أخبار - 2019.04.24

انتفاضة الفراشيش (25 و 26 أفريل 1906): أوّل انتفاضة ريفية في تاريخ تونس زمن الاستعمار الفرنسي

انتفاضة الفراشيش (25 و 26 أفريل 1906): أوّل انتفاضة ريفية في تاريخ تونس زمن الاستعمار الفرنسي

كثيرة هي الانتفاضات الريفية أو انتفاضات الفلاحين في تاريخ تونس، منذ الفترة القديمة إلى أواخر الفترة الحديثة، على غرار مشاركة بعض القبائل الحدودية في انتفاضة القائد البربري يوغرطة ضد الحكم الروماني (بين 112 و 105 ق.م) ثمّ في ثورة القائد الثائر تاكفاريناس (بين 17 و 14 م) وانتفاضة فلاحي الشمال الغربي (بين 1854 و1857) ومشاركة قبائل مطماطة وبني زيد ونفزاوة بالجنوب التونسي في انتفاضة القائد الليبي غومة المحمودي ضد الباب العالي سنة 1858 وانتفاضة فلاحي الشمال الغربي سنة 1860 وانخراط غالبية سكان أرياف المملكة التونسية في الانتفاضة التي قادها علي بن غذاهم ضدّ الحكم الحسيني بين 1864 و 1867... ورغم أهمّية مثل هذه الانتفاضات في تغيير مسار التاريخ السياسي بتونس، فإنّها لم تنل حظّها من الدراسة والاهتمام من قبل الباحثين لأسباب عديدة يطول شرحها، منها ما هو موضوعي ومنها ما هو ذاتي.

وخلال الفترة الاستعمارية مثّلت الأحداث التي اندلعت بكلّ من تالة و القصرين في ربيع سنة 1906 «انتفاضة ريفية ذات طابع خاصّ» حسب أحد المختصّين فيها، وذلك قياسا بالانتفاضات المسلحة التي شهدتها البلاد إثر تسرّب قوات الاحتلال الفرنسي انطلاقا من ولاية سوق هراس ذات 26 أفريل 1881. ولئن خُصّصت لانتفاضة الفراشيش (كما تصفها التقارير الفرنسية) بعض الدراسات، فإنّها ظلّت كسابقاتها من الانتفاضات الريفية غير معروفة من قبل غالبية التونسيّين.

الأسباب عديدة والهدف واحد

ارتبطت انتفاضة الفراشيش بأسباب بعيدة وأخرى مباشرة.فالأسباب البعيدة تتمثّل في:

  • وطأة الاستغلال الاستعماري بالجهة وقد ارتبطت انتفاضة تالة والقصرين بسوء الظروف المعيشية لقبيلة الفراشيش التي استولى الاستعمار الزراعي على معظم أراضيها الخصبة. فقد أصدرت المحكمة العقارية المختلطة يوم 25 جوان 1896 أمرا بتسجيل هنشير القصرين الذي كان على ملك الباي ويمسح 6.000 هكتار، يرويها واد الدرب والذي يعمل به أبناء الجهة من «الجدّارية». واقترنت عملية التسجيل بتجاوزات شتّى على حساب الفلاحين المتاخمين لهذا الهنشير فوقع ضمّ العديد من أراضيهم ظلما إلى هذه الملكية الحكومية. وبلغ عدد المستوطنين الفرنسيّين بالهنشير خمسة يتصرّفون في 480 هكتارا من أكثر الأراضي ارتواء. أمّا باقي الهنشير فكان يؤَجّر لمعمّرين وشركات فلاحية وفقا للشروط المعمول بها بباقي أرجاء البلاد. كما أدّت التنقيبات الباطنية التي أجراها الفرنسيّون إلى اكتشاف منجم للرصاص والزنك بعين خمودة وبعين نوبة وجبل العتراء ومنجم للرصاص بكاف الشعانبي وخاصّة منجم للفسفاط بالقلعة الجرداء – التي تبعــد عن القصرين بحـــوالي 67 كلم - شُرع في استغلاله منذ سنة 1904 من طرف شركة إيطالية، كان أهم مشغّل لليد العاملة بالجهة.

