الدراما والواقع, أيـّــة عــــلاقة؟
يقدّم لنا مسلسلا »المايسترو« و»نوبة« اللذين حقّقا نجاحا جماهيريا لافتا إجابتين مختلفتين عن سؤال التقاطع بين الدراما والواقع، السؤال الذي يثار كلّما احتجّ المتفرّجون ضدّ مشاهد العنف والشذوذ والانحراف في بعض الأعمال الدرامية الخالية من أيّ مضمون قيمي إيجابي والتي تقدّمها بعض قنوات القطاع الخاص لغايات تجارية محض وتحظى للأسف بمتابعة كبيرة من قبل الشباب سريع التأثّر على وجه الخصوص. والإجابة الكلاسيكية إزاء هذا الاحتجاج المشروع: »ذلك هو الواقع!«، أو »لماذا تتعايشون مع الجريمة في الحياة اليومية وترفضونها في الدراما؟« طبعا مع استخدام عبارة عبد العزيز العروي الشهيرة لتذكير المحتجين بأنّهم غير مرغمين على المشاهدة وأنّ قنوات القطاع الخاص غير ملزمة بما ينبغي أنّ يلتزم به المرفق العام.
في «المايسترو» وعلى طريقة الأفلام السينمائية اختار المخرج اللوحة الأخيرة كي يعلن أن العمل مستوحى من تجربة واقعية خاضها صاحب الفكرة « رياض الفهري» عندما درّس الموسيقى لنزلاء إحدى الإصلاحيات، من ثمّة يتّضح للجمهور أنّ النواة الأساس في هذا العمل المتخيّل قصّة حقيقية أخضعها المؤلّف إلى شروط الكتابة الدرامية فجعلها منطلقا فاصلا بين زمنين ومحرّكا أساسيا للأحداث يكشف الصراعات النفسية والمادية التي تتطوّر عبرها الشخصيات. والحيلة السردية هنا كلاسيكية ومعروفة تقوم على اختراق العوالم المغلقة والمنكفئة على ذاتها لاكتشافها من الداخل، وقد فتح كاتب «المايسترو» أبواب الإصلاحية على مصراعيها بإدخال عنصر أجنبي هو «حاتم التونسي» الذي كان يمرّ بأزمات عنيفة في حياته الاجتماعية والعاطفية جعلته هو أيضا يبحث عن منطلقات جديدة لاكتشاف ذاته، وعبر هذا اللقاء القائم على التحاور بين المجتمع والسجن عبر الموسيقى طرأت تحوّلات على كلّ الشخصيات.
نفس التقنيات استخدمت في «نوبة» حيث تؤدّي معركة تافهة في ملهى ليلي إلى دخول «ماهر» السّجن ولقائه «الصادق» الشخصية الغامضة المحمّلة بالأسرار، وعبر هذا اللقاء يطرأ على شخصيته تحوّل أساسي يجعله يقرّر تغيير عالمه بعد الخروج من السجن ودخول مجال الفن الشعبي (الموندو)، ولا يفصل الكاتب بين السجن والمدينة فيجعل أحدهما امتدادا للآخر حيث تنتقل الشخصيات ذاتها من هنا إلى هناك، كما يهيمن العنف في كلا الفضاءين على قاعدة البقاء للأقوى، فتنفتح أمام الجمهور عوالم مغلقة مجهولة ومسيّجة بالأحكام المسبقة ويكتشف المتفرّجون مع ماهر كلّ أشكال الصراع التي تتحكّم في العلاقات داخل هذا العالم السفلي، هنا تمثّل المدينة ومحورها «سوق البلاط» هامش المجتمع، وهي نفس الصورة التي صاغها المنصف ذويب في «سلطان المدينة»، والحال أنّ التلفزيون عموما ظلّ يقدّم هذه المدينة بالشكل الذي صوّره علي اللواتي في «الخطّاب على الباب» فضاء للمجتمع التقليدي المحافظ وإطارا فولكلوريا يعزف على وتر النوستالجيا لطبقة بورجوازية لم يعد لها وجود هناك.
في مستوى البناء الدرامي ينبغي أن ننتبه إلى ما يميّز « نوبة» ويمنحها طرافتها، فالشخصية الرئيسية خضعت إلى التحوّل خلال الحلقات الأولى التي صوّرت تجربة السجن، ثمّ ظلّت في ما تبقّى من حلقات تسعى إلى إضفاء شرعية على هذا التحوّل، وهي الشرعية التي لن تحصل عليها إلاّ بكسب ثقة «عم الهادي» و«غنوش» بعد مواجهة القوى المهيمنة على مجال الفتوّة «برينغا، ابراهيم» والانتصار عليهما رمزيا وإن بشكل مؤقّت تمهيدا لاكتمال الشرعية بالاعتراف بماهر «مغنيا شعبيا» وهو ما لم يتحقّق في ذروة المسلسل حيث تلقّى البطل طعنة من مجهول وهو في طريقه لنيل هذا الاعتراف.
