أخبار - 2019.05.31

الهـادي التـّـركي: الفـنّـان المتـأمّـل في حيـاة الــشّكـل وفـي شكل الحياة

الهـادي التـّـركي: الفـنّـان المتـأمّـل في حيـاة الــشّكـل وفـي شكل الحياة

رحل الهادي التركي عن الحياة يوم 31 مارس 2019 وكان آخر روّاد الفنّ من الجيل الذي ظهر بعد الحرب العالميّة الثّانية، وانطوت برحيله مرحلة من الرّسم التّونسي كان أحدَ أهمّ رموزها إبداعا وحضورا. ولعلّ الاكتفاء بالحديث عن ثراء منجزه الفنّي لا يفي الرّجلَ كامل حقّه كشخصيّة تركت بصمة على الحياة الثّقافية وأثرا طيّبا في الذّاكرة الجماعيّة بما أوتي من شمائل كريمة وروح متسامحة. رحل «عم الهادي» ولا يزال يتردّد بيننا صدى مواقفه الشّجاعة في الدّفاع عن الهويّة الحضاريّة للتّونسيين والمحافظة على التّراث الثّقافي والانتصار لحقوق المظلومين في العالم؛ وكان، إلى ذلك، أحد قادة الحركة الفنّيّة التّونسيّة حيث شغل مرارا مسؤوليّة أمين عام لاتّحاد الفنّانين التّشكيليين التّونسيين ومثّل بلاده أحسن تمثيل طيلة سنوات لدى الجمعيّة العالميّة للفنون التّشكيليّة (A .I.A .P) التي انتخبته عضوا مدى الحياة بمجلسها التّنفيذي.

لو اقتصرنا على تعداد ما قدّمه الهادي التّركي الرّسّام من إضافات رائدة في الفنّ التّشكيلي وما بذله كأستاذ طيلة عقدين في تأهيل جيل كامل من طلبته بمدرسة الفنون الجميلة، وما كسبه من تجارب ضمن المنظّمات والهياكل المعنيّة بالفنّ في الدّاخل والخارج، لامتلأت منه الصّحائف وعزّ عن الحصر. إنّه تاريخ حافل بالإنجازات يمتدّ من العام 1942 تاريخ أوّل مشاركة له وهو لم يجاوز سنّ العشرين في معرض «نقابة الرّسّامين» بـ «نادي السّيّارات» (Automobiles Club) بالعاصمة، إلى حين أقعده المرض قبل بضع سنوات من وفاته. وقد تميّزت المرحلة الأولى من مسيرته الفنيّة في ما بين 1942 و1959 بالتزام أسلوب محافظ ينقل الواقع بأمانة من خلال معالجة تشكيليّة «أكاديميّة» رغم تكوينه العصاميّ؛ ولم يكن اهتمامه يخرج آنذاك عن الرّائج من مواضيع تلك الفترة مثل الصّور الشّخصية ومشاهد المدينة العتيقة وموضوع «الطّبيعة الصّامتة» ممّا يُعرض في تظاهرات «الصّالون التّونسي الذي دأب على المشاركة فيه بانتظام بداية من العام 1948 وشغل  لاحقًا خطّة أمين عامّ له طيلة سنوات.

توق إلى التّحرّر وانفتاح على الفنّ العالمي

أعجب الهادي التّركي في بداياته بالرّسّامين الأجانب الذين امتزج بهم في إطار الصّالون التّونسي أمثال بيير بوشارل وألكسندر روبتزوف وروبير هو وغيرهم، وقد استفاد من نصائحهم في بداياته قبل أن تتطوّر نظرته نحو التّحرّر من تواضعات الفنّ «الأكاديمي» والبحث عن صيغ تعبير جديدة في تجارب الفنّ العالمي. وكان أن أُتيحَتْ له فرصة الاطّلاع على الاتّجاهات الحديثة خلال إقامته بإيطاليا بين سنتي 1956ـــ1957 إثر حصوله على منحة للدّراسة بأكاديميّة الفنون الجميلة في روما.

