أخبار - 2019.07.03

المشهد الديني في تونس: مـفــتاح للـمســتــقبـل, إضاءة من المذهب الحنفي

المشهد الديني في تونس: مـفــتاح  للـمســتــقبـل, إضاءة من المذهب الحنفي

1 - لاستجلاء الواقع التديّني في تونس وقصد إعداد «استراتيجية وطنية لتأهيل الفضاء الديني» تمكّن فريق بحثيّ متعاون مع وزارة الشؤون الدينية ومسند بفريق تابع لرئاسة الحكومة التونسية إلى تحليل معطيات إحصائية بالغة الدلالة. كشف هذا المسعى الذي يرجع إلى سنة 2014 عن إرادة مختلفة في التعامل مع هذا الشأن تقطع مع ما ساد منذ عقود. هي أوّل مرّة، في تونس الحديثة، تطلب فيها السلطة السياسية الرسمية، متمثّلة بالخصوص في الوزير السيد منير التليلي، حصرا كميّا لظاهرة التديّن من أجل تشخيص ما بين الطلب التديُّني للمجتمع التونسي وبين ما توفّره المؤسّسات الرسمية الخاصّة بهذا المجال.

2 - معنى هذا أنّ إدارة الشأن الديني صارت تتطلّب مقاربة تختلف عمّا استقرّ عليه الأمر مع الاستقلال من أنّه مجال تكون سياساته ومناهجه وتشريعاته من اختصاص الدولة وحدها. تُفضي النتائج الميدانية المستخرجة من عملية سبر الآراء المنجزة والمحلّلة من قِبل الفريق البحثي الذي أُنجز عمله على عَيّنَة ممثلة من 2400 مستجوب إلى أهمية حضور المسألة الدينية في حياة المجتمع التونسي بنسبة 85 % وأنّها بالنسبة إلى 57 % منهم أساسية. في مستوى ثانٍ تؤكّد الأرقام أنّ 74% من المستجوبين يطالبون الدولة بعمل تأهيلي لمجالات الحقل الديني لحاجته الأكيدة لذلك باعتبار محدودية استجابته للانتظارات المُعبَّر عنها. في مستوى ثالث يعتبر 75 % من العيّنة أنّ الدولة مُقصّرة في تربية الناشئة على الثقافة العربية الإسلامية وترى نسبة 69% من المستجوبين أنّ ما يُقدَّم في خصوص الشأن الديني بالمعاهد والمدارس منقوص في حين أنّ 26 % من هذه النسبة تعتبر أنّه يحتوي على أخطاء. لا تزيد بقيّة التفاصيل إلاّ تأكيدا على أنّ الشأن الديني صار يمثّل مأزقا لا يُهتَدى إلى وجهــــه ناهيك أنّ 69% من المستجوبين يؤيّدون عودة التعليم الزيتوني إنْ بشكله العتيق (21 %) أو بشكل متطوّر (48 %).

3 - مؤدَّى هذا يدفع لاستحضار تاريخنا لنجد أنّ الحقل الديني أفضى إلى وضع مأزقي لم يندثر فيه القديم ولم يولد منه الجديد. شهادة التاريخ الحديث والمعاصر تثبت أنّنا حين قمنا بدولنة الشأن الديني بادّعاء إصلاحه انتهينا إلى طمس معالمه وتصحّر فضائه. بالمقابل فقد عرفنا بعد الثورة تجربة مختلفة تراخت فيها سلطة الدولة بما أفضى إلى واقع مُختَلّ استفاد من حالة التصحّر ليفتح أبوابا للفتنة.

بهذا قاربنا التحامَ المأزق التديُّني بملف آخر مُعضِل للشباب المفقَّر عمليا وثقافيا وروحيا مع استتباعات ذلك من عنف دموي ومهاوٍ للمخدّرات والانتحار وما شابهها من هروبيات البحث عن فردوس مفقود.

عند هذا الحدّ يُطرح سؤال: كيف يكون الإسهام في مقاربة مضائق هذا الوضع الشائك الخطير؟

يذهب البعض إلى أنّ الأمر مرهون أساسا بالعامل السياسي في سياقه الانتقالي الصعب لاستعادة مكانة مغايرة لما عاشته تونس طوال عقود. لكنّ تشخيص فريق «استراتيجية وطنية لتأهيل الفضاء الديني» وإن أَوْلى العامل السياسي عناية واضحة فقد نبّه على الحالة الثقافية المعطوبة. على هذا صار المشهد التديّني في تونس بحاجة إلى مراجعة جديّة لسياسة «دولنة الدين» مع أولوية اعتماد مقاربة اجتماعية- ثقافية تمكّن الشأن الديني من الخروج من حالة العطوبة التي تُفقده فاعليته الحضارية.

