عبد الحفيظ الهرڤام: ليبيا, كارثة إنسانية على حدودنا الجنوبيــة
أبشع ما في الحروب، فضلا عن إراقة الدماء وانتشار الخراب والدمار، ما تتسبّب فيه من كوارث إنسانية تستنكرها الضمائر وتتفجّع لها القلوب. من زاوية أبعادها المأساوية تطلّ علينا الحرب المستعرة في الجارة ليبيا بفظاعاتها وأهوالها: قصف عشوائي للمدنيين العزّل واستخدامهم أحيانا دروعا بشريّة في ساحات القتال وإعدامات خارج إطار القانون وعمليات اختطاف للحصول على الفدية واعتقالات تعسُّفية في السجون في ظروف مزرية حيث يقبع ليبيون وأجانب بصورة غير قانونية -والبعض من هذه السجون تحوّل إلى حاضنات للفكر المتطرّف والجماعات الإرهابيّة - واعتداءات على العاملين في القطاع الطبّي في مستشفيات أثقل كاهلها عدد الضحايا الهائل ونيل صارخ من كرامة الإنسان وحرمته الجسديّة ذهب حسب بعض التقارير إلى حدّ الاتّجار بالبشر وإجبار مهاجرين على السّخرة في انتهاك خطير للقانون الإنساني الدولي، علاوة على تردّي الأوضاع الصحيّة في عدد من مراكز إيواء اللاجئين حيث تنتشر الأمراض المعدية ومنها مرض السلّ ويموت فيها من يموت جرّاء سوء المعاملة ونقص الرعاية.
وكان أحد هذه المراكز ليلة 2 جويلية الجاري عرضة لغارة جويّة نسبتها حكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السرّاج إلى قوّات المشير خليفة حفتر التي تحاصر طرابلس منذ أفريل الماضي حيث أودت الغارة التي شُنَّت على مركز تاجوراء في الضاحية الشرقية للعاصمة بحياة أكثر من أربعين شخصا وأدّت إلى إصــابة ما يزيد عن 130 آخرين بجروح بالغة. وهي المرّة الثانية التي يقصف فيها مركز إيواء يحتجز فيه قرابة 600 مهاجر.
وقد وصف الممثّل الخاص للأمين العام، رئيس بعثة الأمم المتّحدة غسّان سلامة هذه الغارة بـ«العمل الجبان» الذي «يرقى بوضوح إلى مستوى جريمة حرب، داعيا «المجتمع الدولي إلى إدانة هذه الجريمة وإلى تطبيق العقوبات الملائمة على من أمر ونفّذ وسلّح هذه العملية».
ومع استمرار «معركة طرابلس» التي خلّفت 700 قتيل و400 جريح وتسبّبت في نزوح قرابة 100 ألف شخص من بيوتهم، معظمهم من الأطفال والنساء، تفاقمت معاناة المواطن الليبي وازدادت أوضاعه المعيشية سوءا إذ بدأت المواد تشحّ وخصوصا الوقود نظرا للانفلات الأمني وزيادة الطلب عليها من جانب الأطراف المتنازعة وأخذت أسعار الأغذية في الارتفاع في عموم البلاد، علاوة على الأضرار التي لحقت شبكة التيار الكهربائي والنقص الحاصل في المياه مقارنة بالطلب عليها إذ أصبحت تستخدم في العاصمة والمنطقة الشمالية الغربية بأسرها سلاحا لإجبار الطرف المقابل على التنازل بعد أن قامت المجموعات المسلّحة بقطع الإمداد عن النهر الصناعي، ممّا يعرّض عشرات الآلاف من البشر لمخاطر محدقة، حسب البعثة الأممية.
ولأنّ المآسي غالبا ما تتناسل، فقد أصبحنا نعيش بسب تدهور الأوضاع الأمنية في ليبيا مأساة تصاعد موجة الهجرة السريّة المنطلقة من سواحل هذا البلد نحو مالطا وإيطاليا ومعها تزايد عدد الغرقى من بين الطامحين إلى حياة أفضل في بلدان الضفّة الشمالية للمتوسّط ممّا حدا بالناطق الرسمي باسم المفوضيّة السامية للاجئين إلى دقّ ناقوس الخطر في الأيّام الأخيرة إذ قال نقلا عن صحيفة The Guardian: «إذا لم نتدخّل سريعا فإنّ البحر الأبيض المتوسّط سيتحوّل إلى بحر دم». وحسب المفوضيّة فإنّ غرق المهاجرين بلغ حدًّا غير مسبوق جرّاء نقص قوارب النجدة والنزاع المسلّح في ليبيا.
وتفيد بيانات المفوضيّة السامية للاجئين والمنظمة الدولية للهجرة أنّ 1940 شخصا قادمين من شمال أفريقا وصلوا إلى إيطاليا منذ بداية سنة 2019 وأنّ قرابة 350 شخصا توفّوا أثناء عبورهم المتوسّط في حين أكّدت دراسة قام بها معهد الدراسات العليا السياسية الدولية بإيطاليا استنادا إلى أرقام وزارة الداخلية أنّ مهاجرا على ثمانية توفّي غرقا في المتوسّط من جانفي إلى أفـــريل 2019. ولا شكّ أنّ ما زاد الطين بلّة الإجراءات الصارمة التي اتخذتها الدول الأوروبية لإحكام غلق حدودها أمام المهاجرين إذ يبدو أنّه لم يعد يهمُّها كثيرا أن يلقى مهاجرون حتفهم في البحر. إنّه لموقف غريب يتعارض مع القيم الإنسانية والمبادئ الأخلاقية ، لازمت إزاءه المجموعة الدولية صمتا رهيبا محيّرا. فبدل مساعدة الدول النامية على النهوض باقتصادياتها بما يحول دون لجوء مواطنيها إلى الهجرة غير النظامية آثرت بلدان الشمال الاستمرار في سياساتها الحمائية المتشدّدة، معوّلة على بلدان الشمال الأفريقي ليكونوا حرَّاس سواحلها، وكأنّ أمنها لا يتوقّف أيضا على رخاء الدول الأخرى اقتصاديا واجتماعيا.
وبالتوازي مع سهرها على حماية الحدود البريّة والبحرية والتصدّي للهجرة السريّة لم تتأخّر وحدات الجيش والحرس الوطني في إسعاف المهاجرين ونجدتهم كلّما حصل حادث غرق قارب من القوارب وكذلك في انتشال جثث الغرقى إيمانا منها بواجبها الإنساني، رغم ما يمثّله ذلك من عبء إضافي لتونس التي تعيش ظروفا اقتصادية واجتماعية صعبة وتواجه تحديات أمنية في علاقة بحربها على الإرهاب.
إنّ هذه الكارثة الإنسانية على حدود تونس الجنوبية ستتعاظم ما لم تبادر مختلف أطراف النزاع في ليبيا إلى الجلوس إلى مائدة الحوار لإيجاد تسوية للأزمة بعيدا عن منطق القوّة وما لم تكفّ قوى إقليمية ودولية عن التدخّل في الشأن الليبي وتقلع عن سياساتها الأنانية التي تغلّب مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية على مصير هذا البلد وشعبه وعلى الأمن والاستقرار في المنطقة..
عبد الحفيظ الهرڤام
- اكتب تعليق
- تعليق
قرأت المقال حول الحرب التي تدور رحاها على مشارف حدود بلادنا. فهو خطر يحدق بنا فمتى سيعي المسؤولون في لبيا الشقيقة أن باعة الأسلحة والمهربون يبتزّون الأموال وبذلك ويشجّعون عدم الاستقرار في منطقتنا