الولايات المتحدة وإيران: هل أزفت ساعة المواجهة؟
منذ مطلع شهر ماي الماضي، وعلى إثر البدء في تطبيق الموجة الثانية من العقوبات الأمريكية المشدّدة على إيران، ثم إرسال قوة حربية بحرية وجويّة أمريكية ضاربة إلى منطقة الخليج، بذريعة وجود مؤشّرات على استعدادات إيرانية لاستهداف القوات والمصالح الأمريكية في منطقتي الشرق الأوسط والخليج، ما انفكّ محرار التوتّر بين واشنطن وطهران يتأرجح بين الصعود تارة، والهبوط تارة أخرى، ممّا يجعل التكهّن بما ستؤول إليه الأزمة الراهنة أمرا غير سهل...
ولأن عملية تحريك القوّة الأمريكية نحو منطقة الخليج عملية مكلفة وخطيرة الدلالات، فقد كان لا بدّ من «اصطناع» مناخ إقليمي ودوّلي يبرّرها، وقد جاءت عملية تخريب السفن التجارية الأربع في المياه الإقليمية الإماراتية، ثمّ عمليّة ضرب محطّتي ضخّ النفط السعوديتين بطائرات مسيّرة، لتوفّرا للولايات المتحدة ولخصوم طهران فرصة اتهامها بالوقوف وراء العمليتين، وبتهديد السلم والأمن في المنطقة وفي العالم بأسره، لما تمثّله العمليتان من خطر كبير على انتاج النفط وتدفّقه واستقرار أسواقه وعلى أمن الملاحة البحرية وسلامتها..
ثمّ إنّ الرئيس الأمريكي غريب الأطوار دونالد ترامب الذي لا يكاد يمرّ يوم دون أن يفتعل لنفسه ولبلاده خصما أو عدوّا جديدا يتحرّش به ويتلذّذ باستفزازه، يريد، إن استطاع إلى ذلك سبيلا، أن «يركّع» إيران من خلال خنقها اقتصاديا بـ«تصفير» صادراتها من النفط والغاز، وهو يحتاج، في ذلك، إلى ترهيبها وترهيب الدّول التي قد تواصل التعامل معها حتّى تخضع لعقوباته آحادية الجانب، وتلتزم بتطبيقها...
وعلى هذا الأساس، وبالتوازي مع التحشيد العسكري الميداني اللافت، فإنّه ما فتئ يخيّر إيران بين أن تواجه «عواقب لم يعان منها سوى القليل عبر التاريخ»، وبين أن تأتيه صاغرة لتحاوره وتفاوضه وفقا لشروطه وإملاءاته...
وفي انتظار ما ستحمله الأيام والأسابيع القادمة من تطوّرات، يظلّ شبح المواجهة المحتملة بين الجانبين يخيّم على المنطقة، وهو شبح يظهر ويختفي، حسب زاوية رؤية الملاحظين وتحاليلهم للوضع وتشعّباته...
فمن الملاحظين من يذهب إلى أنّ المواجهة آتية لا محالة وقد باتت وشيكة، وهم يستندون في تنبّؤاتهم إلى جملة الحيثيات التالية:
1/ أنّ القيادة الأمريكية الحالية من أكثر القيادات تشدّدا في تاريخ الولايات المتحدة المعاصر، فهي إلى جانب رئيسها غريب الاطوار دونالد ترامب تضمّ مجموعة من «الصقور» أو في الحقيقة من «الجوارح» الذين يأتي على رأسهم مستشار الأمن القومي جون بولتون، ومايك بومبيو كاتب الدولة للشؤون الخارجية.
ومع نجاحها في فرض انتهاج استراتيجية «الضغوط السياسية والاقتصادية القصوى» على إيران، فإنّ هذه المجموعة ترى أنّ الوقت حان للانتقال إلى مرحلة الضغط العسكــري، لا سيما وأن تحركات إيران في المنطقة وتمدّدها في العديد من أرجائها تجاوزت، في نظرها، حدود المباح، حيث أنّ قوّات «الحرس الثوري الإيراني» التي صنّفتها الولايات المتحدة أخيرا «منظمة إرهابية» أصبحت، بعد تدخّلها في سوريا، تتموقع في جوار إسرائيل المباشر...
2/ أنّ القيادة الأمريكية تستند في تجذير موقفها من إيران إلى تيار أمريكي يميني متشدّد مثلها يدفع، بالتعاون مع اليمين الصهيوني المتطرف، إلى تفجير حرب إقليمية جديدة في منطقة الشرق الأوسط حتّى يتسنّى له حسم صراعاتها المزمنة، وتسوية أزماتها المستعصية، من خلال فرض ما يسمّى بـ«صفقة القرن» التي تهدف الى تصفية القضية الفلسطينية نهائيا.