الانبهار بالتّعبيرية التّجريديّة

تابع الهادي التّركي تأهيلا فنيّا بجامعة كولمبيا الأمريكيّة مدّة ثلاثة أشهر سنة 1959 كان له أثر بالغ في تحوّل نظرته إلى الرّسم جذريّا حيث اختار أسلوبا تجريبيّا ينزع نحو التّجريد عملا بمقولته الشّهيرة :»أريد أن أرسم حياة الشّكل لا شكل الحياة». ومع ذلك فقد استمرّ في ممارسة التّشخيص في تصاويره التّخطيطيّة كنشاط يوميّ دأب عليه طيلة حياته. تأثّرت أعماله بعد العودة من أمريكا بتيّار التّعبيريّة التّجريديّة أو الــ «Action painting»، وخاصّة بأسلوب جاكسن بولّوك الذي تخلّى في العام 1947 عن تكوين اللّوحة الموروث عن عصر النّهضة إلى حيّز مفتوح يُمطره في حركة حرّة برشاشٍ مــن الألوان المتراكبة. ولعـــلّ ما شجّع الهادي التّركي وغيره من التّونسيين مثل نجيب بلخوجة على الاتّجاه، في منعطف السّتينات، نحو المفاهيم المستحدثة في الفنّ، بلوغُ التّجريد أوج سيطرته في الغرب وتحوّل بعض الفنّانين المقيمين آنذاك في تونس إلى أساليبه المختلفة، ومن بينهم أنطونيو كوربورا وإدغار نقّاش وجيلبير زيتون.

ثبوت الرّؤية وتحوّلات الأسلوب

سرعان ما حوّل الهادي التّركي أسلوبه التّعبيريّ الأوّل إلى تجريد هادئ ذي حسّ تأمّليّ يقسم حيّز اللوحة إلى مساحات لونيّة متجانسة نابضة ذات حدود ضبابيّة تذكّر بتجربة الرسّام الأمريكي مارك روذكو؛ غير أنّنا نراه بعد سنوات يطوّر أسلوبه إلى صيغ أكثر ذاتيّة مع الاحتفاظ بذلك الحسّ التّأمّلي الهادئ، مقتربا ممّا أصطُلِح على تسميته بـ «المشاهد الطبيعيّة التّجريدية» (Paysagisme abstrait) الواقعة في منتصف الطّريق بين الوجود الذّاتي للعمل الفنّي كخطوط وألوان وبين إيحاءات خفيّة بأشكال الأشياء كما تبدو في الواقع.

وفي بدايات التّسعينات اختار الرّسّام أسلوبا جديدا لمنحاه التّأمّلي قوامُه نسيجٌ يملأ كامل اللّوحة ويتألّف سداه ولحمته من خطوط تعطي إيقاعا بصريّا نابضا شبه صوفيّ، وقد ظلّ وفيّا لذلك الأسلوب إلى آخر حياته. ويفسّر الهادي التّركي ذلك التّأثير البصريّ في أعماله بانطباع احتفظ به من طفولته عندما كان يقضي أوقات طويلة يتابع تشابك الخيوط في منسج الحرير بدكّان جدّه النّسّاج (الحرايري).

تصوير الملامح البشريّة كتعبير عن التّواصل الإنساني

لم يكن ولع الهادي التّركي بالرّسم التّجريدي بأقلّ من ولعه بالتّصوير الخطّي أو التّخطيطات التّشخيصيّة. وبينما أهمل فنّانون غيره ذلك التّعبير إبّان سيطرة التّجريد على السّاحة التّشكيليّة، كان الهادي التّركي يمارسه يوميّا بموازاة الرّسم التجريدي فلا يكاد يفارق كنّاشه وأقلامه مسجّلاً ما يراه من مناظر ومشاهد في تونس أو في الخارج خلال رحلاته الكثيرة حول العالم. وبخصوص ممارسته ازدواجيّة التّجريد والتّشخيص، يقول: «عندما أخطّ صورة تشخيصيّة، أنظر أمامي، وعندما أرسم تجريدا أنظر إلى داخلي، فالمهمّ أن ننظر». وكان أكثر ولعه بالصّورة الشّخصيّة (Portrait) فتراه يعرض على من يلاقيه أو يجتمع به إنجاز صورة له وعند الفراغ منها يهديه إيّاها تكرّما؛ ولا يمكن اليوم إحصاء من يحتفظون بصور لهم وقّعها «عم الهادي التّركي»؛ ذاك لأنّ الرّجل يرى في الفنّ وسيلة للتّواصل والتّآخي مع النّاس وهو لعمري أمر نادر أن يُشحن الفنّ على أيّامنا هذه بتلك الأريحيّة السّمحة والبذل الإنسانيّ الصّادق.

