رشيد خشانة: وحقوق الأجـيـال القـادمة مـن يضمنها؟
نحن نحذق الغرق في صراعات الحاضر، وأحيانا في استعادة خصومات الماضي، القريب منه والبعيد، لكنّنا نكاد لا نُفكّر أبدا في ما للأجيال القادمة من حقوق علينا. لا نُخصّص لها بعضا من وقتنا، ولا نجتهد للبحث عمّا يجعل حياتها أفضل من حياتنا، ولا نرصد لها ولو النّزر القليل من استثماراتنا وخططنا التنموية. صحيح أنّ عبارة «التنمية المستدامة» صارت متداولة كثيرا، في سياقها وفي غير سياقها. غير أنّ مفهوم «العدل بين الأجيال» مازال بعيدا عن تفكيرنا ولا يجد مكانا في رؤانا الحالية، بالرغم من أنّنا نعيش على الأرض التي ستعيش على أديمها الأجيال المقبلة، ونتنفّس الهواء (المُلوّث) الذي ستتنفّسه، ونستغلّ الثروات التي ستستثمرها هي... إن أبقينا لها شقفة من ثروة.
العدالة بين الأجيال
يتّحدُ مفهـــــوم التنميـــــة المستدامة مع مفهــــوم حقــــوق الأجيال القادمة في الفكر المعاصر، لأنّ كلّ عمل تنمويّ تقوم به الأجيال الحالية ينعكس، بالسلب أو بالإيجاب، على الأجيال التي تأتي بعدنا. لذا من الواجب علينا أن نُسلّم هذه الأرض وما عليها إلى من سيرثونها بعدنا، على الأقلّ في المستوى الذي تسلّمناه من أسلافنا. وفي هذا المجال كانت الدول الاسكنــــدنافية سبــــاّقة، فقد أقامـــت فنلندا صندوقا تجمع فيه سنويا نسبة من دخلــــها القومـــــي تدّخــــره للأجيال القـــــادمة. ومنذ قرابة ثلاثين سنة، أصبحت العناية بالأطفال قطاعا يحظى بالأولوية في جميع تلك البلدان، وبخاصّة في السويد، بعدما لقي هذا النوع من الإصلاحات دعما كبيرا من البرلمان. وبفضل التوافق بين هاتين السلطتين أمكن تطوير برامج جريئة، منذ سبعينات القرن الماضي، تضمن جودة الحياة والعدالة بين الأجيال، وكُلّفت البلديات بإدارتها، أمّا تمويلها فيكون من الضرائب.
ظلّت تونس طيلة نحو ثلاثين سنة بمعزل عن طرح هذا الموضوع المصيري على بساط الحوار، بسبب المناخ السياسي الذي نعرف. ولم يتسنّ فتح ملفّ العلاقات بين الأجيال إلاّ عند كتابة الدستور الجديد، إذ أفضى النقاش حول تكوين الهيئات الدستورية إلى اتّفاق على أن تكون ضمن هذه الهيآت هيأة خاصّة بالتنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة. ونصّ الفصل 125 من الدستور على ما يلي «تعمـــل الهيئــــات الدستورية المستقلة على دعم الديمقراطية، وعلى كافة مؤسّسات الدولة تيسير عملها»، وأضاف أنّ الهيآت «تتمتّع بالشخصية القانونية والاستقلالية الإدارية والمالية، وتنتخب من قبل مجلس نواب الشعب بأغلبية معزّزة، وترفع إليه تقريرا سنويا يناقش بالنسبة إلى كـــلّ هيئة في جلسة عامة مخصّصة للغرض».
خمس سنوات من الانتظار
ومع أنّ معظم الهيآت الدستورية تمّ تشكيلها، وفقا لهذه الآلية، فإنّ «هيأة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة» مازالت لم تُبصر النور بعد خمس سنوات من وضع الدستور الجديد، ولم يُعرض مشروع القانون المُحدث لها على مجلس النواب سوى في الشهر الماضي، وهو مازال يحتاج إلى مزيد من المناقشات والتمحيص في اللجان البرلمانية المعنية. ماذا يقول الدستور عن هذا الملفّ الهامّ؟ ورد في الفصـــل 129 أنّ «هيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة تُستشار وجوبا في مشاريع القوانين المتعلّقة بالمسائل الاقتصادية والإجتماعية والبيئية وفي مخطّطات التنمية»، مُضيفا أنّ «للهيئة أن تبدي رأيها في المسائل المتصلة بمجال اختصاصها».
