أخبار - 2019.05.29

الحبيب التهامي: في معالجة تـردّي الأوضاع الاقــتصادية والمـالـيّــة

الحبيب التهامي: في معالجة تـردّي الأوضاع الاقــتصادية والمـالـيّــة

نشرت في المدة الأخيرة عدّة كتابات تعلّقت بالأزمة الاقتصادية والاجتماعية والمالية التي تعاني منها تونس وبالحلول التي من شأنها أن تُعقد لتجاوزها. وصدرت هذه الكتابات عن جامعيين مرموقين مختصّين بالشأن الاقتصادي أو مسؤولين سياسيين سابقين شغلوا مناصب هامة في الميدان الاقتصادي والمالي. وحتّى نحكم لها أو عليها بما يتناسب والموضوعية وجب التذكير في البداية بدلالات بعض المفاهيم حتّى نضع الأمور في إطارها الصحيح، ونفرّق بين ما هو طارئ في الوضع الاقتصادي والمالي الحالي وما هو هيكلي.

النموّ ليس إلا زيادة الناتج الداخلي الخام بين سنة وأخرى بالأسعار القارة، إمّا بالرجوع إلى أسعار السنة المنقضية أو بالرجوع إلى أسعار سنة معيّنة في الماضي، وهو كَمّي ومادّي بالأساس. وحتّى لو عرّفنا النموّ بزيادة قسمة قيمة الناتج المحلي الإجمالي على عدد السكان، وهو التعريف الأصحّ للنموّ، فإنّ المؤشّر يبقى ماديا بالأساس ولا يعطي فكرة واضحة عن تطوّر أو تراجع التوازنات الاجتماعية والجهوية وعن تقهقر أو تقدّم العقليات والعلاقات الشغلية. أمّا التنمية فإنّها تعني جملة التغيّرات التي تحصل في آلة الإنتاج من جهة والهياكل المؤسّسية والتصرفات الاجتماعية من جهة أخرى بما يدفع الطرفين إلى التفاعل المزدوج باتجاه التقدم وزيادة الإنتاج والإنتاجية من ناحية وزيادة الدخل وتحسن الظروف المعيشية للسكان من ناحية أخرى. ونستطيع أن نستنتج من هذا التعريف أنّ النموّ جزءا من التنمية أمّا العكس فهو غير صحيح لأنّ النموّ يمكن أن يحصل دون تنمية، وهذا ما وقع فعلا في السنوات التي سبقت الأحداث التي جدّت في الفترة المتراوحة بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011.


وحتّى لو حلّلنا الأمور من زاوية النموّ فقط فإنّ المنطق يفرض التمعّن في تركيبة هذا النمو وبالتالي التمعّن في العناصر التي أنتجته ومعرفة هل هو يرجع إلى القيمة المضافة أم يرجع إلى غيرها وما هي القطاعات التي ساهمت أكثر من سواها في تزايده لأنّ هذه التساؤلات محورية. وفي كلّ الأحوال فإنّ الناتج المحلي الإجمالي (أو الناتج الداخلي الخام) يقيس القيمة النقدية لإجمالي السلع والخدمات المتداولة في السوق (كالنقل والمطاعم و إصلاح السيارات مثلا) وغير المتداولة فيها (كالإدارة العمومية مثلا) التي أُنتجت داخل حدود بلد ما خلال سنة. وعندما يتركّب الناتج المحلي الإجمالي من مجموع القيم المضافة فقط نسميّه الناتج المحلي الإجمالي بتكاليف العوامل وعندما تضاف إليه الضرائب غير المباشرة صافية من تكاليف المساعدات نقول عنه الناتج المحلي الإجمالي بأسعار السوق. ويتّضح إذا أنّ نسبة تزايده بين سنة وأخرى يمكن أن تأتى من زيادة الضرائب غير المباشرة أو من زيادة أجور العاملين بالإدارة العمومية التي تمثّل تقريبا ثلاثة أرباع القيمة المضافة الموكلة للإدارة، إلى آخر ذلك من التحفّظات التي يمكن التنصيص عليها في شأن النموّ ومؤشّره.