الهادي التّركي ومدرسة تونس

انتسب الهادي التّركي سنة 1960 إلى جماعة «مدرسة تونس» وكانت تضمّ ثلّة من أصدقائه أمثال بيير بوشارل وعمّار فرحات وعبد العزيز قرجي وعلي بن الآغا وإبراهيم الضّحّاك إضافة إلى أخيه الفنّان الكبير الزّبير التّركي. غير أنّه اختلف عنهم في مفاهيمه للفنّ وأهدافه، حيث دأبوا على تصوير مظاهر الحياة التّقليديّة واهتمّ هو بتقصّي حقيقته الدّاخليّة في التّجريد؛ وبينما كانوا يبحثون عن خصائص مفترضة لفنّ تونسيّ قائم بذاته، كان يرى أنّ للفنّ آفاقا تتجاوز الواقع المحلّي ولم تكن تمنعه صداقته لهم من مواجهة أفكارهم بحزم وصراحة خلال نقاشات يتحوّل فيها الهادي التّركي عن وداعته المعهودة إلى مجادل عنيد.

ميراث ثريّ ضمن الحركة التّشكيليّة

بين بدايات الفنّان سنة 1942 إلى العشريّة الأولى من القرن الحالي حفلت حياة الفقيد بإنجازات كثيرة حيث أقام تظاهرات شخصيّة كثيرة في تونس والخارج، منها معارضه بصالون الفنون (نهج ابن خلدون، تونس، 1960) وقاعة يحي (1964) وقاعة الأخبار بتونس (1971 و1973 و 1976  و1980) إضافة إلى مشاركات مختلفة في المعارض السّنويّة لـــ»مدرسة تونس» بقاعة قرجي وسائر التّظاهرات الجماعيّة للفنّ التّونسيّ الحديث والمعاصر بالدّاخل والخارج. وفي شهر ديسمبر 1993 أقامت له دار الفنون بالبلفبدير معرضا دام ثلاثة أشهر وشمل مسحا تاريخيّا لمعظم منجزه الفنّي؛ كما أقام معارض شخصيّة سنتي 1967 و 1968 في قاعة فيركامير (Verkamer) بباريس وفاز بعدّة جوائز منها الجائزة التّقديريّة الوطنية للفنون وجائزة «فرانس ـــ أفريك» في «صالون الفنّانين الفرنسيين»  وجائزة لجنة التّحكيم في إطار الجائزة العالميّة الكبرى للفنّ المعاصر بمونتي كارلو سنة 1976.

الهادي التّركي في الذّاكرة الوطنيّة

تلك ملامح الهادي التّركي الفنّان، أمّا نشاطه في الحياة العامة فالمجال يضيق عن تعداد نضالاته من أجل المحافظة على الهويّة الثّقافيّة والحضاريّة لتونس ويذكُرُ الكثيرون طوافه جامعا للتّوقيعات على العرائض المناديّة بإنقاذ النسيج التّقليدي لمدينة تونس العتيقة من مشاريع التّشويه والهدم؛ كما يذكرون النّصوص التي نشرها أو وزّعها دفاعا عن القضايا العربيّة وخاصّة منها قضيّة فلسطين. ومن بينها النّصّ الذي كتبه الشّاعر الفرنسي «لامارتين» مشيدا بسيرة النبيّ الكريم صلّى الله عليه وسلّم. وكان أكثر ما يثير إعجاب التّونسيين بـــ «عمّ الهادي التّركي» نبل الأخلاق وسلامة الطّويّة وحِسُّ الدّعابة ممّا جعل منه شخصيّة محبّبة تحمل سمات المثقّف القريب من النّاس والفنّان المبدع المعني بتطلّعات مجتمعه وقضاياه؛ فليرحمه الله رحمة واسعة ويجازيه عمّا قدّم خير الجزاء..

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.