ويرى هذا التيار أنّ حربا من هذا القبيل ستساعد، إلى جانب كلّ ذلك، على انتعاش الاقتصاد الأمريكي الذي ما فتئ يتراجع أمام صعود قوى اقتصادية وتجارية منافسة، أصبحت تهدّد، بحقّ، موقع الريادة الذي لطالما تربّعت الولايات المتحدة على عرشه بوصفها قاطرة الاقتصاد العالمي.
3/ أن إسرائيل تبارك هذا التوجّه الأمريكي وتؤيّده بكلّ قوّاها، وهي، بعد أن نجحت في دفع الولايات المتحدة إلى الانسحاب من الاتفاق حول البرنامج النووي الإيراني، تريد من واشنطن أن توجّه إلى إيران ضربة تقصم ظهرها على غرار الضربة التي قصمت ظهر العراق، وذلك حتّى تتخلّص من الخطر الإيراني الذي بات يؤرّقها أكثر فأكثر...
وفي أفق الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة، وانطلاقا من أنّه سيعلن قريبا عن ترشّحه لخوضها، فإنّه من المنتظر أن يحاول الرئيس الأمريكي غريب الأطوار دونالد ترامب أن يتفوّق على نفسه في إرضاء رغبات إسرائيل وحتّى نزواتها، من أجل الإحراز علىÙ
Ùرضاها ورضا اليمين الأمريكي واللوبي الصهيوني اللذين سيكون لهما تأثير مؤكّد في سير هذه الانتخابات وفي نتائجها.
4/ أن القيادات الخليجية الصاعدة لا سيما في المملكة العربية السعودية وفي الإمارات العربية المتحدة، تلتقي في مواقفها الراديكالية مع مواقف الولايات المتحدة وإسرائيل من إيران.
وقد بدا ذلك واضحا خلال القمّتين الطارئتين الخليجية والعربية اللتين دعت الرياض، على عجل، الى عقدهما في مكة، على هامش القمة الإسلامية العادية الرابعة عشر، واللتين وظّفتهما في التحريض على إيران، والتجييش عربيا واسلاميا ودوّليا ضدّها.
وبالفعل، فإن القمة الطارئة الخليجية تمخضت عن بيان ختامي أعرب فيه القادة الخليجيون عن تأييدهم للاستراتيجية الأمريكية إزاء إيران «بما في ذلك ما يتعلّق ببرنامج إيران النووي، وبرنامج الصواريخ الباليستية، وأنشطتها المزعزعة للأمن والاستقرار في المنطقة ودعمها للإرهاب ومكافحة الأنشطة العدوانية لحزب الله والحرس الثوري ومليشيات الحوثي وغيرها من التنظيمات الإرهابية».
أمّا القمة العربية الطارئة التي طالب الملك سلمان بن عبد العزيز في افتتاح أشغالها «المجتمع الدولي بتحمّـــل مسـؤوليـــاته إزاء ما تُشَكله الممارسات الإيرانية ورعايتها للأنشطة الإرهابية في المنطقة والعالم، من تهديد للأمن والسلم الدوليين، واستخدام كافة الوسائل لردع هذا النظام، والحدّ من نزعته التوسّعية»، فإنّها أصدرت، بدورها، بيانا دعا في نقطته التاسعة إلى «تكثيف الجهود الدبلوماسية بين الدول العربية مع الدول والمنظمات الإقليمية والدولية لتسليط الضوء على ممارسات إيران التي تعرّض الأمن والسلم في المنطقة للخطر، ومطالبة المجتمع الدولي باتّخاذ موقف حازم لمواجهة إيران وأنشطتها المزعزعة للاستقرار في المنطقة، والوقوف بكلّ حزم وقوّة ضدّ أيّة محاولات إيرانية لتهديد أمن الطاقة وحرية وسلامة المنشآت البحرية في الخليج العربي والممرّات المائية الأخرى، سواء قامت به إيران أو عبر أذرعها في المنطقة».
والجدير بالملاحظة أنّ بيان القمّة العربية الطارئة أصيب بانتكاسة سريعة فور تلاوته من قبل الأمين العام لجامعة الدول العربية، حيث أعلن الوفد العراقي بكلّ وضوح وصراحة «أنّ العراق يعيد التأكيد على استنكاره لأيّ عمل من شأنه استهداف أمن المملكة وأمن أشقّائنا في الخليج، ونودّ التوضيح أنّنا لم نشارك في صياغة البيان الختامي، وأنّ العراق يسجّل اعتراضه على البيان الختامي في صيغته الحالية».