4 - منتهى هذه الدعوة اعتمادُ مقولة «الفصل والوصل» التي تجعل الشأن الديني متميِّزا عن الشأن السياسي ومقتضيات تسيير الدولة وقيامها بمهامها دون أن يؤدّي ذلك إلى قطيعة يصبح «الدين» فيها من متعلّقات الفرد خاصّة بما يمنع أيّ أثر أو تأثير للتديّن في المجال العام ومقوماته واحتياجاته.

هي نظرة اجتماعية- ثقافية تميّز بين الدين والتديّن باعتبار الأوّل واحدا بينما الثاني له تعبيرات متعدّدة. بهذه النظرة يتنزّل الإسلام ضمن تراتبية ثلاثية: هناك أولا المركز المشتمل على المبادئ والقيم والأحكام  تصحَبه ثانيا الرؤية التي يصوغها المركز في صلته بالإنسان والتاريخ والطبيعة. بعد ذلك يأتي بعدٌ ثالث أدقُّ وأشملُ يتعلّق بالحالة الثقافية التي تتولّد عن المستويين السابقين فيما يتعيّن لدى المسلمين ومن يساكنهم في المجال الاجتماعي والمؤسّساتي من تعبيرات فكرية وسلوكية وذوقية وتواصلية. بالتركيز على المستويين الثاني والثالث تتبيّن خصائص التديّن في قيمتها الفكرية ونفاذها الثقافي من خلال فاعليتها المجتمعية. عندها تتحدّد إمكانيات الحالة الدينية في تميّزُها عن مجال الفعل السياسي لعلاقتها بتحرّر الفرد والجماعة من عوامل التبعية والاستلاب ولما يمكن امتلاكه من رؤية حضارية مميزة ووعي تاريخي للإسهام في إبداع صيغ وحلول وتقنيات جديدة.

5 - لشرح خصائص الواقع التديّني في التاريخ الوطني في ضوء مقولة «الفصل والوصل» يقدّم نموذجُ المذهب الحنفي في خصوصيته التونسية مثالا جيّدا باعتباره أحد أهمّ مكوّنات المشهد الديني. ظهر هذا المذهب للفقه والتشريع في العراق أوائل القرن 2 هـ/ 8 م ليتطوّر عبر مدرسة أهل الرأي لأبي حنيفة النعمان الكوفي (تـ150هـ/767م). في تونس ظهر المذهب الحنفي على يد القاضي أسد بن الفرات ( تـ 213 هـ/828 م) الذي أخذ عن أصحاب أبي حنيفة في العراق بعد أخذه العلم عن مالك بالمدينة. عند الرجوع إلى القيروان درّس ابن الفرات وأفتى مستفيدا من المدرستين الحنفية والمالكية. بعده ساد المذهب الحنفي في ظلّ الدولة الأغلبية حتّى عهد المعز بن باديس الصنهاجي (1008 - 1062م) الذي حمل جميع أهل المغرب على التمسّك بالمالكية».

بعد غياب مديد عاد المذهب الحنفي للظهور ثانية عند الفتح العثماني سنة 981 هـ/1574م بطرد الإسبان وسقوط آخر الحفصيين. عندها صار المذهب الحنفي مذهبا رسميّا في القضاء والإفتاء دون أن يمنع المذهب المالكي من الإمامة والتدريس. شهدت تونس في القرن الموالي تدرّجا انتقل بنفور الأهالي من العلماء الأحناف لغلبة النزعة العسكرية عليهم ولجهلهم بالعربية إلى الرضا بهم بتكوّن جيل من العلماء المولودين بتونس المتطبّعين بعاداتها والمتعاونين مع رجال الإفتاء المالكيين. لكن هذا لم ينفِ التنافس الخفي والمعلن بين أعلام المذهبين والذي كانت تغذّيه الأوضاع السياسية المختلفة.

هذا التكاتف مع السياسي لم يشغل الأحناف عن التواصل مع المجتمع وثقافته واحتياجاته فشقّوا طريقهم في صميم مناخ اجتماعي وثقافي متحرك ومؤهَّل لتقبّل التعددية المذهبية بل الاستفادة منها.

