الشّيـخ علي البـــرّاق (1899 – 1981): صـوت مــن زمن البعــثــة والوحـي
هو صوت رافق أجيالا من التّونسّيين وما يزال يُرافقهم مُؤذّنا يدعو إلى الصّلاة أو مقرئا يتلو آيات من الذّكر الحكيم ، ولكنّه صوت ولا ككلّ الأصوات، نغماتٌ شجيّة تستثير في أعماق النّفس مشاعر الخشوع والجلال والسّكينة والوداعة، ورنّات صافية تُسْبل على الرّوح سترا من الفضيلة والورع والتّقوى والصّلاح. وله مع كلّ مناسبة دينيّة ذكرى عطرة تستحضر على صفحات المخيّلة نبرات تُذيق سامعيها حلاوة الإيمان وجرسا يغمرهم بالسّماحة والرّضى.
ولد الشّيخ علي البرّاق بمدينة القيروان، مهاد الحضارة الإسلامية في بلاد المغرب والأندلس، منذ عشرين ومائة عام بالضّبط (10 ماي 1899)، وكان لأجوائها الرّوحيّة المميّزة أثرها الواضح في توجيهه وتكوينه فشغف بالقرآن الكريم تجويدا وترتيلا وبالمدائح والأذكار إنشادا وتحفيظا.
يَحُلْ فقده لبصره دون أن ينهل من أصفى موارد العلم والعرفان فإذا هو يرتاد الرّوضة القرآنيّة بالقيروان وينصرف بكليّته إلى حفظ القرآن حتّى ختمه بالتّلاوات السّبع وبرع في ترتيله على يد شيخه وأستاذه محمّد خليف. وبالتّوازي مع الانكباب على الحفظ والتّلاوة والتّجويد كان يختلف إلى حلقات الطّرق الصّوفيّة حتّى ملأ الوطاب بالمدائح والأذكار وألمّ بمختلف فنونها وضروبها وأتقن أسرار صناعة الإنشاد الطّرقيّ فصار حديث المنتديات إشادة برونق صوته ومُحكم تلاوته وجمال صداحه في إنشاده. ولمّا طبّقت شهرته الآفاق وملأ الأوساط القيروانيّة إعجابا وإبهارا طلب لفنّه أفقا أرحب ولصناعته صيتا أبعد فقدم إلى العاصمة في مطلع الثّلاثينات من القرن العشرين وانضمّ إلى الطّريقة السّلاميّة التّي كان من مريديها في تلك الفترة الشّيخ محمّد بن محمود والد المرحوم عبد العزيز بن محمود. وانتُدب في الآن نفسه مؤذّنا ومقرئا بجامع صاحب الطّابع بالحلفاوين.
وكان من الطّبيعيّ أن يلفت إليه الأنظار بعذوبة صوته المميّز وطريقته الخاصّة في ترتيل القرآن فنال شرف تدشين البثّ الإذاعيّ التّونسيّ الرّسميّ سنة 1938 دون أن يكون له نشاط قارّ بالإذاعة إلّا ما كان مشاركة ضمن الفرقة المدحيّة الصّوفيّة للشّيخ عبد العزيز بن محمود الذّي كانت له حصّة إذاعيّة في المدائح والأذكار. أمّا دخول الشّيخ علي البرّاق الإذاعة بصفة رسميّة فله قصّة كان يرويها الموسيقار محمّد التّريكي (1899 – 1998)، إذ يذكر أنّه كلّما التقى الشّيخ علي البرّاق سأله هل هو ذاهب إلى الإذاعة، وكان مقرّها آنذاك بساحة العملة، فإذا ردّ عليه بالإيجاب ناشده أن يقرأ له «الفاتحة» عند باب البناية أملا في أن تفتح الإذاعة أبوابها في وجهه، وما لبث أن تحقّق رجاؤه واستجاب المولى عزّ وجلّ لطلبه إذ دعاه الأستاذ عثمان الكعّاك (1903 - 1976) المدير الأوّل للإذاعة التّونسيّة النّاشئة إلى الالتحاق بأسرة الإذاعة.