ونتيجة لذلك تحوّل قسم هامّ من سكان الجهة إلى «جيش» من الملّاكين الصغار وخمّاسة إلى عمّال وأجراء يوميّين فقراء. وفي 14 جانفي 1901 أصدرت السلطات الفرنسية أمرا يعتبر أغلب أراضي القبائل بالبلاد التونسية أراضي جماعية لأفراد القبيلة لا يحقّ لهم استغلالها دون ترخيص من السلطات الفرنسية. وتبعا لذلك تحوّلت الدولة عمليا إلى مالك لتلك الأراضي - رغم أنّه لم ينصّ صراحة على   ذلك - إذ حجّر على السكان التصرّف بحرية في تلك الأراضي بدعوى حمايتها من المضاربين ففرض ما يشبه العقلة على تلك العقارات إلى أن يحين موعد رسم حدودها ومنزلتها القانونية بصفة نهائية. غير أنّ أمر 1901 قد حوّل أراضي القبائل إلى احتياطي للمستوطنين الذين كانت تحرص على جلبهم إلى تونس بهدف درء الخطر الإيطاليين حيث أنّ عددهم كان يفوق بكثير عدد الفرنسيّين. وفي 15 جانفي 1901 أصدرت السلطات الفرنسية أمرا يقضي برسم حدود الأراضي الجماعية بجهتي ماجر والفراشيش. كما تشكّلت لجنة محلية في الغرض برئاسة المراقب المدني بتالة «فردينان جول هنري ماسّولو» (Ferdinand Jules Henri Masselot)، تولّت جمع كلّ الوثائق والحجج العقارية لدى الناس بدعوى التثبّت من صحتها. وبعد تقرير أوّل وتقرير ثان وبموجب أمر 3 أوت 1905 وأمر مكمّل له بتاريخ 2 أفريل 1906، أصبحت كل أراضي قيادة الفراشيش باستثناء المناطق الغابية وأراضي الموات (الواقعة تحت طائلة أمر 13 جانفي 1896) وكامل الجزء الشمالي للڤيادة و 68 قطعة أرض داخل المنطقة اشتراكية. وكان المتضرّر الأكبر من أمر 3 أوت 1905 أولاد وزّاز. فلا غرابة أن يشارك هؤلاء بصفة فعالة في انتفاضة 1906.

كما استخدمــت الشركــات الاستعمارية والمستكشفين للثروة شتّى المكائد للسيطرة على أراضي الجهة وذلك بتقديم القروض إلى الفراشيش بسخاء ثمّ مصادرة أراضيهم عند عجزهم عن تسديد ما تخلّد بذمّتهم. كما استغلّت جهل أغلب الفراشيش بالقراءة والكتابة للتحيّل عليهم. وكمثال على ذلك هنشير الحمراء الذي يمسح 36.000 هكتار ويستغله أولاد عسكر اشترته شركة تتكوّن من يهود إيطاليين وفرنسيّين وتونسيّين فالتجأ أولاد عسكر إلى القضاء الفرنسي الذي اعتبر الهنشير أرضا خاصّة وليست أرضا اشتراكية. يضاف إلى كلّ ذلك تشديد الخناق على حركتي الهطّاية والعشّابة بالجهة في اتجاه الشمال وتضييق الخناق على الانتفاع بالحلفاء والغابات... وقد أصبحوا مطالبين بدفع إتاوة ثقيلة للدولة.

  • اعتراض الأهالي على أداء الخدمة العسكرية التي تعود إلى قانون 1860 وتدوم ثلاث سنوات. ورغم أنّ هذا القانون لم يفرض على الفراشيش إلا متأخرا (في سنة 1897) فقد نصّ على إمكانية التعويض الإداري الذي يسمح للأغنياء بالحصول على إعفاء أبنائهم من الخدمة العسكرية مقابل مبالغ مالية. ففي 16 ماي  1905 (أي قبل الانتفاضة ببضعة أشهر) اعترض الأهالي على عمليات القرعة للخدمة العسكرية، حيث تجمّع الناس على الهضاب المجاورة وأمطروا مقرّ القرعة بالحجارة، ممّا اضطرّ قوات الأمن إلى التدخّل بعنف لإعادة الأمور إلى نصابها. 
  •  إحكام المراقبة على الحدود التونسية الجزائرية منذ 1881 إذ كان الفراشيش يمارسون تجارة التهريب بانتظام من تهريب التبغ (النفّة) والبارود والأسلحة... وتدرّ عليهم موارد لا يستهان بها. وقد تعرّض علي بن محمّد بن صالح «المحرّك الرئيسي» لانتفاضة 1906 إلى التتبع القضائي جرّاء تهريبه للتبغ. كما أصبح تصدير السلع نحو الجزائر عبر منطقة الفراشيش خاضعا للضرائب الجمركية التي من الصعب الإفلات منها رغم معرفتهم بالمسالك الحدودية السريّة المؤدّية إلى الجزائر.

