محمّــد الحليـوي (1907 – 1978): تـوأم الشّــابّــي ورائـد الـــتّجـديـــد الأدبـي في تونس
هو ثاني اثنين من أفذاذ الأدب التّونسيّ الحديث اتّصلا وتعارفا وتبادلا التّأثير فصار لا يُذكر أحدهما إلّا مقترنا بالثّاني: أبو القاسم الشّابّي ومحمّد الحليوي. وهو ثالث ثلاثة من أركان مدرسة تونس الرّومنطيقيّة : الشّابّي والحليوي ومحمّد البشروش. بل لعلّه رائد المذهب الرّومنطيقي في الأدب التّونسيّ فقد كان مبشّرا ومعرّفا وممارسا ، وساعده إتقان اللّسان الفرنسيّ على أن يكون همزة الوصل بين أقطاب الرّومنطيقيّة الغربيّة وبين مريديها من أدباء العربيّة وشعرائها في تونس.
كان مولده في 3 أوت 1907 بمدينــــة القيروان، وهــو ينحدر من عائلة قيروانيّة أصيلة اتّخذت مقرّا لها بـ«حومة الجامع». تعلّم أوّلا بالمدرسة القرآنيّة بالقيروان وكان يُديرها آنذاك الشّيخ محمّد شويشة خطيب القيروان ووطنيّها الغيّور (1885 - 1965). ثمّ انتقل إلى المدرسة العربيّة الفرنسيّة حيث أتمّ دراسته الابتدائيّة بحصوله على الشّهادة سنة 1924، وكان من معلّميه الذّين يذكر أنّه تأثّر بهم المرحوم الطّاهر المغراوي (ت 1932).
واتّجه الحليوي بعد مرحلة التّعليم الابتدائيّ إلى القسم الإسلامي من مدرسة ترشيح المعلّمين بتونس العاصمة وقد سبقه إليها الشّاعر والمربّي القيرواني الطيّب السّكيك. فقضّى هنالك ثلاث سنوات تُوّجت سنة 1927 بالحصول على شهادة مدرسة التّرشيح التّي مكّنته من أن يُصبح معلّما بالمدارس الابتدائية العربيّة – الفرنسيّة . وكان قد تتلمذ في مدرسة ترشيح المعلّمين لجملة من أعلام الثّقافة التّونسيّة آنذاك أمثال الصّادق التّلاتلي وبلحسن النّجّار ومحمّد البشير النّيفر وأبو الحسن بن شعبان.
ثمّ كانت المرحلة الأخيرة من مراحل دراسته بالمدرسة العليا للّغة والآداب العربيّة في عهد إدارة المستشرق الشّهير ويليام مارساي حيث أحرز شهادة «البروفي» سنة 1930 ثمّ الدّيبلوم الأعلى للّغة والآداب العربيّة سنة 1940. وفي هذه المدرسة تعرّف إلى أستاذه محمّد العربي الكبادي فنشأت بينهما معاشرة أدبيّة تغذّى الحليوي في كنفها من كنوز الأدب العربيّ القديم وتربّت فيه ملكة الذّوق الرّفيع وصُقلت مواهبه.
مع أبي القاسم الشّابّي
التقى الحليوي أبا القاسم الشّابّي سنة 1925 عندما كان طالبا بدار المعلّمين وكان الشّابّي طالبا في الزّيتونة ومُقيما بالمدرسة اليوسفيّة، وفي تلك الأثناء كان الحليوي يتردّد على المدرسة اليوسفيّة لملاقاة ابن خالته ورفيق صباه محمود الباجي فتعرّف إلى جماعة من زملاء الباجي في الدّراسة منهم أبو القاسم الشّابّي. وسرعان ما أبدى الحليوي ميلا إلى الشّابّي دون بقيّة الجماعة لأنّه وجد فيه مشابها من أفكاره وإعجابا بأعلام الفكر والأدب الذّين كان يُعجب بهم ويتتبّع آثارهم من أمثال ابن الرّومي والمعرّي من القدماء والعقّاد والمازني وميخائيل نعيمة من المحدثين. وعلى هذا النّحو فإنّ الأسباب التّي قرّبتهما وجعلت كليهما يتشبّث بصداقة الآخر هي ميولهما الأدبيّة المشتركة ونزعتهما الواضحة إلى تقويض الذّوق الأدبيّ القديم وإحلال ذوق جديد محلّه.
