أخبار - 2019.08.06

قـطاع الأدوية في تـونس: أيــن الخلل؟

قـطاع الأدوية في تـونس: أيــن الخلل؟

قطاع الأدوية في تونس قطاع استراتيجي يشكّل أحد أعمدة المنظومة الصحية الوطنية. شهد في الأشهر الأخيرة أزمات في مجالي التصنيع والتوزيع تجلّت بالخصوص في نقص لعدّة أدوية في الصيدليّات والمستشفيات.ولئن عرف هذا القطاع تطوّرا ملحوظا منذ ثلاثة عقود فإنّه لا يزال يجابه تحدّيات ويعاني من مواطن خلل نسلّط عليها أضواء كاشفة في هذا الملفّ.

انطلقت تونس منذ ثمانينات القرن الماضي في إرساء منظومة للأدوية من أجل ضمان تزويد السوق المحلية التي يحتاجها المواطن وبأسعار معقولة. وبرزت تونس آنذاك كأوّل بلد إفريقي يتولّى صناعة الأدوية وقد ساهمت التشجيعات الجبائية الممنوحة بهذه المواد الحيويّة للمستثمرين في قطاع صناعة الدواء في نجاح هذا النشاط وتطوّره .ورغم حدوث بعض الأزمات في القطاع في الفترة الماضية بسبب ما حصل من نقص في الأدوية بلغ في جويلية 2018 حوالي 172 نوع دواء فإنّ ثقة المستهلك التونسي في الدواء المحلّي لم تهتز . وقد شهد القطاع تطوّرا من حيث عدد المصانع  الذي مرّ من ثلاث وحدات تصنيع سنة 1990 تغطي حوالي 8 % من الحاجيات المحلية إلى 42 وحدة  إنتاج دواء بشري إضافة إلى وحدات إنتاج الدواء الحيواني ووحدات إنتاج المستلزمات الطبية المختلفة يدعّمها عدد هامّ من المخابر ومراكز البحث . واليوم يغطّي الإنتاج الدوائي التونسي الحاجيات المحلية بنسبة تزيد عن 62 % من الاستهلاك الوطني يمثّل من حيث القيمة ما مقداره 2500 مليون دينار سنويا وبرقم معاملات بلغ 1400 مليون دينار سنة 2018. كما حقّق القطاع في السنة نفسها معدّل نموّ سنوي قدّر بنسبة 18 % (كان في حدود 15% سنة 2006 حسب دراسة للبنك الدولي) في حين لم تتجاوز نسبة النموّ العامة في تــــونس 2.5 %. لذلك تتبوّأ صناعة الأدوية التونسية مكانة هامة في تونس وخاصّة إذا اعتبرنا أنّ التصنيع المحلّي في إفريقيا لا يغطّي سوى 6 % من الحاجيات.

ولئن تطوّر التصنيع من حيث الانتاج فإنّ التصدير لا يزال يحتاج إلى مزيد الدعم والتطوير فنسبة تغطية الواردات للصادرات  في قطاع الأدوية لا تتجاوز 12%  بينما تبلغ هذه النسبة 120% في الأردن و15%  في المغرب . ولعلّ هذا يعود إلى أنّ الأولوية الاستراتيجية لتونس هي التصنيع لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الأدوية بتغطية الصناعة المحلية للاستهلاك المحلي علما أنّ نسبة التغطية العامة اليوم تجاوزت  نصف الاستهلاك.

كيف تشتغل المنظومة الدوائية التونسية؟

تستند الصناعة الدوائية التونسية إلى منظومة لها ثلاثة أبعاد أوّلها البعد الرقابي الذي تشترك فيه أربع إدارات وهي إدارة الصيدلة والدواء وإدارة التفقد الصيدلي بوزارة الصحّة والمخبر الوطني لمراقبة الأدوية والمستلزمات الطبيّة والمركز الوطني لليقظة الدوائية، أما البعد الثاني فيتعلّق بالإنتاج وتتولّى هذه المهمة المصانع المحلية إن كانت فروعا لمخابر أجنبية أو على ملك خواصّ تونسيين أو وحدات صنع مؤجّرة تنتج الدواء بترخيص من الشركة الأم  يضاف إليها مصنع عمومي واحد على ملك الصيدلية المركزية . ويتمثّل البعد الثالث في التوزيع والذي تتكفّل به الصيدلية المركزية من جهة لأنّها تتولّى تغطية حاجيات البلاد من الأدوية والأمصال المستوردة حصريا وتعمل أيضا كمركزية شراء وتوزيع للأدوية التي تستعمل في المستشفيات. ومن جهة أخرى يتكفّل بالتوزيع موزعو البيع بالجملة والصيدليات الخاصّة والصيدليات التابعة للمستشفيات. هذه الدقة في التعامل مع الأدوية والحرص على جودتها ونجاعتها جعل الإنتاج التونسي من الدواء يلقى إقبالا في الخارج وحالا دون تسرّب الأدوية المقلّدة إلى تونس. ومن نقاط قوّة هذه الصناعة أيضا اعتمادها على الكفاءات التونسية دون غيرها في التصنيع والترخيص والمراقبة واعتمادها كذلك على مراكز ومخابر بحث بما في ذلك البحث الذي يخصّ الأدوية الجديدة المنتجة باستعمال البيوتكنولوجيا استعدادا للمستقبل.

