الشّابة ... مــدينـة البحـر والسمــاء والدفء الاجتماعـي
لن يبرح الشعور بالألفة فؤادك وأنت تحدّث شيب مدينة الشابة وشبابها، فيفكّون لك طلاسم سحر بحرها ورمالها وألغاز تاريخها الضارب في القدم بل ويزجّون بك في أسرها حتّى لا تقوى على نسيانها.
جمعيات ناشطة وشباب يهوى التطوّع في سبيل عروسهم، التي تقبع على الساحل الشرقي لتونس غير بعيد عن عاصمة الفاطميين المهدية، فمنهم من أطلق حملة لجمع أموال لشراء آليات عصرية وجديدة لفائدة المستشفى المحلي ومنهم من جعل من حديقة المستشفى جنّة غنّاء وآخرون أحدثوا به مكتبة هائلة لفائدة المرضى.
أهالي الشابة لا يتوانون عن التضحية من أجل مدينتهم، لا سيّما وقد ضمت جمعية النهوض بالطالب الشابي التي تأسّست سنة 1948 وجمعية أحباء الشابة التي ما فتئت تغرس الأشجار في محيطات المدارس الابتدائية والإعدادية والمعاهد الثانوية حتّى باتت غير قادرة على استيعاب التلاميذ المتطوّعين من أجل تحسين المؤسّسات التربوية.
شباب مبتكر ومتطوّع
شبـــاب يتّقــد حيـوية ولا ينقصه الإبداع والابتكار إذ حوّلوا، مؤخّرا، دار الثقافة إلى لوحة فنية تجلب الروّاد وأرسوا مكتبات بعدد من المدارس الابتدائية وزودوها بمجموعة هامّة من الكتب متنّوعة الاختصــاصات.
وينفرد سكان المدينة بطرق التعبير عن رفضهم للخدمات العمومية التي تقدّم لهم من مختلف المصالح الحكومية الجهوية إذ ابتكروا حملة للتعبير عن استيائهم من كثرة الحفر التي تملأ الطرقات وتعيق مرور العربات وسير المترجّلين فبعثوا برسالة فنية لبلديتهم التي تدخّلت في الإبّان لإصلاح الوضع.
وتتمثّل الرسالة في التقاط صوّر مختلفة لشباب جعل من الحفر التي غمرتها مياه الأمطار إمّا مكانا لغسل الثياب أو بركة لصيد الأسماك في تعبير مجازي عن ضرورة الإصلاح وتهيئة الطرقات.
وانعكس تآزر الأهالي ووفاؤهم لمدينتهم على القطاع الرياضي إذ تمكّن فرع كرة القدم لهلال الشابة من تحقيق حلم طالما انتظره أنصاره فقد صعد، لأوّل مرّة منذ إنشائه إلى بطولة الدرجة الأولى المحترفة لكرة القدم قبل نهاية الموسم 2018 - 2019 بثلاث جولات.
ويولي أهالي الشابة بالغ الأهمّية للتربية والتعليم إذ تحتضن ثاني أقدم مدرسة ابتدائية في ولاية المهدية وقد تأسّست سنة 1907 لتكون شاهدا على مكانة التحصيل العلمي في هذه المدينة التي لا تتجاوز نسبة الأميّة فيها 1 بالمائة.
وأطلق المجتمع المدني منذ مطلع 2019 حملة واسعة لتنظيف غابة الدويرات التي تمسح 700 هكتار وتعدّ مكمنا هامّا للقطاع السياحي خاصّة وأنّها تحاذي رمال الشاطئ الذهبية وقد شملتها دراسة لإدراجها في الدورة الاقتصادية والتنمية المحلية بالمنطقة. وتعدّ غابة الدويرات، وهي غابة ليست طبيعية بل تمّ غرس أشجارها من قبل الجيش الوطني التونسي سنة 1964 لإقامة حواجز تمنع زحف رمال الشاطئ نحو الأراضي الفلاحية، ملاذا هامّا للعائلات وفسحة للترويح عن النفس ومعانقة الطبيعة.
على أرضها ترجّل القادة ورست الأساطيل
الشابة أو رأس قبدوية كما يحلو للبعض تسميتها تضمّ معلما أثريا ضاربا في القدم إذ يقف برج خديجة شاهدا على الحضارات التي تعاقبت على المدينة التي كانت، مثلما يروي المؤرّخون، منارة فكرية منقطعة النظير. ويعتبر برج خديجة جزءا من قصر قبودية، هذه التسمية المشتقّة من الاسم الروماني لمدينة الشابة «كابودي فلدا»، نزلت به جيوش القائد البيزنطي بليزاركن في أساطيل تضمّ مئات المراكب الحربية للزحف على قرطاج.
