أخبار - 2019.05.25

جامع يوسف صاحب الطابع بالحلفاوين: تحـفة معمارية تمـتـزج فيـها الأنمـاط الفـنـيـة

جامع يوسف صاحب الطابع بالحلفاوين: تحـفة معمارية تمـتـزج فيـها الأنمـاط الفـنـيـة

في ساحة الحلفاوين بالمدينة العتيقة، يلفت انتباهك جامع كبير بمنارته ذات الشكل المثمّن وجمال هندسته. يقف هناك منذ قرنين حارسا للساحة، يعلن للقادم إليها من بعيد عن وصوله إلى مراده. جامع يوسف صاحب الطابع تحفة فنية معمارية تجمع بين الطرازين الهندسيين العثماني والإيطالي أقام هذا المَعْلم الوزير الأول في عهد حمّودة باشا ليحمل اسمه ويُخلّد مسيرته الاستثنائية، من عبد مملوك إلى الرجل القوّي في ذلك الوقت.

شُرع في بناء جامع صاحب الطابع سنة 1808 على يد المهندس الحاج ساسي بن فريحة الذي استعمل مواد بناء مثل رخام كرارة وعناصر زخرفية أكثرها من إيطاليا. وقد استلهم ديكوره من جامع يوسف باي.

أقيمت أوّل صلاة في الجامع يوم 4 مارس 1814. وكان جزءا من مركّب كامل يضمّ مدرستين وتربتين ووكالة وحمّاما وسبيلين ودكاكين وسوقا فيما يشبه نظام «الكليّا» في إسطنبول.

ويعدّ جامع يوسف صاحب الطابع آخر جامع بُني في العهد الحسيني. وقد تميّز بثراء معماره، حيث جمع ما بين عناصر معمارية وزخرفية، محلية وتركية وإيطالية على مستوى التيجان، والنقوش والزخارف الجصيّة. فقد تمّ استعمال جليز القلالين والرخام الإيطالي المنقوش والجصّ المخرّم (نقش حديدة)، كما استخدمت أيضا حجارة الحرش الرملية الصفرية، والكذال الأبيض أو الوردي ومختلف أنواع الرخام.

ويرتفع الجامع على قاعدة مسطّحة من المتاجر والمخازن. وتعلوه ستّ قباب على شاكلة الجوامع الحنفية العثمانية، كما تكسوه من الداخل زخارف جصية ويغطي الرخام الإيطالي الأرضيات والجدران والسواري والتيجان المنحوتة على الطريقة الإيطالية بالإضافة إلى المحراب والمنبر، كما يصفه الباحث والمؤرّخ أحمد السعداوي في مقاله «العمارة والفنون في العصر الحديث» الذي يؤكّد أنّ اللوحات الرخامية والأنماط الزخرفية التي تزيّن بيت الصلاة مستوحاة من فنّ الباروك السائد في شبه الجزيرة الإيطالية في ذلك العصر.

أمّا منارته المُثمّنة التي يبلغ طولها 25 مترا، فقد بقيت لوقت طويل غير مكتملة نتيجة وفاة يوسف صاحب الطابع، حيث توقّفت الأشغال قبل أن يتمّ وضع الشرفة العليا التي يُرفع منها الآذان، ووقع خزن الحجر الذي جلبه الوزير من إيطاليا في المخازن ليبقى فيها أكثر من مائة وخمسين سنة، قبل أن يتمّ استكمال بناء المنارة في النصف الثاني من القرن الماضي. وتُظهر الصوّر القديمة لجامع يوسف صاحب الطابع المنارة بدون رأس وكأنّها مقسومة. وقد تمّت تغطيتها بغشاء من الخشب الملبّس بالرصاص لحمايتها من الأمطار، إلى أن تمّ استكمالها، بالاعتماد على الحجر الباقي في المخازن.

يمكن الدخول للجامع من مدرجين: يطلّ الأوّل على ساحة الحلفاوين، في حين يطلّ الثاني على مدخل زاوية سيدي شيحة. ويؤدّي المدخلان إلى صحن الجامع، حيث يوجد محراب خارجي تكسو أسفله زخارف من الطراز المغربي. ويحيط الصحن ببيت الصلاة التي يمكن الدخول إليها من خمسة أبواب ويمتدّ طولها على مسافة 31 مترا وهي مستطيلة الشكل. واجهاتها الداخلية مزيّنة بالرخام وسقفها مكسوّ بالكامل بالزخارف الجصيّة ذات التأثيرات التركية.