وكان الرئيس العراقي برهم صالح أعرب، قبل ذلك في الخطاب الذي ألقاه أمام القمّة، عن أمل العراق في عدم وقوع أيّ حرب مع إيران الجارة التي تربطه بها علاقات جيّدة، وحذّر من اندلاع حرب شاملة إن لم تتم إدارة الأزمة الحالية بشكل حسن.
أمّا وزير الشؤون الخارجية القطري، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، فقد خرج بعد يومين ليكشف، عن أنّ بيانَي القمتين، الخليجية والعربية، كانا جاهزين مسبقاً ولم يتم التشاور حولهما. وأكّد أنّ بلاده تتحفّظ عليهما، لأنّ بعض بنودهما تتعارض مع السياسة الخارجية للدوحة. وأوضح أن «قمّتي مكّة تجاهلتا القضايا المهمّة في المنطقة كقضية فلسطين والحرب في ليبيا واليمن»... وأنّ بلاده كانت «تتمنّى أن تضع القمّتان أسس الحوار لخفض التوتّر مع إيران»، غير أنّ بيانيهما «أدانا إيران دون الإشارة إلى سياسة وسطية للتحدّث معها، إضافة إلى تبنّيهما سياسة واشنطن تجاه طهران وليس سياسة تضع الجيران معها بالاعتبار».
ومن جانبها، أعلنت دمشق أنّها ترفض ما ورد في البيان الختامي للقمة العربية الطارئة بخصوص ما سمّته القمّة التدخّل الإيراني في الشؤون السورية، لأنّه «يمثّل عين التدخّل غير المقبول في شؤونها الداخلية»، وأضافت أنّ الوجود الإيراني في سوريا مشروع لأنّه جاء بطلب من الحكومة السورية، وساهم في دعم جهود دمشق في مكافحة الإرهاب المدعوم من قبل بعض المجتمعين في هذه القمّة.
واستخلصت قائلة إنّه كان حريّا بالقمة إدانة تدخّلات الدوّل الأخرى في الشأن السوري والتي تفتقد إلى الشرعية والمشروعية وكانت وما تزال تهدف إلى تقديم الدعم اللامحدود بمختلف أشكاله إلى المجموعات الإرهابية وإطالة أمد الأزمة في سوريا.
ولكن وبالرغم من جملة هذه الاعتراضات، فإنّ المتوقّع من الرئيس الأمريكي غريب الأطوار أنّه سيتجاهلها، وأنّه سيعتبر أنّ القمّتين أعطتاه الضوء الأخضر المطلوب لضرب إيران إن قرّر ضربها...
5/ أنّ ما يبديه الرئيس الأمريكي غريب الأطوار دونالد ترامب من تشدّد إزاء إيران وما يكيله لها من تهم بدون أدلّة قاطعة، ومسارعته إلى حشد قواته العسكرية في الخليج عناصر تعيد إلى الأذهان بعض مظاهر قرع طبول الحرب التي سبقت الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003، وممّا يدعم هذا الانطباع أنّ مصادر استخبارية روسية ذكرت «أنّ القوات المسلحة الأمريكية المرابطة في الخليج أكملت تقريباً استعداداتها لتوجيه ضربة صاروخية ضدّ الأراضي الإيرانية وأنّ واشنطن حدّدت لائحة بالأهداف المحتملة التي تنوي ضربها في إيران». وأضافت نفس المصــــادر أن الاستعــــداد العسكري الأمريــــكي في المنطقة وصل إلى المستوى الذي كان عليه في مارس سنة 2003، قبل غزو العراق.
6/ أنّ نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس Mike Pence قال في خطاب القاه اخر شهر ماي الماضي امام 980 من خريجي اكاديمية West Point العسكرية إن كلّ واحد منهم سيدعى الى المشاركة في حرب من الحروب الامريكية القادمة، وأنّ من بين البلدان التي قد يرسلون اليها أفغانستان والعراق وكوريا الشمالية والصين وروسيا...
***
في مقابل ذلك، يستبعـــــد بعض المحللين المواجهة بين الولايات المتحدة وبين إيران، وهم يستندون في ذلك الى جملة الاعتبارات التالية:
1/ أنّ واشنطن ما فتئت، منذ اندلاع الثورة الإيرانية قبل أربعين سنة، تهدّد إيران بالويل والثبور وعظائم الأمور، وقد اختلقت في العديد من المناسبات أجواء من التوتّر أوحت للمتابعين بان الحرب باتت وشيكة، غير أنها كانت في كل مرة تحجم عن تنفيذ تهديداتها، لأسباب مختلفة داخلية وخارجية.