وكانت تراتيل الشّيخ علي البرّاق تُبثّ مباشرة على الهواء، ذلك أنّ الشّريط المغناطيسي للتّسجيل لم يكن متداولا في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي فلم يُخلّد من تلك التّراتيل أثر باق ٍ. ولا غرابة إن تجاوز إشعاع هذا الصّوت الشّجيّ حدود البلاد التّونسيّة وأصاب شهرة وانتشارا في سائر بلاد العروبة والإسلام رغم وجود أسماء مشرقيّة بارزة وسطوع نجوم لامعة في مجال ترتيل القرآن من أمثال المقرئ الشّيخ عبد الباسط عبد الصّمد. فقد قيّض اللّه للشّيخ علي البرّاق أداء فريضة الحجّ سنة 1950 فرتّل في حجّته الأولى تلك آيات من القرآن الكريم في رحاب الحرمين الشّريفيّن فترّددت لترتيله أصداء بعيدة في سائر الأقطار الإسلاميّة. وتيسّر له الحجّ ثانية سنة 1963 فدُعي مرّة أخرى إلى ترتيل آيات من الذّكر الحكيم في رحاب الحرمين الشّريفين فأسر الألباب وأخذ بمجامع القلوب.
وتتالت الشّهادات من أعلام الثّقافة والموسيقى على تفرّد أسلوبه في التّرتيل وعلى ما تُثيره نبرات صوته من عميق الإيحاء ودفين الإحساس، فقد رواية فيه طه حسين عند زيارته لتونس سنة 1957: «إنّ صوته يُعيدنا إلى الزّمن الأوّل لنزول القرآن وبدء الحضارة العربيّة». ولم تُخف سيّدة الغناء العربيّ أمّ كلثوم إعجابها بقوّة صوته وعذوبته عندما استمعت إلى إحدى تسجيلاته وهو يرتّل آيات من الذّكر الحكيم وفق رواية قالون. كان ذلك إبّان حلولها بمقرّ شركة النّغم للاسطوانات سنة 1968 على هامش الزّيارة التّي أدّتها إلى تونس أواخر ماي وبداية جوان من تلك السنّة. وشأن طه حسين وأمّ كلثوم هو شأن كلّ من يستمع إلى صوت الشّيخ علي البرّاق مؤذّنا أو مرتّلا، فصوت الآذان معه ما عاد مجرّد دعوة إلى الصّلاة أو تذكير بحلول وقتها وإنّما هو صوت يأخذ سامعيه إلى جوّ من القنوت والطّمأنينة والهُدى، وتلاوته القرآن تسكب مُحكم آياته في قلوبهم عِظَةً حسنةً وعبرةً خالدةً وشفاءً لما في الصّدور، أمّا مدائحه وأذكاره فرَوْحٌ للنّفوس وجلاء للكروب وتشنيف للآذان . وقد أمدّ اللّه في أنفاس الشّيخ علي البرّاق حتّى واكب انبعاث التّلفزة التّونسيّة في 1966 فسجّل صوتا وصورة عدّة تراتيل في مختلف الطّبوع التّونسيّة لعلّ أبرزها طبع رصد الذّيل وهو ما مكّن من الاحتفاظ بثروة نفيسة من التّساجيل في خزينة الإذاعة وخزينة التّلفزة التّونسيّتين.
وإذا ما حلّ شهر رمضان المبارك تطلّع الصّائمون إلى صوته أكثر من أيّ وقت آخر فغدت ساعة انتظار موعد الإفطار، على صوت ترتيله، أقصر ساعات النّهار وأمتعها وأبهجها. وظلّ الشّيخ علي البرّاق يواظب على إحياء الاحتفالات الدّينيّة رفقة الشّيخ المصريّ أمين حسنين والتّونسيّ عبد العزيز بن محمود وإثراء خزائن الإذاعة والتّلفزة بالتّسجيلات إلى أن لبّى نداء ربّه راضيا مرضيّا يوم 4 ديسمبر 1981.
ولئن رحل شيخنا إلى دار الخلد فإنّه ترك جيلا لامعا من المرتّلين والمنشدين في مقدّمتهم ابنه الشّيخ محمّد البرّاق الذّي قام مقام والده زمنا إلى أن غادرنا هو الآخر في نوفمبر 2017، رحمهما اللّه وطيّب ثراهما جزاء ما قدّماه لكتاب اللّه العزيز.
الحبيب الدريدي
- اكتب تعليق
- تعليق