اليـمـن والحـرب العبثـية التي لا تـريد أن تضع أوزارهـا
مرّةً أخرى أعود إلى الكتابة عن الحرب في اليمن وعليه...ولهذه العودة داعيان اثنان: أوّلهما استرعاء الانتباه، من جديد، إلى الكارثة الإنسانية التي ما فتئ اليمن وشعبه يعيشانها من جرّاء هذه الحرب العبثية التي دخلت، في شهر مارس الماضي، سنتها الخامسة، أمّا ثانيهما فهو تسليط الضوء على جديد هذه الحرب، وأعني بجديدها ظهور طائرات جماعة »أنصار الله« المسيّرة في سماء المنطقة، وتمكّنها من ضرب مواقع حيوية في العمقين السعودي والإماراتي ممّا شكّل، حسب الملاحظين، حدثا لافتا يستحقّ التوقّف عنده.
إنّ بعض الملاحظين يرون أنّ هذا الجديد يكتسي أهميّة استراتيجية لا جدال فيها، ذلك أنّه يعني أنّ الحوثيين بصدد تغيير قواعد «الكرّ والفرّ»، وأنّهم باتوا قادرين على إلحاق الأذى بزعيمتي التحالف العربي الذي يحاربهم، في عقر دارهما، وعلى تهديد أمنهما ومصالحهما الاقتصادية تهديدا حقيقيا... وفي هذا السياق يقول الخبراء في المجال العسكري إنّ الحوثيين «يمتلكون ترسانة عسكرية كبيرة من الطائرات المسيّرة ذات الأشكال والأحجام المختلفة، التي يمكنها أن تحلّق مئات الكيلومترات وهي محمّلة بالكثير من المواد المتفجّرة، وتستطيع أن تحدّد الأهداف وأن تصيبها بدقّة كبيرة»، وممّا يؤكد ذلك أنّهم أعلنوا أنّهم يخطّطون لمهاجمة 300 هدف عسكري حيوي في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة واليمن، بواسطة هذا السلاح الجديد الذي استطاع، رغم صغره وانخفاض كلفته، أن يثير قلق الرياض وأبو ظبي خاصّة وأنّه قد يستخدم مستقبلا في ضرب بناهما التحتية ومنها خاصّة، بالإضافة الى المنشآت النفطية، محطّات الاتصالات، وتوليد الكهرباء ومضخّات المياه... وهو ما ستكون له تداعياته الخطيرة على الاستقرار في البلدين، وعلى سير حياتهما الاقتصادية حيث أنّه سيمسّ من صورتهما كشريكــين نفطيين مستقــرّين للاقتصاد العالمي. وعلى هذا الأساس، يبدو أن الهدف الأساسي من هجمات الحوثيين الأخيرة ومن تهديدهم بتكرارها مستقبلا، هو دفع الرياض إلى أن تــدرك أنّ لا خيار أمامها سوى الركون إلى طاولة التفاوض للخروج من هذه الحرب العبثية التي أثبت تعاقب السنوات أنّها لا يمكن أن تضع أوزارها، ما لم يكن أحد الأطراف المتنازعة قادرا على حسمها، أو ما لم تكن جهة دولية أو أممية قادرة على الضغط من أجل وقفها...
ولعلّه ممّا يغذّي الأمل في ذلك عند الحوثيين أنّ بعض الدول العربية المشاركة في التحالف آثرت الانسحاب منه، كما أنّ آخر الأنباء تفيد بأنّ الإمارات العربية المتحدة، وهي إحدى زعيمتي التحالف، قامت أوهي تقوم بتقليص حجم مشاركتها في عملياته، نتيجة توالي الضربات الموجعة التي تلقّتها من الحوثيين، وإذا استمرّ هذا الوضع، فإنّ المملكة العربية السعودية لن تلبث أن تجد نفسها وحيدة في مواجهة الهجمات الحوثية المتزايدة يوما بعد آخر...