2/ أنّ الظرفية الدولية الراهنة تختلف تمام الاختلاف عن الظرفية التي كانت سائدة خلال سنة 2003 عند غزو العراق واحتلاله، فاليوم عادت روسيا بقوّة الى ساحة الشرق الأوسط، كما أنّ شمس الصين تواصل بزوغها لا كقوّة اقتصادية وتجارية فحسب، وإنّما أيضا كقوّة عسكرية يحسب لها حسابها، وقد جاء الكشف، هذه الأيام، عن مساعدتها للرياض في تنفيذ برنامج لتصنيع الصواريخ الباليستية لتؤكّد أنها باتت ترتبط مع المملكة بعلاقات استراتيجية في مختلف المجالات، بما فيها مجال التسليح.
3/ أن الدول الإسلامية، مثلما يتجلّى ذلك في البيان الذي أصدرته القمة الإسلامية العادية الرابعة عشر بمكة، لم تساير المملكة العربية السعودية والدول الخليجية في التحريض على إيران كما فعلت الدول العربية، حيث أنّها اكتفت بدعوة المجتمع الدولي للنهوض بمسؤولياته للحفاظ على السلم والأمن في المنطقة وإلى تحمّل مسؤولياته لضمان حركة الملاحة البحرية وسلامتها.
4/ أن الولايات المتحدة تدرك أنّ الحرب التي قد تشنّها على إيران لن تكون في سهولة الحرب التي شنّتها على أفغانستان، سنة 2001، ولا في سهولة الحرب التي شنّتها على العراق سنة 2003 بعد حصاره لسنوات طويلة وتجريده من كافة أسلحته...
ومعنى ذلك أنّ إيران بما تملكه من قدرات ومن أوراق، تستطيع، رغم فارق القوّة الهائل بينها وبين الولايات المتحدة، أن تلحق الأذى بمصالح واشنطن وبمصالح حلفائها في المنطقة وفي المقدّمة إسرائيل، بصورة مباشرة أو غير مباشرة عن طريق تحريك أو تحرّك قوّى المقاومة في الأراضي المحتلّة وخارجها، تضامنا معها.
5/ أنّ الحرب على إيران أو ضرب منشآتها النووية قد يؤدّيان إلى تعطيل البرنامج النووي الإيراني، لكنّهما لن يستطيعا القضاء عليه كليّا ونهائيا، بل إنّهما سيحفّزان إيران على المضيّ قدما في إنجازه وفي تطويره... كما سيجعلان الشعب الإيراني يلتف حول نظامه بدلا من التمرّد عليه كما تريد واشنطن.
6/ إنّ العديد من الوساطات انطلقت بعدُ من أجل محاولة نزع فتيل الأزمة، وقياسا على ما جرى في أزمات عديدة سابقة، فإنّه ليس من المستبعد أن تنجح هذه الوساطات في استبعاد شبح الحرب هذه المرّة أيضا.
***
وعلى كلّ، ومهما يكن من أمر فإنّ الجدير بالملاحظة أنّ إيران، كما أكّد مرشدها الأعلى الامام علي خامنئي، لا تريد الحرب، وهي، من هذا المنطلق، ستستعين في إدارتها للأزمة الراهنة بما يسمّيه البعض سلاح «الصبر الاستراتيجي» الذي سيساعدها، في ذات الوقت، على تجنب الانزلاق نحو المواجهة مع الولايات المتحدة، ورفض التفاوض معها حسب شروطها المجحفة وذلك من خلال العمل على التأقلم مع الظروف الناجمة عن تشديد العقوبات بما تسمّيه «الاقتصاد المقاوم» الذي سيمكّنها من امتصاص تداعيات العقوبات وتبعات الحصار المضروب على صادراتها من النفط والغاز...
أمّا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فيتوقّع أن يواصل انتهاج استراتيجيته المزدوجة التي تقوم على التهديد المستمر بضرب إيران، وعلى إبقاء الباب مفتوحاً أمام التفاوض معها خاصّة إذا نجحت عقوباته المشدّدة في إرغامها على الجلوس إلى طاولة المفاوضات وفق شروطه، وليس من المستبعد أن يكون أميل إلى الخيار الثاني، لأنّه كرجل أعمال بلا مبادئ، يفضّل أن تظلّ إيران فزّاعة لدول المنطقة حتّى تبقى هذه الدول بمثابة البقرة الحلوب أو الدجاجة التي تبيض له ذهبا، كثمن باهظ لحمايتها
محمد إبراهيم الحصايري
- اكتب تعليق
- تعليق