عامر بوعزّة: التّونسيّون مـن هُــمْ؟
انقضت دورةُ هذا العام من معرض تونس الدولي للكتاب مخلّفة صوّرا من فرط جمالها تبعث في النفس صنوفا من الحيرة والتساؤلات، صورَ المتدافعين أمام أبواب الدخول وفي حفلات التوقيع، وصوّر الأطفال يطالعون وهم يلعبون ويمرحون، وصوّر الكتّاب يتحاورون مع القرّاء ويتناقشون في مختلف الفعاليات، ومناظرَ مبهجة أخرى قد تمحو بعض القتامة تغلّف هذا الزمن الذي نعيش. نجد أنفسنا هاهنا أمام روايتين مختلفتين: روايةٍ أولى تقول إن في تونس شعبا مثقّفا واعيا يؤمن بأهميّة غذاء الروح ويبذل فيه وقته وماله، لا أدلّ على ذلك من ذينك الطابورين الطويلين اللذين التقطتهما عدسة المصوّر دقائق قبل فتح أبواب المعرض صبيحة يوم الأحد. وتونس في هذه الرواية بلد مختلف ثقافيا عن محيطه بقدر ما هو منسجم مع ذاته، فهو يضع صورة شاعر على إحدى عملاته الورقية، ويطلق على طائراته أسماء الشعراء والمفكّرين والمصلحين اعتزازا بعمق تاريخه في الإصلاح والتنوير والحداثة. وهذا لا يحدث إلاّ في بلد تعاقبت عليه ثقافات وحضارات مختلفة جعلته يؤمن بالتنوّع والانفتاح قدر إيمانه بالتجذّر والانتماء.
أمّا الرواية الثانية فتقول إنّ التونسي ليس مغرما بالكتاب بل يعشق الطوابير أينما وجدت ويخترعها إذا لم يجدها، فأولئك الذين تجمهروا أمام أبواب معرض الكتاب هم أنفسهم الذين سيتجمهرون أمام محلات بيع الملابس والأحذية يوم انطلاق موسم التخفيضات، وسيتدافعون أمام المخابز ومحلات بيع المخللات والكعك في عشيات شهر رمضان، ويتسابقون للظفر بالدجاج والحلويات ليلة رأس السنة، الذين يقفون ساعات طويلة قدّام الصالات والمسارح في أيّام قرطاج السينمائية والمسرحية والشعرية والغنائية هم أنفسهم الذين يقضون ساعات طويلة أيضا في أسواق الملابس المستعملة وأمام حوانيت بيع الزقوقو، هم الذين يتسابقون إلى كتابة نصوص رديئة على الفايسبوك ينسبونها عادة إلى محمود درويش وأحلام مستغانمي وجلال الدين الرومي لكنّهم مدمنون أيضا على مشاهدة برامج تلفزيون الواقع بكلّ ما فيها من فضائح اجتماعية واخلاقية.
قد تكون الرواية الثانية أقرب إلى المنطق، فالأولى تتناقض كليا والواقع الرديء الذي يحيط بنا. ومن غير المعقول أن يصنع شعب يحبّ الثقافة والكتب ويعتز بالانتماء إلى بيئة تقدمية خرابا بحجم هذا الخراب الذي صنعناه حولنا. بينما قد تجد الرواية الثانية ما يسندها في الواقع وخصائص الذات، فالقاسم المشترك بين كلّ هذه الطوابير قد يكون حبّ الظهور والرّكوب على ظهر الموجة، أي النفاق الاجتماعي الذي يدفع ببعض الأفراد إلى التحلّي بسلوك لا يتناسب وجوهرهم الفكري لمجرّد حبّ الانتساب إلى فئة أو طبقة انتسابا شكليا عابرا فارتياد معرض الكتاب والتقاط صوّر في أروقته قد يجعلك تشعر بالانتماء إلى هذه الطبقة المثقّفة التي تتكلّم كلاما صعبا وينظر إليها الناس بعين الاحترام والتقدير. من ثمّة يصبح السؤال عن القراءة الفعلية أهمّ من الابتهاج بمظاهر النجاح الجماهيري في المعرض، وأيّ قيمة لكتب لا تغيّر واقع الإنسان وفكره وحياته إلى الأفضل؟
يعطيك التونسيون دائما انطباعا بأنّ غابريال غارسيا ماركيز هو كاتبهم المفضّل في الوقت الذي يهتمّون فيه أيضا بنجوم تلفزيونات القمامة وسهرات «التالك شو» الرديئة. لذا تبدو الروايتان قاصرتين فعليّا عن تفسير الشخصية التونسية في ضوء ما يحفل به الواقع اليومي من مفارقات عجيبة. لقد كان الإعلام الأحاديّ الخاضع لاستراتيجيات الدعاية السياسية قادرا على رسم صورة نمطيّة للمواطن يروّجها في نطاق تصوّر الزعيم القائد الأوحد للمجتمع وما ينبغي أن يكون عليه. هكذا صاغت البروباغاندا البورقيبية قصّة الشعب الذي لم يكن شيئا غير بعض الغبار والفقر والقمل والجهل والتخلّف وكيف انتقل إلى التمدّن والحضارة بفعل ما يتحلّى به زعيمه من كاريزما ومن رؤية ثاقبة. وصنعت الدعاية زمن بن علي قصّة الشعب الذي لا يختلف في شيء عن البقرة الضحوك تحت مسمّى بلد الفرح الدائم في ظلّ معجزات اقتصادية أشاد بها القاصي والداني!، واليوم في ظلّ ما تتمتّع به وسائل الإعلام من حرية فاقت كلّ التوقّعات وفي ضوء التنازع حول الهويّة توصف الشخصية التونسية بشتّى الأوصاف ويتغيّر وصفها حسب المزاج العام وما تمليه التجاذبات السياسية. فالشعب الذي وصف بالعظيم يوم أطاح بنظام الاستبداد، يوصف بنقيض ذلك في ضوء ما فعله لاحقا بالحرية والديمقراطية. إن وصف الشخصية القاعدية لأيّ شعب من الشعوب عمل دقيق لا مناص فيه من التحليل العلمي المتأنّي ويزداد الأمر خطورة في الحالة التونسية التي تبدو أحيانا صعبة ومعقّدة بل مستعصية أيضا.
عامر بوعزّة
- اكتب تعليق
- تعليق