غير أنّ الجدير بالملاحظة أنّ محلّلين آخرين يرون، على العكس من ذلك، أنّ سلاح الطائرات المسيّرة مهما كانت خطورته وأهميته ليس من شأنه أن يغيّر مسار الحرب بصورة جذرية، فهو لن يكون كافيا لإجبار المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة على الجلوس مع جماعة «أنصار الله» إلى مائدة المفاوضات، وذلك، في رأيهم، للأسباب الكبرى التالية:
1 - أنّ استمرار الحرب ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها لا سيما في هذه المرحلة التي تصاعد فيها التوتّر بين إيران وخصومها، لأنّه قد يستخدم كقادح من قوادح المواجهة المحتملة مع طهران، ولذلك فقد كان من اللافت، بمجرّد شنّ الهجمات الحوثية بالطائرات المسيّرة، المسارعة إلى اتهام إيران بالوقوف وراءها، إمّا من خلال تزويد الحوثيين بهذه الطائرات أو تدريبهم على استخدامها. ومعلوم أنّ التحالف العربي ما فتئ يؤكّد أنّ التدخّل الإيراني في اليمن له أبعاد جيوسياسية وآثار استراتيجية ترتبط بمشروع إيران للهيمنة على المنطقة، وأنّ الحوثيين ليسوا سوى أداة من أدوات تنفيذ هذا المشروع الذي يستهدف محاصرة دول الخليج، وبالأخصّ المملكة العربية السعودية... وما دامت هذه الهواجس الخليجية قائمة فإنّ الحرب ستتواصل، ولن يكون بالإمكان إيقافها الاّ إذا عرفت العلاقات الخليجية الإيرانية انفراجة ما، قد تدفع إليها بقية عقل في التعاطي مع الوضع المتوتّر الراهن، وتفرضها ضرورة تلافي الحرب المحتملة التي يمكن أن تزلزل كيانها.
2 - أنّ نوازع الشوفينية والعناد والمكابرة التي ما تزال تحرّك بعض أطراف النزاع لن تسمح بوقف الحرب، بل إنّ هناك من يرى أنّ هجمات الحوثيين الأخيرة ستؤدّي إلى تأجيج نار الحرب في اليمن وليس العكس. وقد ظهر ذلك بالفعل في نظرة الرياض إلى هذه الهجمات التي اعتبرتها «عديمة الأثر في ساحة المعركة»، كما ظهر في ردّة فعل التحالف عليها حيث قام في اليوم التالي بتوجيه ضربات جوية انتقامية على صنعاء، سقط ضحيّتها العديد من المدنيين، بمن فيهم الأطفال، بين قتلى وجرحى وذلك بالرغم من أنّ التحالف أكّد أنّ ضرباته استهدفت مواقع ذات طابع عسكري، وأنّه تمّ تحذير السكان لإخلائها قبل ضربها... على أنّ الخطير في الأمر، هو أنّ دول التحالف لم تدرك بعد أنّ الحرب على اليمن مجازفة لم يكن من الحكمة التورّط فيها، بل إنّها ترى أنّ هذه الحرب شرّ لا بدّ منه، وهذا ما يمكن أن نقرأه في أدبيات بعض المدافعين عن هذه الحرب حيث يقول المحامي السعودي المتخصّص في القانون الدستوري وحقوق الإنسان، ورئيس منظمة العدالة الدولية أحمد بن عثمان التويجري في مقال نشره في 4 أكتوبر 2018: «كان من الطبيعي، بل ومن الواجب، أن تتصدى المملكة ومعها قوى التحالف لجرائم وتجاوزات الحوثيين، وبخاصّة بعد طلب الحكومة اليمنية الشرعية ذلك. وما من شكّ في أنّ تدخّل القوات السعودية والتحالف في اليمن كان تدخّلاً مشروعاً في ميزان القانون الدولي، وقبل ذلك وأهمّ منه تؤيّده الحاجة الواقعية الملحّة والمصالح العليا لليمن ودول الجوار. إنّ ممّا لا خلاف عليه أنّ الحرب شرٌ بكلّ المقاييس، وأنّ حرب اليمن كانت ولا تزال شرّاً كبيراً، ولكنها في الوقت نفسه كانت، وللأسف الشديد، حرباً ضرورية بشكل ملحّ لحماية اليمن ومقدراته، ولصيانة مستقبل أجياله، وللدفاع عن دول الجوار وأمنها واستقرارها. وغنيّ عن القول إنّ الشرّ الأعظم يدفع بالشرّ الأدنى إذا لزم الأمر، وإنّ المفسدة الكبرى تُدرأ بالمفسدة الصغرى، وهذا أصل ثابت في الشريعة الإسلامية، ولا خلاف عليه في كلّ القوانين والأعراف الإنسانية المعتبرة».