تطور الناتج المحلي الإجمالي حسب قطاع النشاط بالأسعار الجارية بالمليون دينار


المصدر: المعهد الوطني للإحصاء

ماذا يمكن أن نستخلص من هذه التركيبة؟

أوّلا: زيادة الناتج المحلي الإجمالي بنسبة معيّنة لا تعني بالضرورة زيادة المنتوج المحلّي الإجمالي(مجموع القيم المضافة ذات العلاقة بالتداول في السوق، أي الثروة الحقيقية أو المباشرة) بنفس النسبة وذلك إمّا لزيادة مشطّه في خدمات الإدارة العمومية، إما في زيادة مشطّه  في صافي الضرائب غير المباشرة بدعم المنتجات، هذا إذا وضعنا جانبا تأثير الاستهلاك الوسيط ولو كان متدنيا نسبيا.

ثانيا: خلافا لما ينشر ويقال فإنّ زيادة الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار القارّة لا تشكّل وحدها دليلا على تحسّن الأوضاع الاقتصادية والمالية للبلاد إلا إذا تزامنت مع تحسّن هيكلي ومستمرّ للميزان التجاري من جهة ولميزانية الدولة من جهة أخرى لأنّ عجز هذا الميزان أو ذاك يؤثر سلبيا في النهاية في الأوضاع الاقتصادية والمالية ككلّ.

ثالثا: لا يوجد ارتباط عضوي بصورة آلية يمكن إثباته بين زيادة الناتج المحلي الإجمالي وتحسّن الأوضاع الاجتماعية على مستوى التشغيل والبطالة من جهة ومستوى المداخيل من جهة أخرى، لذلك فالقول بأنّ زيادة الناتج المحلي الإجمالي كافية وحدها لحلّ المشاكل الاجتماعية قول باطل حتى إذا التزمنا بتحليل الأمور داخل منظومة النموّ لا داخل منظومة التنمية كما هو الأجدر.

رابعا: ما من شك في أنّ نسبة النموّ مؤشّر هامّ في حياة السكان ككلّ ولكن إذا لم تنتفع بهذه الزيادة إلا الأقلية فإنّ النمو يصبح  سببا في زيادة النقمة والغضب ، لذا فالتركيز على نسبة النمو دون وضعها في إطار التوزيع العادل للثروة المنتجة، وجهة نظر خاطئة سواء من الناحية الاجتماعية أو الناحية الاقتصادية والمالية.

وبخلاف النمو الذي يقاس حصرا كما أشرنا سابقا بتغير الناتج المحلي الإجمالي فإنّ التنمية تقاس بعدّة مؤشرات مركّبة يتصدرها مؤشّر التنمية البشرية الذي وضعه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عام 1990. وهو مؤشّر يتألّف من ثلاثة معطيات «كمية» يتعلّق الأوّلى بالدخل القومي الإجمالي للفرد، أي مجموع قيمة السلع والخدمات التي تم إنتاجها محليا (الناتج المحلي الإجمالي)، بالإضافة إلى صافي المداخيل الآتية من الخارج (الأجور وجرايات التقاعد وعائدات الأسهم والسندات وغيرها) خلال سنة واحدة مقسوما على مجموع عدد السكان. ويحسب هذا الدخل بالدولار الأمريكي بالنظر إلى تعادل القدرة الشرائية لا بالنظر إلى سلّم الأسعار الجارية أو حتّى الثابتة وذلك ليكون المؤشّر قابلا للمقارنات الدولية. ويتمثّل مؤشّر التنمية البشرية ثانيا في أمد الحياة عند الولادة (أو مأمول العمر) أي معدّل السنوات المتوقّع أن يعيشها الفرد إذا استمرّت اتّجاهات الوفاة القائمة على حالها. يعكس هذا المعطى بشكل غير مباشر مدى نجاعة الخدمات الصحيّة وتوفّرها في البلد المعني بالأمر وعن وضعية السكن والتغذية وانعكاساتها على صحّة السكّان. أمّا المعطى الثالث الذي يتكوّن منه مؤشّر التنمية البشرية فإنّه يهم مستوى معرفة القراءة والكتابة عند السكان ممّا من شأنه أن يفسّر ولو جزئيا التقدّم الفكري والذهني للسكان بصفة عامة ومهارة اليد العاملة بصفة أخصّ.

