زكريا بن مصطفى: تحية وشهادة
أقيمت صبيحة يوم السبت 13 جوان 2019 بالقصر السعيد باردو أربعينية المرحوم زكريا بن مصطفى وكنت أقررت العزم على حضورها ولكن موانع طارئة حالت دون أداء هذا الواجب. لو حضرت لربما شاركت مع المتدخلين للحديث عن رجل في منتهى التحضر ودماثة الأخلاق. كان يعرف أقدار الناس ويغض الطرف عن سيئاتهم وسوءاتهم وإذا سألته عن فضيحة أو سلوك مشين يعرف دقائقه يجيبك بابتسامة عريضة: "بلغني شيء من ذلك".
أنا رجل شديد الانتباه لتصرفات مسؤولينا مع نظرائهم الأجانب وكنت أصنفهم إلى طائفتين:"مخجل" و"غير مخجل" وكثيرا ما كنت أخجل فعلا مما كان يصدر عن بعض الوزراء وسامي الموظفين من سخيف الكلام وبداوة التصرف في مثل هذه المناسبات واللقاءات. وفي هذا المجال، زكريا بن مصطفى كان من الصنف المشرِّف.
توطدت علاقاتي به على الأخص مدة إشرافي على الإذاعة والتلفزة وكان من بين المسؤولين الذين كنت أرتاح لهم وأفضي إليهم بما أتعرض له من إكراهات ودسائس. كنت أبوح له بذات النفس عسى أن يذكرني بخير ولم يبخل بذلك.
معروف عنه أنه كان من جلساء بورقيبة القلائل صبيحة أيام الأحد. كان لهؤلاء المقربين البعيدين عن الأضواء تأثير سيِّء على مجريات عمل الحكومة. على سيبل المثال فإن تهرئة الوزير الأول محمد مزالي بعزل أعضاده تباعا فيما سمي سنة 1986 بمسلسل يوم الاثنين، كان لزوار قصر قرطاج نهاية الأسبوع دور تدميري فعال. إلا أن زكريا بن مصطفى كان يتعفف عن مثل هذا التلاعب القذر. ولقد صادف أن جمعتني به دعوة على مائدة الغداء الرئاسي ذات يوم أحد من ربيع 1982 فلم أر منه إلا مكارم الأخلاق. وسأروي ما جرى خلال هذا الغداء الاستثنائي مع المجاهد الأكبر في كتابي القادم عن "المستمع الأكبر".
سافرت مع الفقيد، سنة 1985، إلى روسيا باعتباره رئيس جمعية الصداقة التونسية السوفياتية.كانت رحلة موفقة وكان فيها خير من يمثل تونس بشاشة ولطف حديث وبراعة تفاوض...
ثم عملت إلى جانبه، أيام اضطلاعه بمقاليد وزارة الشؤون الثقافية، مديرا عاما للدار العربية للكتاب فمديرا عاما للمطالعة العمومية. وقربني إليه وكان بصدد إعداد هيكلة جديدة للوزارة تقوم على أقطاب أساسية منها على سبيل المثال إدارة عامة تجمع كل المصالح المعنية بالكتاب من آداب ومطالعة وشراءات وتبادل. وكذلك بالنسبة إلى كل ما هو سمعي بصري بما يقتضي من تعاون وثيق مع الإذاعة والتلفزة. كانت هذه الهيكلة ترمي إلى جمع الدوائر المتجانسة اجتنابا للتشتت وغلبة قطاع على حساب قطاع. وكلفني بالتنسيق العام بين كل الأقسام المشاركة في الاستشارة وتقديم التصورات…
وفي بدايات شهر أفريل 1988 حصل ما لم يكن متوقعا. صبيحة يوم الخميس 7 إذا صدقتني الذاكرة دعاني الوزير إلى مكتبه فاستقبلني بابتسامة عريضة وسألني: متى يكون هيكلنا التنظيمي جاهزا؟ قلت : نحن جاهدون في الأمر. قال: متى؟ قلت: بعد ما لا يقل عن شهر؟ قال: هذا كثير يجب أن يكون المشروع كاملا وفي شكل أمر رئاسي للإمضاء في ظرف أسبوعين لا أكثر. قلت: مستحيل، هناك مصالح غير مكتملة المواصفات، فضلا عن شرح الأسباب والديباجة العامة والتفصيلية. قال: خمسة عشر يوما نبيتُ خلالها في الوزارة إذا لزم الأمر. ثم أضاف:كنت هذا الصباح عند السيد الرئيس (زين العابدين بن علي)وحدثته عن نشاط الوزارة وعن كل مشاريعنا فأبدى ارتياحه الكامل لسير العمل وقال "ايتني مباشرة بالOrganigramme حال استكماله وسأوقعه" ولذلك علينا أن نتم العمل في أقرب وقت ممكن…
وشرعنا في العمل واشتغلنا حتى في يوم السبت 9أفريل ويوم الأحد 10منه وفي يوم الاثنين 11 أعلنت الرئاسة إعفاء زكريا بن مصطفى وتعويضه بعبد الملك العريف. واندهشت الوزارة بالكامل لقرار يأتي بعيْدَ أيام من استقبال رئاسي شديدالحرارة ومن تجديد ثقة بالوزير تكاد تكون عمياء. أي خطأ سياسي فادح، أية خطيئةمن الكبائر أغضبت الأمير وهو المعروف بأنه عبد انفعالاته؟ وذهبت بنا التخمينات كل مذهب. والرأي عندي أن زكريا بن مصطفى ظل على وفائه لبورقيبة وهذه من الخصال المعيبة عند بن علي. ولكن لماذا استقبله بحفاوة قبيل العزل؟ كان بن علي يُطَمْئِنُ بعض ضحاياه لتكون ضربته أشد إيلاما. وفي 12من أفريل 1988، انتظم حفل التنصيب والتوديع. مازالت كلمات زكريا بن مصطفى ترن في أذنيّ: "إذا سألتم الله فاسألوه البخت وإذا سألتموه البخت فاسألوه حسن الخاتمة، وهذا هو حسن الخاتمة عندي. عملت بإخلاص من أجل تونس ومن أجل إشعاعها وقبل أيام قليلة عبر لي السيد الرئيس عن كامل رضاه وشجعني على المضي قدما على طريق الإصلاح والنهوض وهذا الرضى كنز أخرج به من هذه الدار التي أحببتها وأحبتني" لم أنس هذه الكلمات البسيطة في ظاهرها المشحونة بالتهكم في باطنها والتي تفضح خساسات الحاكم بأمر الله.
وإن أنس فلا أنسى النزاهة اللتين عالج بهما تهم فساد كيدية تهم القطاع الثقافي وتطال مسؤولين كبارا مغضوبا عليهم وهذه حكاية يطول شرحها وقد تكون نزاهته هذه من أسباب حقد الرئيس السابق الذي كان يود لو أن الوزير تواطأ بالقضية المطروحة آنذاك في الاتجاه المرغوب. ولكن زكريا بن مصطفى هو ممن نعتهم القاضي إياس بن معاوية بـ "أهْلِ البيوتات الذين يسْتحْيُونَ لأنسابِهم".
عبد العزيز قاسم
- اكتب تعليق
- تعليق