رشيد خشانة: مُدونة سلوك لمحاسـبـة المسؤولين عن التلوث الأخلاقي
مُدوَنة السلوك هي مجموع القيم والمبادئ الأخلاقية القابلة للتطبيق في كلّ زمان ومكان، بحسب فلاسفة الأنوار في القرن السابع عشر
ميشال مافيسولي
يدور جدلٌ سخنٌ منذ أسابيع في شأن وضع ميثاق أخلاقي لتسييج العمل السياسي، وبشكل خاصّ النشاط الحزبي، في فترة دقيقة مثل الفترة الانتخابية المقبلة. والأكيد أنّ الانزلاقات التي وصلت إلى حدّ التماهي مع صحافة المجاري، أعطت صورة سلبية عن الأحزاب لدى الرأي العام، ونَفّرت الناس من السياسة أصلا، بما ينعكس عزوفا عن الذهاب إلى مراكز الاقتراع، وكُفرا مطلقا بالسياسة والسياسيين. يمكن القول إنّ التفكير في وضع ميثاق أخلاقي يُقيّدُ الأحزاب ويُلجم، أخلاقيا، سائر اللاعبين في الفضاء العام، ظاهرة تطفو على السطح كلّما حمي وطيس المعارك، وتكرّرت زلاّت اللسان، وأحيانا إبراز القبضات والعضلات، ممّا جعل حرم مجلس النواب يكاد يتحوّل إلى حلبة ملاكمة. وإذا كانت مواثيق الشرف الانتخابية في عهد النظام السابق تُوضع لكي تُنتهك قبل أن يجفَّ حبرُها (مثال انتخابات 2009)، فإنّ الساحة السياسية بحاجة أكيدة اليوم إلى ميثاق يُطبّق بأقصى الحزم والصرامة.
شاهدنا في مجلس النواب كيف تحوّلت سلاطة اللسان إلى برنامج سياسي، كما شاهدنا جلسات مساءلة تتحوّل إلى مُباذأة، وارتفع أحيانا منسوب القذف والتشهير والشتيمة إلى حدّ استوجب تعليق الجلسات أكثر من مرّة. وكان الأمر يقتضي، بعد تكرُّر تلك الانزلاقات، الاتجاه إلى وضع مدوَّنة سلوك مُلزمة. لكن التخويف من تحوّلها إلى قيد دفع إلى التخلي عنها (مؤقتا). لذا فإن بعض المتحفّظين على الفكرة مُحقّون في تحفّظهم، لأنّ المواثيق التي وُضعت لم تُطبق، فقبيل انتخابات المجلس التأسيسي (2011) وقع رؤساء عشرة أحزاب، (بمبادرة من رئيس «الهيأة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي» الأستاذ عياض بن عاشور، على «الميثاق الجمهوري». لكن كثيرا من الموقعين عليه، انتهكوا بنوده قبل الحملة الانتخابية وأثناءها وبعدها، مثلما هو معروف. ولعلّ ذلك ما حمل البعض على المطالبة وقتئذ بعرض مشروع الميثاق على الاستفتاء الشعبي، فيما اقترح آخرون إضفاء «صبغة قانونية» عليه، لكي يلتزم بمبادئه جميع المتنافسين في الانتخابات التأسيسية.
تكرّرت التجربة مجدّدا في 22 أكتوبر 2014، مع وضع «ميثاق شرف الأحزاب والتكتلات والمترشحين المستقلّين من أجل انتخابات نزيهة وشفافة وديمقراطية». ومرّة أخرى، عرف الميثاق الجديد مصيرا غير مختلف عن سلفه. ما من شكّ في أنّ الانزلاقات والزلاّت التي ارتُكبت بوعي وتخطيط، تحت قبّة مجلس نواب الشعب (وأمام ذهول أفراد الشعب)، وكذلك العراك المنهجي في الحوارات التلفزية، تفرض كلّها العمل على صوغ وثيقة جديدة ومُحيّنة، تسدُّ هذا الفراغ. وما نحتاج إليه اليوم بالتحديد هو جهاز رقابي ينبع من صلب المُدوّنة أو الميثاق (التسمية ليست مهمّة)، ويرصد أنواع الخروق والانزياحات، ويُرتبُ عليها عقوبات. صحيح أنّ القانون الجزائي وسائر المدوّنات القانونية الأخرى تنصّ على عقوبات في حالة ارتكاب الجرائم التي تُحرّمها مدوّنة السلوك الأخلاقي، غير أنّ ميزة هذه المدوّنة ستأتي في تجميع تلك العقوبات في نصّ موحَد، فمدوّنة السلوك تشكّل حزمة من القيم والمبادئ الأخلاقية الصالحة لكلّ زمان ومكان، لكنّ المُعزَّزة بآلية تنفيذية تُسلّط العقاب المناسب على المُنتهكين والمتجاوزين.
ولا ينبغي أن يقتصر مجال عمل المُدوَّنة على إضفاء الطابع الأخلاقي على الحياة الوطنية، من خلال وضع آلية الرقابة فحسب، وإنّما ينبغي أن يشمل أيضا وسائل الإعلام، وخاصّة منها ذات الوزن الثقيل، لتحريم التنابز بالألقاب والسباب والخصومات الشخصية. وهنا يأتي دور«الهيأة العليا للإعلام السمعي البصري»، فالهيئة تنهض بمهمّات معروفة في جميع المناسبات الانتخابية، وهي مُجهَّزة بما يلزم من مُعـــدّات تقنية متطوّرة للنهــــوض بتلك المهمات، لكـــن لا ينبغي أن تبقى قراراتها حبرا على ورق بسبب تقصير الجهاز التنفيذي. وتغدو مسؤولية وسائل الإعلام أكبر وأدق في مثل هذه الظروف الخاصّة، لأنّها تكون بمثابة المربي الجماعي للرأي العام، ولذلك نرى تونسيين، من أعمار مختلفة ومشارب متباينة يعتبرون وسيلة الإعلام، وتحديدا الراديو أو القناة التلفزية، مصدرا أساسيا للمعلومة وقدوة يقتدي بها. وأوّل من انتبه إلى الوظيفة التربوية للإعلام هو الحبيب بورقيبة، الذي كان يتصرّف تصرُّف المُربي في معظم خطبه، وقد كانت فرحته بلا حدود عندما انطلق بثّ التلفزة الوطنية، فقال للتونسيين إنّه أصبح يدخل إلى بيوتهم في كلّ الأوقات. وبقدر أهميّة الإعلام في المحطات الانتخابية، وجب إعطاء الهيأة التعديلية صلاحية المراقبة والمحاسبة، للحدّ من التجاوزات، في انسجام مع القوانين الزجرية.
يكفي أن نراجع مستوى الجدل السياسي في المحطات الانتخابية السابقة، لنُدرك أنّ المضمون الأخلاقي يتراجع القهقرى، من محطّة إلى أخرى، وأنّ كثيرا من اللاعبين باتوا يستسهلون الانفلات من الأخلاق والقانون، مما يستوجب إحداث آلية المراقبة والمحاسبة، لحماية الديمقراطية من العابثين بها.
رشيد خشانة
- اكتب تعليق
- تعليق