حرص عبد الحميد بوشناق على تنزيل الأحداث في سياق زمني محدّد بدقّة حين ربط القصّة بنواة من الواقع هي حفل النوبة في مسرح قرطاج 1991، وحرص في مستوى الديكور والأكسسوارات على إعادة بناء عالم التسعينات مع التركيز في حوار مفتّش الشرطة الشاب مع رئيسه المتقاعد من العمل على التغيّرات العنيفة التي أصابت المجتمع في تلك المرحلة وهي متغيّرات ترتبط بالسياق التاريخي محليّا وإقليميا ودوّليا، وسيكون للإطار الزماني أهمية قصوى في تشكيل القصة لسببين أوّلهما ذاتي حيث تتوفّر في مسلسل «نوبة» ملامح سينما المؤلّف وهي رؤية ذاتية بالأساس، فقد صرّح المخرج وهو في ذات الوقت كاتب السيناريو أنّ النية كانت متجهة في البداية إلى كتابة فيلم ثمّ تطوّرت لاحقا إلى مسلسل، وأنّ المنطلق الأوّل هو ذكرياته الشخصية في كواليس النوبة التي شارك فيها والده الفنان لطفي بوشناق مشاركة متميّزة على قصرها، أمّا السبب الثاني فيتعلّق بوضع الفنّ الشعبي في تلك المرحلة الزمنية حيث كان مسكوتا عنه وينسب إلى الهامش لمنعه من العرض الإذاعي والتلفزيوني في عهد الرئيس الحبيب بورقيبة وارتباطه في الذهنية العامة بعالم الانحراف والجريمة، قبل أن تخرجه «النوبة» من ظلمات الهامش وتمنحه شرعية الحضور عبر مصالحة تاريخية مع السلطة ممثّلة في وزارة الثقافة ومهرجانها السيادي. وهكذا ترسم القصة رحلة البحث عن الشرعية، وكما كان ماهر يريد أن يصبح مغنيا معترفا به، كان عم الهادي ومن ورائه عالم المزود بأكمله ينشد الاعتراف به فنّا قائم الذات أوّلا، ومنفصلا عن الجريمة والانحراف حيث لا يقتصر توزيع المخدّرات والاتّجار فيها على فئة دون أخرى بل استخدم المؤلف شخصية الطبيب المدمن لتأكيد هذه الرسالة.
في هذين التجربتين «المايسترو» و«نوبة» كان المعطى الواقعي بمثابة حجر الأساس، حيث توجد منطقة ما من الدراما يلتبس فيها الخيالي بالتاريخي، وهو نوع من التهجين السردي يتنازل فيه الكاتب طوعا عن حريته ويلزم نفسه بشروط الواقع، الأمر الذي فعل عكسه تماما مجدي السميري في مسلسل «القضية 460» حيث أنشأ القصّة في عالم خاصّ بها هو مزيج من عوالم مختلفة، فجمّع عناصر من أزمنة وثقافات متباينة في الواقع وصهرها ليصنع منها عالم الحكاية، وهو عالم لا يحتكم إلى المنطق الواقعي ولا إلى شروط الحقيقة إنّما يكتفي بالإيهام، فالمشهد الأوّل الذي ينفتح به المسلسل والذي تقدّم فيه الفتاة رشوة للقاضي لا ينتمي إلى الواقع لكن أيّ أهميّة لذلك وهذا المشهد على تلك الشاكلة يعتبر نواة الحكاية وأساسها؟
لكنّ التقاطع مع الواقع التاريخي في الأعمال الدرامية لا يخلو من محاذير في مستوى التلقّي، فالذائقة العامة تميل غالبا إلى فحص التطابق بين الواقع وصورته في الدراما، وهكذا قيل إنّ الإصلاحية التي صوّرها مسلسل «المايسترو» لا تمتّ إلى نظيرتها في الواقع بصلة، وذلك في خلط واضح ومتعمّد بين الدراما بوصفها عملا خياليا والأفلام التسجيلية والوثائقية المطالبة بمحاكاة الواقع وإعادة بنائه مثلما كان، ويتجاهل أصحاب هذا الرأي أنّ العمل الدرامي سيلفت الانتباه بقوّة إلى هذا العالم المغلق ويجعله يتطلّع إليه لا بعين التشفّي بل برؤية إصلاحية، كما أثار سمير العقربي زوبعة في وسائل الإعلام احتجاجا على تغييبه في مسلسل نوبة وهو الذي يقدّم نفسه بوصفه العمود الفقري لتجربة «النوبة» الواقعية، ما يؤكّد أنّ الواقع ليس معطى ثابتا بل هو في جوهره تصوّر ذاتي.
وفي كلّ الحالات تؤكّد هذه الظواهر أثر الدراما في الواقع لا العكس، إذ تستطيع الكتابة الخلاّقة عبر الشخصيات الخيالية المبتكرة تحريك الواقع وتغييره إيجابيا فيما يظلّ التذرّع بالواقعية للاحتجاج على كمّ هائل من العنف يقدّم بشكل استعراضي ضربا من التمويه والمغالطة لمداراة الضعف الفني لا غير، وقد أتاحت كثير من الأعمال الدرامية التي عرضت في هذا الموسم في مقدّمتها الأعمال التي تطرّقنا إليها في هذا المقال للجمهور الوقوف عند تجارب فنية مختلفة ومميّزة وقدّمت للساحة الفنية جيلا جديدا من الكتّاب والممثّلين بما يمكن أن يشكّل لقاحا مثاليا ضدّ الرداءة بمختلف تجلّياتها.
عامر بوعزّة
- اكتب تعليق
- تعليق