أي أدوية نصنع ؟

تنتج الصناعة الدوائية التونسية – إضافة إلى المستلزمات الطبية– نوعين من الأدوية هي الدواء الأصلي بترخيص من  الشركة الأم  العالمية عبر فرع لها في تونس أو عن طريق عقود مناولة ويكون المنتوج دواء مصنّعا محليا بنفس مواصفات وجودة الدواء المصنّع في بلد المنشأ أمّا المؤسّسات الأجنبية المستثمرة في هذا القطاع فهي من أوروبا وأمريكا وآسيا. أمّا النوع الثاني فهو الدواء الجنيس ويوجد نوع ثالث لا يزال في بداياته يهمّ الأدوية المجددة والمنتجة بفضل البيوتكنولوجيا (تعتمد على مادة فعالة حيوية بيولوجية وليست كيميائية) وقد بدأت بعض الوحدات التونسية العمل على إنتاج هذه النوعية من الأدوية في تونس. ويعود الاهتمام بهذا النوع من الدواء لقدراته العلاجية ذات المردودية العالية ولأنّه يشهد اليوم انتشارا في سوق الدواء العالمية ينتظر أن يصل إلى 50% من الإنتاج الدوائي  العالمي سنة 2023 كما ينتظر أن يستحوذ على الـمائة دواء الأكثر مبيعا في العالم علما أنّ من بين الـ 20 دواء الأكثر مبيعا في العالم سنة 2018 نجد 12 دواء منتجا من البيوتكنولوجيا.

وحسب السيد أيمن المكي مدير عام الصيدلية المركزية فإنّ الأدوية المصنّعة محليا تغطي جميع الأمراض وحتّى المستعصية منها كالسرطان والأمراض الخصوصية. وقال إنّ الدولة تعمل على تشجيع تصنيع بعض الأدوية التي تعتبر حيوية في تونس ويتمّ استيرادها بالعملة الصعبة وتتكلّف على المجموعة الوطنية مبالغ باهضة مثل الأدوية التي تعالج الأمراض المزمنة أو الأمراض الخصوصية. وهناك اليوم مصانع انطلقت في ذلك.

من التوزيع إلى الاستهلاك

ولهذه المنظومة الدوائية نظام توزيع مدقّق إذ تتكفّل الصيدلية المركزية بتوزيع الدواء المحلي والمستورد نحو المستشفيات أمّا الدواء الموجّه إلى الصيدليات فيوزع بواسطة موزّعي الجملة الذين يقتنون المستورد من الصيدلية المركزية والمحلي مــن المصانع.

وبفضل الصيدلية المركزية لا تزال سوق الدواء نشطة مع التحكم في السعر إذ بلغ معدّل سعر الدواء المحلي  6.900 د والمستورد الذي يباع في الصيدليات 13.900د. وبفضل الصيدلية المركزية أيضا  لا يوزّع  في تونس أيّ دواء مقلّد. وقد عرف الاستهلاك الدوائي في تونس تطوّرا ملحوظا إذ بلغ بالنسبة إلى المستشفيات ما قيمته 575 مليون دينار سنة 2018 منها حوالي 136 مليون دينار أدوية محلية. وعموما يستهلك التونسي سنويا ما قيمته حوالي 2500 مليون دينار أدوية مستوردة ومحلية.

التحديات والأهداف

يواجه القطاع عديد التحديات متأثرا بعدة عوامل مثل  تدهور قيمة الدينار والمعوقات التي تعترض التصدير وطول الانتظار للحصول على ترخيص ترويج الأدوية بالسوق التونسية والضغوطات الجديدة على الدواء التي يفرضها مشروع اتفاق التبادل الحرّ الشامل والمعمّق «الأليكا» وتنظيم مسالك توزيع الدواء في القطاع العمومي والخاص وعدم الاستقرار السياسي علاوة على والتغييرات المتكرّرة لوزراء الصحة منذ الثورة والأزمة الاقتصادية التي تعيشها تونس والاحتكار الذي تمارسه الشركات الكبرى المهيمنة على صناعة الدواء في العالم. ومن أهمّ التحديات التي يعيشها القطاع نجد أوّلا تحقيق الاكتفاء الذاتي من الأدوية في السوق التونسية حتّى لا تتعرّض إلى خلل في التزويد وتعمل المنظومة على تحقيق هذا الهدف لكنها لم تصل إليه بعد إذ تمكّنت من تحقيق ما نسبته 52 % اكتفاء ذاتيا عاما من حيث القيمة في قطاعي المستشفيات والصيدليات حسب السيدة سارة ليمام المصمودي رئيسة الغرفة النقابية الوطنية للصناعات الصيدلية . ويؤمل أن تتطوّر هذه النسبة لتصل إلى 62 % . وأشارت رئيسة الغرفة إلى أنّ الاكتفاء الذاتي من الأدوية المحلية في قطاع الصيدليات بلغ 62 % من حيث القيمة والهدف هو الوصول به إلى نسبة 72 % وهذا يمثّل تغطية لاحتياجات التونسيين الدوائية بأكثر من 78 %  من حيث الحجم أي أنّ من بين 10 علب أدوية تباع في الصيدليات 8 منها منتجة في تونس . وتغطّي الصناعة المحلية في المستشفيات حوالي 24 % من قيمة الأدوية المحلية أمّا البقية فهي أدوية مستوردة وغير مصنّعة في تونس لأنّ تكلفتها عالية وتحتاج إلى استثمارات كبيرة ومصانع متطوّرة والهدف الذي يرام تحقيقه هو على الوصول بتلك النسبة إلى 31 %. ويستوجب تطوير نسبة الاكتفاء الذاتي من الدواء تشجيع المصانع المحلية والوحدات الدوائية وتشجيع الاستثمار في القطاع.