6 - في كتابه «معالم التوحيد» يعرض محمد ابن الخوجة لجانب من المشهد التديّني في تونس فيقول: « كما أنّ جوامع الخطبة بتونس العاصمة في العهد الحسيني وعددها تسعة عشر جامعا توزّعت على المذهبين، منها اثنا عشر جامعا تقام فيها الصلوات على قواعد المذهب المالكي وسبعة لإقامتها على قواعد المذهب الحنفي». ويضيف « أنّ التعليم بجامع الزيتونة أُسند بالمساواة في عهد المشير الأوّل أحمد باي (تـ1855) إلى المشايخ المالكيين والمشايخ الحنفيين، إذ جعل التدريس في الجامع في طبقة واحدة مركّبة من ثلاثين مدرِّسا نصفُهم من علماء الحنفية ونصفهم من علماء المالكية.

قبل هذا وبعده كانت للأحناف في تونس مكانة مميّزة سياسيا وعلميا واجتماعيا. ما لا يمكن إغفاله سبقُهم في التنظير لتبعية المرجعية الدينية للسلطة السياسية للشيخ محمد بن حسين بيرم (تـ1214 هـ/ 1799م) في «رسالة في السياسة الشرعية» تقرُّ التوسعةَ على الحكام فيما يريدونه من السياسات لـ«أنّ ذلك ليس مخالفاً للشرع» باعتبار مطلق المصلحة وبناء على أعمال الصحابة فيما لم يقم به الرسول ولم يأمر به. في السياق المالكي انخرط روّاد المذهب في العصر الحسيني ، في مسعى علمي واجتماعي- ثقافي لتطوير أشكال التمفصل بين الديني والسياسي في التاريخ التونسي والمغاربي عموما. كانوا بذلك مع بعض شيوخ الحنفية  في تجاوب مع ديناميكيات الواقع الاجتماعي وعوامل تجدّد النخب وحراك الطبقات بما يسّر تأسيس التيار الإصلاحي تمهيدا للحركة الوطنية.

7 - مع انطماس مكوّنات هذا المشهد المتشابك والمتحرّك بوعي جنينيٍّ لمقتضيات مقولة «الفصل والوصل» تـمَّـتْ «دولنة الدين» في إهمال لإمكانيات تطوّر ذاتي للمشهد التديّني.

اليوم تتأكد المراجعات النوعية ليس بمعنى استنساخ ما مضى أو استعادة حنينية لمكوّنات المشهد المُنقضي. المقصود استيعاب الطلبِ التعبدّي والأمن الروحي الفردي والجماعي والترقّي بهما إلى مستوى مصالحة المجتمع مع نفسه ومع عصره عن طريق تطوير للذات من الداخل. من الجهة الأخرى، نفسُ المراجعة تقتضي السعي إلى بناء دولة ترتقي بواقع الاختلاف في الساحة الوطنية بما ينجز بدائل مشتركة تقيم سلطة الدولة دون إعادة إنتاج آليات الهيمنة القديمة تحصينا لأركان المجتمع والدولة في آن.

 احميده النيفر

جـامعي وعضو بيت الحكمة

1 - أُنجز الاستطلاع على جزئين خلال شهري سبتمبر وأكتوبر 2014 وشمل كل منهما على عيّنة مكوّنة من أكثر من 1200 مستجوب ممثلين للمواطنين الذين تزيد أعمارهم عن 18 سنة، مع احترام المعايير التالية: * التوزيع بين الرجال والنساء* التوزيع حسب المستوى التعليمي* التوزيع بين المجال الحضري والمجال الريفي*التوزيع الجغرافي حسب الولايات.

2 - التديّن شامل لخمسة أبعاد: بُعد الاعتقاد وبعد الممارسة وبعد المعرفة وبعد التجربة وبعد الانتماء.

مثل الألوهية والوحي والاستخلاف والحرية والعدل والصلاة والصوم والزكاة....

3 - انظر محمد ابن الخوجة، معالم التوحيد، الطبعة الأولى، تونس 1939، ص 39.

4 - من أبرزهم الشيخ إبراهيم الرياحي (تـ 1266هـ/1850م).

5 - من أمثال محمد بيرم الرابع (تـ 1278هـ/ 1861م) وبيرم الخامس (تـ1307هـ/1889م).

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.