ولمّا فرّقت بينهما تصاريف الحياة إذ اتّجه الحليوي إلى التّدريس بجهة الوطن القبلي وعاد الشّابّي إلى مسقط رأسه في توزر تواصلت العلاقة من خلال التّراسل ودام ذلك من جويلية 1929 إلى أوت 1934.
وقد كان التّأثير متبادلا بينهما. فقد كان الشّابّي يُحبّب إلى صديقه الحليوي مُثله العليا ويستنهض همّته ويشحذ عزمه ويحثّه على الكتابة وإرسال مقالاته ليؤدّيها إلى زين العابدين السّنوسي ليتولّى نشرها في مجلّته «العالم الأدبي» أو ليرسل بها إلى أحمد زكي أبي شادي لنشرها في مجلّة «أبولو» المصريّة أو أحمد حسن الزّيّات صاحب مجلّة «الرّسالة».
أمّا الحليوي فكان تأثيره هو الآخر بليغا في الشّابّي، فقد كان يُخفّف من تشاؤمه وضيقه بالحياة وما يعتريه أحيانا من ضجر وتبرّم فقد كتب إليه الشّابّي معترفا: «لا أنكر أنّ رسائلك تلك كثيرا ما شحذت من قريحتي وخفّفت من نقمتي على نفسي وسُخطي عليها سُخطا يُؤدّي بي أحيانا إلى أن أعتزم هجرة الأدب والشّعر اللّذين لا أراني بلغت فيهما ما تطمح أشواقي إليه».
ولا شكّ في أنّ الحليوي كان مصدرا للأدب الأجنبيّ بالنّسبة إلى الشّابّي يُحدّثه عنه ويُعرّفه بأبرز آثاره وأعلامه واتّجاهاته ولا سيّما المذهب الرّومنطيقيّ، لذلك نجد الشّابّي يكتب إلى الحليوي قائلا: «أهنّئك على نجاحك في دراسة رومنتيكيّة الأدب الفرنساوي، أقول أهنّئك بالنّظر لما أثارت في نفسي من لذّة وإعجاب ولما أدركت فيه من دقّة واستيعاب.» وعندما قرأ الشّابّي مقال الحليوي حول الشّاعر الفرنسي «لامارتين» كتب إليه: «لقد زادني إعجابا بمواهبك السّامية وحبّا لقلبك الحيّ ونفسك الحسّاسة الواعية.»
ولعلّ أوفى تلخيص لهذه العلاقة نجده في تصريح للحليوي تمّ بثّه في الحصّة التّلفزيّة التّي خصّصت لأربعينيّته (أكتوبر 1978) يقول فيها : «لقد كان الشّابّي يُكمّلني وأكمّله، يُكمّلني عاطفيّا وأكمّله عقليّا أي أنّه كان يجد في أدبي العقليّات التّي يحتاجها وأجد في أدبه العاطفيّات التّي أحتاجها.»
ريادة الحركة النّقديّة في تونس
توفيّ أبو القاسم الشّابّي يوم 9 أكتوبر 1934، وكان آخر لقاء للحليوي به في سبتمبر 1934 صحبة مصطفى خريّف. ووافق فراق صديقه نقلته من الوطن القبلي (بني خلّاد ثمّ قربة) إلى ضاحية رادس التّي قضّى بها سبع سنوات من 1934 إلى 1941. وكان يحسب أنّه سيستقرّ نهائيّا بتلك الضّاحية الجميلة إلّا أنّ رغبة زوجته في العودة إلى القيروان كانت لها الكلمة الفصل فعاد معلّما في مدرسة زرّوق من 1941 إلى 1945. ثمّ تحوّل إلى المدرسة الثّانويّة التّكميليّة إلى سنة 1956 حيث أُسندت إليه إدارتها.