ومع ذلك فإنّ مؤشّر التنمية البشرية كما هو لا يكفي وحده للحكم على صحّة وديمومة التنمية وصيرورتها مادام تحسّنه لم يفض إلى توازن قطاعي من جهة وإلى توازن جهوي وفئوي من جهة أخرى، وما دام لم ينجح في إيجاد حلول ناجعة للبطالة بصفة عامة ولبطالة حاملي الشهادات العليا بصفة خاصة، وما دام يتزامن كذلك مع «إعاقة» التنمية أو عرقلتها التي تتّخذ شكل شلّ الثلاثية التي نلخّصها كما يلي: تحسّن الإنتاجية يفضي بالتبعية إلى تحسّن المداخيل التي تفضي بالتبعية إلى تغيّر هيكلي في الطلب. وبعبارة أخرى فإنّ تحسّن مؤشّر التنمية البشرية غير كاف وحده للدلالة على ديناميكية الدفع المزدوج بين آلة الإنتاج وكيفية الإنتاج و هدفه، أي اليد العاملة والسكان. فلا يكفي تحديث وسائل الإنتاج وعصرنتها دون وجود مستعملين أكفّاء ولا يكفي تقدّم وتغيّر الطلب هيكليا دون توفّر آلة للإنتاج قادرة على تلبيته.

إنّ النموّ دون تنمية يفضي لا محالة إلى زيادة الثروة المنتجة ولكنّه لا يفضي بالضرورة إلى نقلة نوعية في هيكل الطلب وفي هيكل الاستهلاك العائلي بالخصوص المتمثّل أساسا في المرور من مرحلة تلبية الحاجيات الأولية من تغذية ولباس وسكن إلى مرحلة تلبية الحاجيات الثانوية من معدّات وتجهيزات منزلية كالمبرّد والتلفاز والحاسوب مثلا إلى مرحلة تلبية حاجيات الرفاهة كالسيارة والسفر والسياحة. إلا أنّ هذه النقلة النوعية ترتبط أساسا بالإنتاجية حيث تتزامن ضرورة مع انخفاض أسعار الحاجيات الثانوية نسبيا بالنظر لمتوسط الدخل أو الأجر. والدليل على ذلك أنّ سعر المبرد والتلفاز والحاسوب انخفض عموما بالنسبة إلى الأجر الأدنى ولو لم يحصل هذا التراجع لما استطاعت أغلبية الأجراء والطبقات المتوسّطة اقتناء مثل هذه التجهيزات بما يفيد أنّ الإنتاجية تكون الباعث الحقيقي لتحسّن القدرة الشرائية في الأمد البعيد وما يفسر إمّا استقرار وإما زيادة أسعار المواد غير صناعية والخدمات لأنّها لم تشهد تحسّنا ملحوظا في إنتاجيتها.

