منجي الزيدي: النــسـاء الكــادحـات
قرية »البلاهديّة« الفقيرة لا تعرفها الأغلبية الساحقة من التونسيين. هي قرية ثكلى فقدت ذات فجر عددا كبيرا من أمهاتها وبناتها على إسفلت طريق الخبزة المُرّة. هنّ عاملات زراعيات بسيطات اصطدمت الشاحنة القديمة التي كانت تقلّهن واقفاتٍ إلى موقع عملهن بشاحنة أخرى كانت تحمل الدجاج!
حادثة أخرى، وغيرها كثير، ممّا تشهده بلادنا التي صارت المآسي فيها شيئا معتادا. مصيبة أخرى ممّا تعوّد عليه مجتمعنا من مصائب سريعا ما يطويها النسيان. و إذا كانت الكلمات عاجزة عن التعبير عمّا حدث، و التفكير غير قادر على استيعاب ما وقع فإنّ الدرس الأعظم المستخلص من المأساة هو درس الكرامة والشرف.
لا ريب أنّ العمل كرامة وشرف ومن آياته البليغة التضحيات التي تبذلها هؤلاء النساء الريفيــات العــاملات في الحقول والمزارع لقاء أجور زهيدة متجشّمات شتّى المصاعب، حـاملات لأثقل الأعباء، معرّضات حياتهنّ لمخاطر جمّة. جنديات مجهولات يسرين فجرا على متن عربات وشاحنات قديمة كثيرا ما تتعرّض لحوادث سير قاتلة فيكتبن بدمائهن الزكيّة على إسفلت الطرقات سطور مأساة، بل قل، ملحمة من ملاحم إرادة الحياة الشريفة.
ذلك أنّهنّ آثرن الأجرة على الصدقة، والحقّ المكتسب بعرق الجبين وكدّ اليمين على المنّ والشفقة. لقد طلبن ماء الحياة بعزّة، وعندما لم يجدن خبزا في بيوتهن خرجن على الناس مشمّرات عن سواعد البذل والنضال، وفضّلن ركوب عربات الموت على الموائد الخيرية و«كراتين» المســاعدات الظرفية. لقد تعلّقت همّتهن بأن لا تكون أيديهنّ الكادحة هي السفلى وأن ترتفع هاماتهنّ عاليا كما ارتفع وشاح «المحرمة» مضرّجا بدم إحدى الشهيدات رايةً خفّاقة في سماء تلك القرية المكلومة، ويتحوّل إلى تاج على رأس تونس بتمامها وكمالها.
النساء الفقيرات العاملات في بلادي هنّ عنوان شرف وهمّة. تُشاهدهنّ في أغلب مدننا يكنسن الطرقات وينظّفن الأرصفة من الأعشاب والأشواك، وتعترضك عجائز محنيات الظهور يحملن الحطب والأعلاف في قيظ الشمس الحارقة وتحت المطر وفي أيّام البرد القارس...وإنّك لتراهنّ ينتظرن الحافلات في جنح الظلام ليصلن إلى المصانع والمعامل أو في طريق العودة إلى بيوتهنّ منهكات مكدودات ليفنين ما تبقّى فيهنّ من قوّة وجهد في النهوض بأعباء البيت وتلبية طلبات ساكنيه...
بالمقابل تنتشر في مجتمعنا أسوأ مظاهر التقاعس والتكاسل والتحيّل على الواجب ومن صوّرها المكاتب الخالية من موظفيها أثناء التوقيت الإداري، والموظفون المنشغلون بصفحات الفايسبوك عن قضاء حاجات الناس ومصالحهم وإذا اضطرّوا إلى ذلك تثاقلوا وقاموا كسالى. ومن ضروبها المُعبّرة التّذرّع بأداء صلاة الجمعة للهروب من موقع العمل «هروبا شرعيا» هو أقرب للنفاق والتّحيّل منه للتقوى...والتفنّن في استنباط الحيل لتمطيط العطل وتمديد الإجازات...ومن أخطر أشكالها التخلّي عن الواجب وهضم حقوق الآخرين بتوقيف حياة الناس تحت شعار المطالبة بحقوق نقابية و مهنية قطاعية، وقطع الطرقات وغلق مواقع الإنتاج وتعطيل دواليب التنمية، وارتهان المجتمع صغارا وكبارا بغطرسة وأنانية واستهتار.
لقد سادت ثقافة الاستقواء وصار الكثيرون لا يرون سوى أنفسهم ومصالحهم وأرباحهم... صارت فئات عديدة تحسب نفسها «فوق المجتمع»، انتهى عهد الاستحقاق وإثبات الجدارة والخبــــرة ليحلّ محلّه عهــد ?Pourquoi pas moi و «أنا أو لا أحد».. الكلّ يرى نفسه مؤهّلا لكلّ شيء، الكلّ يرى نفسه الأوّل والأَولَى ولا يهتمّ إن كان حقّا هو الأجدر والأقدر... ولكم في الصراع على المناصب والوظائف أكثر من مثل. كما أنّ تضخّم الشهادات الجامعية وسهولة الحصول عليها أدّى إلى انتشار عقلية احتقار الحرف والصنائع، ونبذ روح المبادرة والمغالبة. كثيرون من سكّان المقاهي والمعتكفين فيها يعيشون عالة على أهاليهم يبحثون عن وظائف في القطاع العمومي حيث المرتّب مسمار ثابت في جدار استنزاف مقدّرات المجموعة، إذا عرضت عليهم أعمال شريفة تخدم البلاد والعباد فيها جهد وصبر ومعاناة لَوَوا رؤوسهم مستكبريـــن، ولاذوا بنواصي الشوارع أو قاعات شـــاي يستهلكون أعمارهم على نار الشيشة.
يُقاس تطوّر المجتمعات بالقيمة التي توليها للعمل،لذلك اشتهر اليابانيون بالكدّ والجدّ وتسخير أنفسهم للشغل حدّ الموت، والألمان بالدّقة والتّفاني، وعُرفت بعض جهات بلادنا بحبّ أهلها للكدّ والاجتهاد في طلب الرزق حيثما وجدوه. فلا ريب إذن أن تتقهقر المجتمعات الكسولة والمتواكلة وتتردّى أوضاعها، وتتفشّى فيها شتّى الآفات الاجتماعية والأمراض النّفسية والعلل الاقتصادية...
العمل قيمة وجودية، ولقد خُلق الإنسان ليعمل وينجز ويعمّر الأرض ليضمن بقاءه ويسعد ذاته وينشر الخير من حوله. وهو أيضا قيمة اقتصادية هي شرط من شروط النموّ ومقياس من مقاييس التقدم وارتفاع مستوى العيش ورفاهية الأفراد. كما أنّه قيمة أخلاقية ضامنة للكرامة مــن خلال كسب الرزق بشرف وأمانة وإخلاص. فما من نبيّ أو رسول إلا وكانت له حرفة يعيش منها فيأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وقد جرت عادات السلاطين والملوك على تعليم أبنائهم صنائع مختلفة رغم امتلاكهم لثروات تغنيهم عن كل مشقّة وعناء.
لذلك لن يكتب لنا النجاح ونحن قاعدون، ولن تقوم لنا قائمة ونحن عن العمل بتفان وأمانة معرضون... إنّ شهيدات الخبزة المُرَّة من سيـــدات «البلاهدية» الماجدات لعبرة.
منجي الزيدي
أستاذ تعليم عال بجامعة تونس
- اكتب تعليق
- تعليق