3 - أنّ الرهان الاقتصادي على الحرب واستمرارها رهان ضخم من قبل تجار السلاح الذين لا يريدون لمبيعاتهم من الأسلحة لأطراف التحالف أن تتوقّف. وهنا ينبغي أن نلاحظ أنّ تقريرا أعدّه معهد ستوكهـــــولم الدولي لأبحـاث السـلام «سيبري: SIPRI» عن عمليات بيع وشراء السلاح بين عامي 2014 و2018، أكّد أنّ المملكة العربية السعودية احتلّت المركز الأول فيما احتلت الإمارات العربية المتحدة المركز السابع عالمياً في قائمة مورّدي السلاح. ويدقّق المعهد أنّ ثلاثةً من كلّ خمسة أسلحة تمتلكها قوّات التحالف مصدرها مصانع السلاح الأمريكية. ومن ناحية أخرى تُشير معلومات مرصد المساعدة الأمنية (SAM) وهو مركز أبحاث أمريكي إلى أنّ الولايات المتحدة الأمريكية عقدت صفقات قيمتها 68.2 مليار دولار، مقابل أسلحة ومتفجّرات وأنظمة أسلحة وتدريبات عسكرية مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، منذ بداية حربهما مع اليمن...
وقد أكّدت وزارة الخارجية الأمريكية أنّ هذا الرقم قريب من القيمة الإجمالية لمبيعات الأسلحة إلى التحالف منذ مارس 2015 حيث أنّها بلغت حسب، إحصاءاتها، حوالي 67.4 مليار دولار. وللإشارة فقط، فإنّ هذا المبلغ الذي تمّ إنفاقه على شراء الأسلحة، يساوي 17 ضعفا لمبلغ الأربعة مليارات دولار التي ناشدت منظمة الأمم المتحدة العالم جمعه لتقديم المساعدات الإنسانية اللازمة للشعب اليمني بعنوان سنة 2019. ومع أنّ القناعة تامّة بأنّ التوقّف عن تزويد أطراف النزاع بالأسلحة سيساعد على وقف الحرب، فإنّ ذلك لا يبدو واردا حتّى اليوم، رغم جميع المحاولات التي بذلت من أجل ذلك خاصّة في أعقاب قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي الذي شكّل مناسبة للفت الانتباه إلى الوضع اللّاإنساني في اليمن والى انتقاد استمرار الولايات المتحدة الأمريكية في بيع الأسلحة لدول التحالف العربي.
ولئن أعلنت بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي (على غرار هولندا وبلجيكا واليونان والنرويج وفنلندا والدانمرك) تعليق عمليات بيع ونقل الأسلحة إلى المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، جزئيا أو كليّا، فإنّ أكبر مزوّدي الدولتين بالأسلحة (أي الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا وفرنسا...) واصلوا، رغم جميع الاحتجاجات والضغوط البرلمانية والحقوقية والشعبية وغيرها إمدادهما بالسلاح دون انقطاع. وفيما يتعلّق بالولايات المتحدة بالذات، ينبغي التذكير بأنّ إدارة الرئيس باراك أوباما أبرمت، خلال السنوات الثماني التي قضّاها في البيت الأبيض، صفقات أسلحة بقيمة 117 مليار دولار، مع المملكة العربية السعودية، غير أنّها قامت، قبيل انتهاء فترته الرئاسية الثانية، بتعليق صفقات بيع الذخائر الموجّهة بدقّة بسبب مخاوف تتعلّق بحقوق الإنسان، بيد أنّ الرئيس دونالد ترامب ألغى هذا التعليق، وقد كان ذلك طبيعيا من رئيس يخوض غمار السياسة الدولية بمنطق رجل أعمال بلا مبادئ يزن العلاقات مع بقية دول العالم بميزان الربح والخسارة، لا غير...
لكلّ هذه الأسباب، وتأسيسا عليها، فإنّ الغالب على الظنّ أنّ استخدام سلاح الطائرات المسيّرة لن يكون كافيا، حتّى وإن عاضدته الصواريخ الباليستية الجديدة، لتقريب ساعة انتهاء الحرب في اليمن وعليه، بل إنّ هذه الحرب مرشّحة لأن تواصل الانتقال من سيّء إلى أسوأ، وأن مأساة الشعب اليمني التي اعتبرها الأمين العام للأمم المتحدة «أسوأ أزمة إنسانية من صنع الإنسان في عصرنا» ووصفتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر بأنّها «الأزمة الإنسانية الأكبر في العالم» مرشّحة للاستمرار والتفاقم...
والخلاصة هي أنّ نهاية الحرب والمأساة في اليمن لن تتنزّل من السماء بواسطة الطائرات بطيارين او بلا طيارين، وإنّما ينبغي أن تنبثق من الأرض وأن تتحقّق عليها، فهل ستدرك الأطراف المتنازعة هذه الحقيقة؟.
محمد إبراهيم الحصايري
- اكتب تعليق
- تعليق