وانطلاقا ممّا تقدم فإنّ نقد المساهمات الفكرية التي نشرت حول الأزمة الاقتصادية والمالية الراهنة ومعالجتها، والنقد لغويا غير الانتقاد، يحتّم علينا أن نقول إنّ هذه المساهمات افتقرت، مع الأسف، إلى ما هو أساسي في نظرنا وهو التركيز على التنمية لا على النموّ. لذا فإنّها قدّمت اقتراحات معقولة لإعادة التوازنات المالية الكبرى واسترجاع نسبة النموّ التي سُجّلت من قبل حتّى يعود الاقتصاد الوطني إلى ما كان عليه في 2010 ولكن هذه الاقتراحات لم تدخل ضمن خطّة مستدامة ومندمجة وشاملة للتنمية وكأنّها جبّت الأسباب الموضوعية التي أدّت إلى تعطيل مسيرة التنمية في العشريات الثلاث التي سبقت 2011، رغم أنّ السلطات الرسمية نفسها صرّحت في 1981 أنّ هذه المسيرة تعطّلت وقدّمت اقتراحات عملية وإصلاحية لتجاوز التعطيل مثل إقرار التوزيع العادل للعبء الجبائي وإصلاح التعليم والتكوين المهني والجامعي وإصلاح مسالك التوزيع والإدارة العمومية ومراجعة السياسة الصناعية وهي بالضبط المشاكل التي تطرح إلى حدّ الساعة.

عجز النموّ في السنوات التي سبقت أحداث 14 جانفي 2011 عن إيجاد حلول عضوية لجملة من المعضلات الاقتصادية والمالية البحتة كضعف نسبة القيمة المضافة بالرجوع إلى قيمة الإنتاج، وتقلّص حاصل العملة الأجنبية لنشاطات اقتصادية مهيمنة كصناعة الملابس والأحذية وتفاقم الضغط على الميزان التجاري نتيجة لركود نسبة الاندماج الصناعي أو تقهقرها، إلى آخر ذلك من المعضلات. كما عجز أيضا عن إيجاد حلول للحدّ من الفوارق بين الجهات ممّا دفع بتنامي الهجرة الداخلية وذلك لأنّ سياسة التنمية الجهوية التي اعتمدت في الأربعين سنة الماضية تركّزت أساسا على البنية الأساسية الظاهرة ومراجعة مجلة الاستثمارات لا غير وهذا لا يكفي كما ثبت من خلال عدّة معطيات. والأخطر أنّ تسجيل نسبة محترمة من النموّ في السنوات التي سبقت أحداث 14 جانفي 2011 أغنى عن مراجعة ضرورية للسياسة الصناعية والفلاحية رغم بعض الجهود المحتشمة التي صدرت من الإدارة نفسها. ولكن حان الوقت الآن لمراجعة هذه السياسة بما يتّفق والتنمية لا النموّ وذلك بالتنصيص الصريح على الأنشطة والقطاعات التي سيرتكز عليها الاقتصاد الوطني مستقبلا وبتحـديــد ما هو راجع إلى الدولة وماهو راجع إلى المبادرة الخاصة في هذا الشأن. وتبعا لذلك وجب توضيح وسائل تدخل الدولة في الميدان الاقتصادي وإلى الليبيراليين المتشدّدين الذين يعارضون هذا التدخل أنّ لا ينسوا أنّ نجاح كوريا الجنوبية يرجع إلى حدّ كبير إلى تدخّل الدولة في الميدان الصناعي وفيما يخصّ العلوم والبحث. هذه توطئة محتشمة وسريعة لمن يرغب في تقييم الكتابات التي صدرت أخيرا حول الأزمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية التي تنهك بلادنا منذ سنوات ووسائل حلّها، هدفها أوّلا التأكيد على قراءة هذه الكتابات من زاوية التنمية لا من زاوية النموّ وثانيا التذكير بالأسباب الحقيقية الكامنة وراء انتفاضة 14 جانفي 2011، وهي وصول السياسة الاقتصادية المتبعة في السنوات السابقة إلى مأزق متوقّع. ورغم ما يرجع  لسوء التصرف في الميدان الاقتصادي والمالي بعد 14 جانفي 2011 فإنّ المخلّفات السابقة ساهمت هي الأخرى في استفحال الأزمة رغم محدودية وقصور هذا اللفظ عن ترجمة الواقع الاقتصادي والاجتماعي بكلّ مظاهره وإشكالاته.

الحبيب التهامي

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.