأضعفت الموقف التونسي بشكل عام، فانه لا مجال للفشل في 2019 بالرغم من تواصل نقاط الضعف لدينا في البنية الحزبية المتصلة بهيمنة بعض الأحزاب على الساحة ونظام الحكم الذي جاء تحت الضغط الخارجي والداخلي ونظام الانتخابات الذي يحتاج لبعض التحويرات الجزئية.
آمل أن يصوّت الناخب لمرشّح له سياسات وبرامج ملزمة وليس لأفراد تعودوا عن التنصل من وعودهم الانتخابية وأن يُراهن على الشخصية النظيفة والشريفة التي أثبتت أنها في خدمة الوطن والشعب.
محسن بن عيسى
- اكتب تعليق
- تعليق