منجي الزيدي: عن الإخفاق المدرسي

 منجي الزيدي: عن الإخفاق المدرسي

تعيش الأسر التونسية في نهاية كلّ عام دراسي على إيقاع نتائج الامتحانات، فتتعالى أهازيج الفرح وزغاريده في بيوت كثيرة، وتغرق بيوت كثيرة أخرى في صمت الحسرة والشعور بالخيبة. ذلك أنّ التعليم مازال يعتبر أحد شروط النجاح في الحياة، ومقياسا أساسيا لتقييم مكانة الفرد في المجتمع، ومازال التونسيون يبذلون الغالي والنفيس من أجل تفوّق أبنائهم ويعتبرون ذلك علامة من علامات نجاحهم هم كأولياء في حياتهم الشخصية وانعكاسا لمكانتهم الاجتماعية، ومظهرا من مظاهر التباهي والافتخار.

وإذا كان المجتمع يحتفي بالناجحين ويُبجّل المتفوّقين ويكرم الفائزين فإنّه كثيرا ما يظلم المتعثّرين وأولئك الذين لم يوفّقوا في تحقيق النتائج المرجوّة والمنتظرة منهم. ويتجلّى الظلم في الاعتقاد المنتشر لدى فئات كثيرة بأنّ الاخفاق المدرسي هو علامة فشل وهزيمة، وفي تحويل نتائج الامتحانات من معطيات موضوعية تتطلّب التحليل والفهم والمعالجة إلى أحكام معيارية تفضي إلى وصم اجتماعي وتربوي بالخيبة يطال أعدادا هائلة من أبناء المجتمع وبناته ويلقي بهم في دائرة الإبعاد والإقصاء. ونجد صدى ذلك في المثل القاسي الذي تتداوله الأجيال والقائل «عند الامتحان يكرم المرء أو يهان». والواقع أنّ ترديد مثل هذه المعاني لا يحفّز الهمّة بل يثبطها ويؤجّج مشاعر الرهبة والخوف من خوض تجربة التعلّم والاستفادة منها ويجعل منها محكّا اجتماعيا يقتل كلّ إرادة وطموح ويزرع بذور اليأس ويجعل من الفشل نتيجة لا مناص منها.

لقد أثبت علم الاجتماع منذ ما يزيد عن أربعة عقود أنّ المدرسة تعيد إنتاج التفاوت الاجتماعي وأنّ الحظوظ ليست متساوية بين الطبقات الاجتماعية في التحصيل العلمي والحصول على الشهادات ومن ثمّ الارتقاء في السُلَّم الاجتماعي، وتكفي نظرة سريعة على خارطة توزيع نسب النجاح في امتحانات البكالوريا في دورتها الأولى لسنة 2019 بالبلاد التونسية للوقوف على ذلك. ولكنّ هذا المنظور لا يكفي لوحده لفهم خارطة توزيع الإخفاق المدرسي. وذلك لأنّ أبناء المناطق المحــرومة اجتمـــاعيا لا يَقلّون عن غيرهم من أبناء المناطق المحظوظة في المدارك والطاقات والاستعدادات والمؤهّلات المعرفية، ولكن تعوزهم وسائل التحصيل المعرفي وجودة وسائله وظروفه المساعدة. فالنجاح ليس خصلة كامنة وليس موهبة فطرية يتمتّع بها فرد دون آخر، كما أنّ الإخفاق ليس جبلّة أو قدرا محتوما. الأمر لا يتعلّق إذن بخارطة لتوزيع الموهبة والذكاء بقدر ما هي خارطة لتوزيع الحيف الاجتماعي.

الإخفاق المدرسي ظاهـــرة شـــائعة في كلّ المجتمعات، ولكن الاختلاف يكمن في التعاطي معها وفي التعامل مع التمثّلات الاجتماعية للنجاح والفشل. كما أنّها ظاهرة مركّبة ذات أبعاد اجتماعية وتربوية جماعية وأخرى نفسية- فردية. وعلى السياسات التربوية أن تأخذ بعين الاعتبار أن توفّقها في معالجة هذه الظاهرة شرط أساسي لتطوير ثقافة النجاح وتحقيق النتائج الإيجابية. وتكون البداية بإزالة الحكم المعياري عن الإخفاق الدراسي والكفّ عن اعتباره فشلا ذريعا وإعاقة دائمة، والنظر إليه في أبعاده المتعدّدة.