ويؤلّف أهالي الشابة مئات القصص والروايات عن تاريخ مدينتهم ومنها قصر قبودية الذي يعود إلى شاعرة تدعى خديجة بنت أحمد بن كلثوم المعافري الرصيفة التي عرفت برجاحة العقل وعبقريتها الشعرية وقد تيّمت بأحد الشبان رفضت أختها الكبرى زواجه منها.
الشابة وموقعها الاقتصادي على المستوى الجهوي والوطني
ولا يقتصر ثراء المدينة وإشعاعها على الجانب التاريخي، بل لا تزال الشابة قيمة اقتصادية هامّة على المستويين المحلي والوطني إذ يضمّ ميناؤها 70 بالمائة من أسطول الولاية من مراكب الصيد البحري وعددها 1633 مركبا. ولم يكتف بحر الشابة المعروف بزرقته التي تزيد في جمال المدينة وسحرها بل يمثّل مصدر رزق لما يربو عن 6000 بحار من بين 8600 بحار بولاية المهدية يوفّرون 70 بالمائة من الإنتاج الجهوي للأسماك والمقدّر بنحو 121 ألف طن سنويا (الثانية على مستوى الإنتاج الوطني).
وتتفرد المدينة بالصيد بالشرافي التقليدية التي تختلف عن مثيلاتها بكلّ من جزيرة قرقنة وجربة على مستوى الأعماق التي يغرس فيها جريد النخيل ليكوّن حواجز وغرف تسهّل دخول الأسماك من خلالها. ويصطاد أصحاب الشرافي، وهم من بين الفائزين ببتّة سنوية للشرافي تطلق بعد الراحة البيولوجية، في أعماق قد تصل إلى 3 أمتار فيما تنصب الشرافي في جزيرتي قرقنة وجربة في مياه ضحلة.
وقد شهد شاطئ الشابة يوم 23 فيفري 2019 ظاهرة غريبة تمثّلت في تراجع مياه البحر لمسافة تزيد عن 100 متر ليستفيق البحّارة على شاطئ دون ماء ومراكب راسية على الرمال. وفسّر الخبراء والمختصّون الظاهرة على أنّها تحدث في حالات ظهور العواصف والأعاصير التي تؤدّي إلى انخفاض شديد في الضغط الجوّي ممّا يسمح للبحر بسحب مياهه نحو المركز وهو ما حدث سابقا في جزر الباهاماس ومدينة ميامي وسلطة عمان.
صيف المدينة السّاحر
ورغم ما تتمتّع به الشابّة من عوامل جذب متعدّدة فإنّها كغيرها من المدن الساحلية تعاني من ارتفاع لظاهرة الهجرة سواء كانت النظامية أو السرية، إذ مثّلت ضفاف شمال المتوسط مقصدا لشبابها منذ التسعينات. ويساهم المهاجرون بدورهم بسخاء في المساعدة على إقامة المشاريع ومساعدة الفقراء وتهيئة المؤسّسات العمومية وخدمة الصالح العام في منطقتهم التي لا ينفكّون عن زيارتها سنويا وخاصّة في فصل الصيف. وتؤشّر حرارة الصيف كلّ عام على انطلاق التظاهرات الثقافية والمهرجانات ومن أعرقها مهرجان قبودية الذي يعانق سنة 2019 دورته 38 وتنّظمه جمعية قبودية للتنشيط الثقافي والشبابي بالشابة. ويطمح عشّاق الفنّ والإبداع بالمنطقة إلى إحداث مسرح للهواء الطلق يكون منارة ثقافية وتجمّعا فنّيا للأجيال الجديدة من المبدعين وهو ما يعتبرونه استحقاقا لا سيما وأنّ الشابة لطالما زخرت بكفاءات في الفنّ والتمثيل وصنع الآلات الموسيقية والتنشيط سطع نجمها على المستوى الوطني.
ولم يغب أبناء الشابة، منذ الاستعمار الفرنسي للبلاد التونسية، عن ساحات النضال السياسي والعسكري إذ قدّمت العديد من الشهداء فداء للوطن آخرها النقيب بفرقة الكومندوس بالجيش الوطني نزار المكشر البالغ من العمر 26 سنة والذي استشهد يوم 29 جويلية 2013 رفقة عدد من الجنود التونسيين في عملية غادرة للإرهابيين.
جمال رمضان
- اكتب تعليق
- تعليق