وأظهرت جلسة النقاش الأولى للمشروع، في إطار الجلسة العامة، أنّ هناك تباعُدا في المفاهيم بين الكتل، وحتّى بين الأفراد في الكتلة الواحدة. وهذا طبيعي في مرحلة أولى، لأن هذا الاختلاف قائم في البلدان الأخرى، بل هو مازال غير مطروح من الأساس في معظم البلدان. ويكفي أن نعرف أنّ تونس هي البلد الثالث في العالم الذي فكّر في هذه المسألة وأدرجها في الدستور، بعد بوليفيا (2004) والنرويج (2007). لكن هل قمنا بعمل ميداني في هذا السبيل؟ ليس بعدُ. والأمر على ما يبدو مازال مؤجّلا، مع أنّ هناك مسائل ملحّة تقتضي الاستشراف والتخطيط. فمن العوائق التي تُعرقل الانطلاق في مشاريع التنمية المستدامة عدم استقرار الفريق الحكومي، فكيف نبني خطّة طويلة الأمد في الصحّة مثلا، وقد تداول على القطاع ثمانية وزراء منذ الثورة؟ والأمر نفسه في قطاعي الطاقة والمناجم؟ وكيف نُخصّص صندوقا لحقوق الأجيال المقبلة، على سبيل المثال، ونسبة الأطبّاء المغادرين للوطن ارتفعت إلى 22 في المئة؟
أين الأحزاب؟
واستطـــرادا لعلّ من المهمّ التساؤل عن مدى اهتمام الأحزاب، وهي مُقبلة على استحقاقات انتخابية كبرى في غضون أسابيع، بحقوق الأجيال المقبلة، ورُؤاها للتنمية المستدامة ونوعية الأهداف التي تقترحها، لضمان العدالة بين الأجيال. كيف يمكن أن نفكّر في من لم يُبصـــروا الدنيا بعدُ، وندّخر لهم جزءا من ثروة لم يشقــــوا مــــن أجل تكوينها؟ أسئلة تبدو منطقية، غير أن العــــالم اليـــوم تغيّر وأصبح يعتمد طريقة التنمية المُستــــدامة بحســـب الأهـــداف.
ولكي تطمئنّ بعض القلوب، نُشير إلى أنّ فرنسا ليست أحسن حالا منّا في هذا المضمار، فقد كانت سباقة في البدء إلى إنشاء «مجلس حقوق الأجيال القادمة» منذ سنة 1993 برئاسة جاك إيف كوستو، لكنّه استقال بعد أقلّ من سنتين، ولم يُعيَن خليفة له، كما أنّ المجلس لم يجتمع منذ تلك الفترة، وقد رحل اليوم معظم أعضائه عن هذه الدنيا!
مناطق مظلومة
في بلادنا، ليس من التجنّي القول إن الجيل السابق والجيل الحالي ظلما بعض المناطق بإقامة مشاريع ذات جدوى اقتصادية، لكنّها مُدمّرة للحياة البشرية لأنّها ذات قدرة تلويثية جبّارة. وهنا لا يكفي الاعتذار للأجيال المقبلة، بل لابدّ من منحها ضربا من التعويضات. والسؤال الذي يترتّب على ذلك هو الآتي: هل يجوز من الناحية الأخلاقية، أن نأخذ من الأحياء لنقدم تعويضات للجيل اللاحق، الذي لم يُبصر النور بعدُ؟
اهتدى النرويجيون إلى حلّ لهذه المشكلة في العلاقة بين الأجيال، فاتّفقوا على أن توضع عائداتهم من الغاز والنفط في صندوق عمومي مخصّص للأجيال المقبلة. والتزمت الدولة بأن تكتفي باستخدام فوائد الصندوق التي تُقدّر بـ4 بالمائة فقط لنفقاتها.
عودٌ على بدء، إذا كنّا نتساءل عمَن سيضمن حقوق الأجيال القادمة، فإنّ التجارب العالمية، المُخطئة والمصيبة، تُعلّمنا دروسا مفيدة لكي نُطوّر «هيأة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة»، بالاعتماد على ما جاء في الدستور، من أجل تكريس مبدإ مهمّ وحديث ألا وهو العدل بين الأجيال.
رشيد خشانة
- اكتب تعليق
- تعليق