ويأتي في مقدّمة هذه الأبعاد المحيط الاجتماعي والسياسة التربوية المُتّبَعة وطبيعة المناهج المعتمدة من حيث مضامينها واتصالها بالواقع الاجتماعي ومتطلبات العصر، وإعادة النظر في الأساليب البيداغوجية ونظم التقييم والاعتماد وإسناد الشهادات. وكل ذلك رهين المشروع المجتمعي الذي نحمله ونحلم به لأجيالنا الصاعدة. ماذا نريد لأبنائنا؟ ماذا أعددنا لهم؟ كيف نرافقهم في مسيرة حياتهم المحفوفة بشتّى المخاطر والمزروعة بمختلف العقبات والصعوبات وعوامل الإحباط واليأس؟ تلك هي الأسئلة الحقيقية وتلك هي المسألة. وإنّ مسؤولية المُدرِّسِين في هذا السياق لجسيمة، باعتبارهم أحد أهمّ الفاعلين في عملية التنشئة عموما وليس فقط في العملية التعليمية.. لن يجدينا نفعا أن يرمي بعضنا المسؤولية على البعض الآخر  فكلّنا راع وكلّنا مسؤول عن رعيّته. ولقد أثبتت الدراسات الحديثة أهمية الكفاءة البيداغوجية  في معالجة الصعوبات التعليمية وتيسير الفهم وتحقيق التركيز وتحفيز الهمّة. فدور المدرّس ليس الاحاطة بالمتميّزين فقط وجعلهم في مقدّمة الفصل بل إيلاء جهد مضاعف للمتعثّرين والمتقاعسين المنزوين في الصفوف الخلفية، فمظاهر اللامبالاة بالدراسة والعزوف عنها ليس معطى فطريا يولد مع الفرد بل هو نتيجة لعوامل مختلفة. فكم من تلميذ نجيب حاصل على أعلى العلامات والمعدّلات في الابتدائي يتحوّل إلى مشاغب متقاعس لا يطيق المدرسة ولا يحفل بكتاب وكراس بمجرّد انتقاله إلى المستوى الثانوي، وكم من تلميذ خرج من المراتب الأخيرة كالسهم يحقّق الإنجاز تلو الآخر في حياته الدراسية والشخصية.

صحيح أنّ الإخفاق المدرسي تجربة مؤلمة نفسيا واجتماعيا باعتبارها تعاش كذنب أو كعاهة ولكنّها يجب أن تؤخذ كدرس تُستخلص منه العبر للمضيّ قدما. وإنّ من مسؤولية المدرّسين أن يعتبروا أنفسهم المسؤولين الأوّلين عن تحقيق نجاح تلاميذهم وطلبتهم، وأنّ من صميم وظيفتهم إصلاح الخطأ وإقالة العثرات، فالتعاطي مع طلاب العلم بمنطق الانتقائية المفرطة والتقييم الآلي الذي لا يعطي الفرصة الثانية والثالثة هو تعميق لمآسي التربية والتنشئة التي تعيشها مجتمعاتنا. فعندما يجد التلميذ نفسه خارج المدرسة معنويا وماديا فإنّه سيمضي إلي مسالك الانحراف والجنوح...والأسرة التي تعاقب أبناءها وتحقرهم بمجرّد التعثّر في تحقيق نتائج مدرسية كما ينتظرها الأولياء يساهمون في تعميق شروخ نفسية عميقة وجراح معنوية لا تندمل بسهولة وتؤثّر على باقي مسار الحياة. مجتمعنا بحاجة لمدرسة تزرع الأمل و تتيح الفرص وتبني الجسور الممدودة وتمهّد المسـالك المفتوحة، حتّى لا ننتـــج المزيد مــــن الشبــاب المصــنّــف في دائـــرةNEET (Not in Employment ,Education , or Training) أي الشباب بدون شغل ولا تعليم ولا تدريب...فتكون الخيبة العظمى والإخفاق المجتمعي الأكبر.

منجي الزيدي
أستاذ تعليم عال بجامعة تونس

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.