وانتُخب الحليوي في فجر الاستقلال رئيسا لبلديّة القيروان في الفترة المتراوحة بين 1957 و1960، ثمّ خُيّر بين التّفقّد البيداغوجي والتّدريس فاختار التّدريس بالمعهد الثّانوي لمدينة القيروان بصفة أستاذ مساعد وظلّ به مـــدرّسا إلى أن أحيل عــلى شــرف المهنــــة في 10 سبتمبر 1970. وفي هــذا المعهـــد تتلمذ له ثلّة من أدباء القيروان مثل أحمد الهرقام وجعفر ماجد وأحمـــد القديدي وغيرهم كثير.
وكان الحليوي رغم مشاغل مهنة التّعليم وكلفها يؤلّف الكتب وينشر المقـــالات في الصّحف المحليّة والشّرقيّة ويُشارك في الحياة الثّقافيّة بمحاضراته في النّوادي وعلى أمواج الأثير بالإذاعة التّونسيّة الفتيّة آنذاك ويشدّ من أزر زملائه الأدباء الأحداث ويتحمّس لنزعاتهم التّجديديّة.
ولا مراء في أنّه يُعدّ رائد التّجديد في الأدب التّونسيّ الحديث وأحد بناة الحركة الأدبيّة في تونس ومؤسّسيها فهو – فضلا عن كونه شاعرا وكاتبا وأديبا – من أوائل من مارس فنّ النّقد على أصول منهجيّة ثابتة، وتناول في فصوله ومقالاته النّقديّة الأدب العربيّ القديم والحديث والأدب الغربيّ والأدب التّونسيّ.
وعُرف منهجه النّقديّ بالجمع بين الأصول العلميّة الموضوعيّة والمؤثّرات الذّوقيّة الذّاتيّة. ومن أهمّ الطّرائق التّي سلكها في النّقد المقارنة في أغراض عامّة وخاصّة بين القديم والحديث والعربيّ وغير العربيّ كالمقارنة بين ابن رشيق و«بوالو» Boileauأو بين الجاحظ و«فولتير»Voltaire أو بين حافظ إبراهيم وأحمد شوقي. كما عُرف بالدّراسات التّحليليّة لشعر شاعر أو لتيّار من التيّارات الأدبيّة فيكشف عن حسّه الأدبيّ الرّفيع واطّلاعه الواسع ومعرفته الثّاقبة التّي تؤدّيه إلى الإمساك بشاعريّة مدوّنة أدبيّة وخصائص الفنّ فيها على غرار دراساته لشعر أبي القاسم الشّابّي والشّاذلي عطاء اللّه وإيليا أبي ماضي وأحمد شوقي وأحمد زكي أبي شادي وغيرهم.
وقد ترك محمّد الحليوي آثارا عديدة مطبوعة ومخطوطة، فقد أصدر سنة 1955 كتابه الأوّل «مع الشّابّي» ثمّ نشر «رسائل الشّابّي» سنة 1966، وشهدت سنة 1969 ظهور كتابه الثّالث «في الأدب التّونسي» وصدر له قبيل وفاته كتاب «مباحث ودراسات أدبيّة» (1977). أمّا بعد وفاته فنشرت له مؤسّسة بيت الحكمة مجموعة من أشعاره تحت عنوان «تأمّلات» (1987).
وتخليدا لذكر هذا الأديب الرّائد والنّاقد المجدّد وعرفانا ببليغ أثره في تاريخ الأدب التّونسيّ الحديث أصدرت مؤسّسة بيت الحكمة سنة 2012 الأعمال الكاملة لمحمّد الحليوي في ثلاثة أجزاء بتحقيق الأستاذين المنصف الجزّار وفتحي القاسمي فكان ذلك من أجلّ ما أسدي لأديبنا الرّاحل من أيادٍ.
الحبيب الدريدي
- اكتب تعليق
- تعليق