وعموما انعكست كلّ التحوّلات التي شهدتها البلاد والجهة منذ 1881 سلبيا على قبيلة الفراشيش وفروعها. فحسب التقارير الإدارية والأمنية كانت حالتهم الاجتماعية مزرية، إذ عمّت بينهم المجاعة خاصّة في تلك الفترة ممّا اضطرّ السكان إلى أكل الحشائش البريّة (مثل التلغودة). وفي المقابل كان المعمّرون يعيشون ظروفا حسنة، مسلّطين على الأهالي شتّى أشكال المعاملات القاسية ممّا جعل العلاقات بين الطرفين تتميّز بالتوتّر الدائم. واعتبارا لما تقدّم كان الوضع بالجهة ينبئ باندلاع أزمة حادة أو انفجار اجتماعي من حين إلى آخر لأبسط الأسباب.

أمّـــا الأسبــــــاب المبــــاشرة فــهــي تتمثّـــل في

  • غطرسة أعوان الإدارة الجهوية والمحلية واستبدادهم، وتأتي هذه الغطرسة من أعوان الإدارة التونسية والفرنسية على حدّ سواء. فقد كانوا يمارسون طرقا بدائية ومكشوفة من تسلّم الرشاوي من السكان واقتطاع جزء منها لفائدتهم. واتّهمت صحيفـــة «الجمهوري» (Le Républicain) يوم 2 ماي 1906 الإداريّين الفرنسيّين بمنطقة الفراشيش بتشجيع الارتشاء قائلة: «بالرغم من أنّ الرشاوى والهدايا جزء لا يتجزأ من العادات التونسي، إلا أنّه لا يُعقل أن يسمح الموظفون الفرنسيون للنّاس بتعاطي ذلك وبشكل مفضوح كما هو الحال في تالة».

أمّا بالنسبة إلى الموظفين التونسيّين فقد عانى الأهالي من جور القايد علي الصغيّر وجشعه إلى درجة أنّ السلطات الفرنسية اضطرّت إلى عزله في أواخر القرن الماضي رغم الخدمات الجليلة التي قدّمها لجيش الاحتلال في سنة 1881. أما القايد الذي يعتبر بالفعل «جلاّد الفراشيش» فهو محمّد الهادي الجيلاني وهو أصيل الحاضرة درس بالمعهد العلوي والصادقي وعمل مترجما بقسم الوزارة الكبرى قبل أن يعيّن ڤايدا على الفراشيش منذ أوت 1902. وقد كان أداؤه سلبيا للغاية اتّسم بالفضاضة في تعامله مع أعوانه وخاصّة مع الأهالي الذين كان يقبل منهم الرشاوى والهدايا بما أنّ حبه للمال وجشعه لا حد لهما.

الصحفيّة «ماريم هاري «Myriam Harry» التي قامت بتغطية المحاكمة من مدينة سوسة لفائدة جريدة «لوطون» في فيفري 1907