ويُعدُّ جامع يوسف صاحب الطابع الجامع الوحيد الذي شيّده وزير في الدولة الحسينية، ممّا يعطي انطباعا عن أهميّة صاحبه في تاريخ هذه الدولة. وقد كان قصره مقابلا للمجمع الذي يضمّ الجامع، ودُفن يوسف صاحب الطابع في التربة الملحقة به.

أبو المحــاسن الوزيـر يوسف صاحب الطابع (1765 - 1815)

عند الحديث عن جامع يوسف صاحب الطابع، لابدّ من التعريج على حياة هذه الشخصية الفّذة التي طبعت زمانها من خلال مسيرة استثنائية وإنجازات كبيرة.

وُلد يوسف صاحب الطابع، الملقّب بأبي المحاسن، سنة 1765 في مولدافيا، وأُخذ صغيرا إلى اسطنبول وبِيع عبدا. اشتراه قايد صفاقس في ذلك الوقت، بكّار الجلولي وجلبه معه إلى صفاقس حيث ترعرع وكبر في بيته قبل أن يقرّر أن يهديه لولي العهد، حمودة باشا سنة 1781 وهو في سنّ الثمانية عشرة. أُعجب هذا الأخير بذكائه وفطنته وسعة ثقافته فأوكل مهمّة تعليمه أصول الحياة في سرايا الباي للوزير حمودة بن عبد العزيز.

سرعان ما تألّق المملوك، خاصّة في المسائل الاقتصادية، فعيّنه حمودة باشا في منصب صاحب الطابع، ثمّ مشرفا عامّا على الجباية، حيث ابتكر نظاما جديدا لتحصيل الجباية في الإيالة ساهم في توفير أموال مهمّة لخزينة البلاد وإحداث حركية اقتصادية كبيرة.

أرسله الباي أيضا إلى الباب العالي في اسطنبول لاستمالة السلطان العثماني بعد حدوث برود في العلاقات بين الحاكمين، وقد نجح يوسف صاحب الطابع في مهمته ليدعّم بذلك حظوته لدى الباي.

ومع وفاة الوزير الأوّل مصطفى باشا، عُيّن يوسف صاحب الطابع مكانه ليُصبح الرجل القويّ في المملكة، إذ شكّل «لوبي» سياسيا واقتصاديا متنفّذا، يسيطر على كلّ مفاصل الدولة، كما أنّه كان ممسكا بالعديد من الأنشطة الاقتصادية منها التوريد والتصدير.

لكنّ الموت المفاجئ لحمودة باشا، ومقتل خليفته عثمان باي، فتح المجال لأعداء يوسف صاحب الطابع ليكيدوا له الدسائس، لينتهي الأمر بقتله سنة 1815 ورمي جثّته إلى العامّة للتنكيل به. وكان لابدّ لعائلته من التدخّل لدى الباي لإقناعه بالسماح لها بدفنه في التربة الخاصّة بيوسف صاحب الطابع.

في رواية صدرت مؤخّرا، بعنوان «أبو المحاسن الوزير يوسف صاحب الطابع»، يروي الكاتب ماهر كمون بطريقة سلسلة ومشوّقة، مسيرة هذه الشخصية الفذة، ملقيا الضوء على أهمّ مراحل حياتها، منذ صعودها وتألّقها إلى حدّ سقوطها. ولم يفته في آخر الكتاب أن يبيّن الخسارة التي مُنيت بها البلاد بانتهاء عهد حمودة باشا ويوسف صاحب الطابع، حيث دخلت، بعد فترة من الرّخاء، في مرحلة من الركود السياسي والاقتصادي والثورات الداخلية، انتهت بإفلاس الدولة وانتصاب الحماية الفرنسية.

ويبقى اليوم جامع يوسف صاحب الطابع في الحلفاوين شاهدا على ازدهار تلك الحقبة وعلى المسيرة الاستثنائية لهذا الوزير الذي ترك بصمة لا تُمحى في تاريخ تونس.

حنان الأندلسي

* «العمارة والفنون في العصر الحديث» مقال لأحمد السعداوي من كتاب تونس عبر التاريخ: من العهد العربي الإسلامي إلى حركات الإصلاح» (الجزء الثاني)

* “Les Monuments de Tunis”, Slimane Mustapha Zbiss, Societe Tunisienne de Diffusion, Tunis 1971

* Abou El Mahassen El Wazir Youssouf Saheb Ettabaâ: Ascension fulgurante et chute tragique (1765-1815) ,Maher Kamoun, Mim Edition, mars 2019.

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.