أمّا التحدي الثاني فيتمثّل في التصدير وحسب السيدة نادية فنينة المديرة العامة لوحدة النهوض بالاستثمار وتصدير الخدمات الصحية فإنّ صناعة الدواء في تونس تصدّر اليوم ما قيمته 180 مليون دينار. والمؤمل الترفيع في هذه القيمة إلى 1350 مليون دينار اعتبارا لما لتونس من قدرة صناعية هامّة في مجال الدواء (48 مصنعا) وترى السيدة نادية فنينة أنّه يمكن تحقيق ذلك بالتقليص في مدّة الحصول على رخصة ترويج الدواء والعمل على التصدير نحو أسواق جديدة خاصّة وأنّ الدواء التونسي يتمتّع بسمعة طيبة من حيث جودته بالإضافة إلى تنظيم قطاع التصدير ببعث شركات مختصّة في هذا المجال أو انشاء مركز تصدير تابع لوزارة الصحة لأنّ المصدّر اليوم هو المصنّع ...

المقترحات التي يطرحها أهل المهنة

يحتاج القطاع  إلى مقاربة جديدة تجعل من هذه الصناعة أكثر تنافسية وانتشارا في الأسواق العالمية وتحافظ على التطوّر الذي يشهده وتضمن مزيد تنظيمه بوضع نصوص قانونية تستجيب للمستجدّات في مستوى المعايير الدولية وللتطورات التكنولوجية في هذا المجال من خلال سياسة دوائية أكثر مرونة. وتتمثّل مقترحات أهل المهنة فيما يلي:

  • دعم الصيدلية المركزية التي تؤمن للبلاد التزود بالدواء وتحمي تونس من الأدوية المقلّدة أو التي تفتقر إلى الجودة.
  • تمكين الصيدلية المركزية من القيام بدور في تطوير تصدير الأدوية التونسية.
  • دعم منظومة تصدير الأدوية وتذليل الصعوبات في مجال النقل المرتبط بتصدير الأدوية ومزيد دعم البنوك للتصدير.
  • تذليل الصعوبات التي تحول دون تسجيل الدواء التونسي في أوروبا.
  • توفير حماية للصناعة الدوائية التونسية أمام الدواء الجنيس الأجنبي الذي يروّج في السوق التونسية بصورة قانونية لكنه يباع بأسعار أقل من أسعار نفس الدواء المصنع محليا ومراجعة قرار تمكين الأدوية الأصلية المستوردة التي تنافس الدواء التونسي من الدعم والذي بلغ ما قيمته 55 مليون دينار سنة 2018 من إجمالي الدعم المخصّص للدواء والذي بلغ في نفس السنة 210 ملايين دينار .
  • تمكين المصنّعين من تشجيعات لتطوير الأدوية الجنيسة وتوسيع مصانع الأدوية.
  • اعتبار تذبذب العملة عند تحديد سعر الدواء المستورد وتفادي الخسارة عند تصدير الدواء للخارج ليكون قادرا على المنافسة.
  • الفصل بين تحديد سعر الدواء والحصول على ترخيص الترويج ومراجعة التوجّهات الخاصّة بالترخيص واعتماد المرونة في تسعير الدواء وفي إجراءات التسجيل.
  • العمل على تشجيع انتاج الأدوية المجددة من البيوتكنولوجيا لأنّ كلفة استيرادها مشطّة ممّا سيخفّف أعباء التوريد لكنّه سيزيد في حجم الصادرات نظرا إلى أنّ تلك الأدوية مطلوبة عالميّا.
  • إنشاء مخابر وطنية تختصّ في دراسات التكافؤ الحيوي التي كان المصنع التونسي يقوم بها في الخارج. ويمكن للسوق التونسية أن تستوعب 10 مخابر من هذا النوع يمكن الاستفادة منها في تونس علاوة على تصدير خدماتها إلى الخارج علما أنّها لا تحتاج إلى استثمارات كبيرة وأنّ الكفاءات البشرية متوفّرة.
  • التسريع في الترخيص للمستثمرين بإنشاء مصانعهم.
  • تشجيع الاستثمار اعتبارا لوجود فرص استثمارية وازدياد الطلب على الدواء.
  • وضع نصوص قانونية تنظّم البحث العلمي وتدعمه.

خالد الشّابي

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.