  • إهمال السلطات لمنطقة الفراشيش وتهميش سكّانها ويظهر ذلك من خلال غياب مرافق عمومية بالجهة كالطرقات ومحلات التمريض والمدارس والآبار... وكان وعي الفراشيش بالموقف اللامبالي للسلطات الفرنسية لهم يزداد حدّة كلما تنقّلوا إلى أماكن أخرى من البلاد وشاهدوا بها مرافق لا توجد بمنطقتهم رغم احتوائها على ثروات طبيعية هامة من زنك ورصاص وفسفاط...
  • صلف المستوطنين الأوروبيّين بالجهة وقد استقرّ بالجهة منذ 1881 عدد من المعمرين الأوروبيين كمالكين للأراضي. وحسب التعداد السّكّاني بلغ عدد هؤلاء 140 شخصا، 79 فرنسيا و61 إيطاليا. وكان من بين هؤلاء طرف في انتفاضة 1906.
  • كثرة الجوائح المناخية أو «الشدّة الكبرى» فكانت السنوات الممتدّة بين 1885 و 1906 عجافا، لا سيّما سنوات 1901 و 1905 و 1906 التي تميزت بسقوط الثلوج والجفاف وهبوب رياح الشهيلي.. وقد عرفت الجهة مجاعتين في 1888 و 1905.
  • ارتفاع أثمان الحبوب ومشتقّاتها في تونس منذ منتصف سنة 1904 بعد أن فرض البرلمان الفرنسي في 19 جويلية 1904 الوحدة الجمركية بين تونس من جهة وفرنسا من جهة ثانية. وبمجرّد اندلاع ثورة 1905 بروسيا توقّف استيراد فرنسا للحبوب من روسيا القيصرية وهو ما زاد في ارتفاع أثمانها بشكل واضح.
  • ظاهرة الربا التّي كانت متفشّية في الجهة حيث استغلّ المرابون والتجّار قلّة السيولة النقدية الفرصة لجمع المال على حساب الأهالي البائسين.
  • دور الوليّ عمر بن عثمان وهو رجل دين جزائري الأصل قدم إلى الجهة منذ سنة. وقد أخذ  تقديسه يتحوّل بالتدريج إلى طاعة كاملة لتوجيهاته وقد اتفقت المصادر حول محدودية قدراته العقلية ومعاناته من عديد الأمراض الجسدية والنفسية ووقوعه بصفة دورية ضحيّة لحالات صرع حادّة. غير أنّ عمر بن عثمان لم يكن بإمكانه قيادة الفراشيش بمفرده وتوفير أية قراءة موضوعية للواقع الاقتصادي والاجتماعي الذي كانت تعيشه القبيلة. وهنا يأتي دور علي بن محمّد بن صالح الشيخ المعزول للڤماطة.
  • دور الشيخ علي بن محمّد: وتذكر المراسلات الرسمية أنّ هذا الشيخ السابق علي ڤماطة من الفراشيش تورّط في أحداث الانتفاضة. فقد عُزل سنة 1891 بتهمة الارتشاء وأدين بتهمة التهريب سنة 1894. كما تذكر المصادر أنّ هذه الشخصية هي التي سهّلت قدوم عمر بن عثمان الى المنطقة وإقامته فيها حيث كان يطوف به الدواوير ويعرّف به الأهالي، مضفيا عليه هالة من التقديس إلى أن اعتقد في «كراماته» أغلب سكان الجهة وآمنوا به أيّما إيمان. كلّ ذلك يوفّر إمكانية تحريضه على الانتفاضة بدافع الانتقام. ولكن لماذا انتظر هذه السنوات الطوال قبل أن يشرع في تحريض الأهالي؟

وفي الواقع كان هذا الشيخ المعزول ينتظر توفّر الظروف الماديّة الموضوعية للتحرّك والانتقام غير أنّ تلك الظروف لم تتوفّر إلاّ في ربيع سنة 1906: سوء الظروف الاقتصادية والاجتماعية وعسف المعمّرين ووجود الولي وتقديس الفراشيش له...، فاستطاع علي بن محمّد بن صالح بدهائه تحويل الفراشيش من كتلة خامدة ومستكينة إلى قبيلة غاضبة وثائرة.

أطوار الانتفاضة

اتسمت الأحداث ضد المعمّرين بطابع ديني ساذج (الدعوة إلى الإسلام) وتمّت على يومين متتاليين:

أحــــداث الڤــــصـــريـــن (26 أفريل 1906)

توجّه صبيحة الخميس 26 أفريل 1906 بعض العشرات من الفراشيش وعلى رأسهم «الڤدادشة» إلى برج المعمّر «لوسيان صال» بخنڤة بولعابة. غير أنّ هذا المعمّر كان يومئذ بسوسة لحضور اجتماعات الحجرة التجارية المختلطة للوسط بوصفه عضوا بها. وقد تزعّم المهاجمين أحمد بن مسعود الحنيدري فقتل المتظاهرون بتشفّ أخ «صال» وأمّه وجرحوا خادمه الإسباني ولم ينجح من الموت إلا بعد تدخّل بعض الخمّاسة من عمّال هذا المعمر الذين أقنعوه بالنطق بالشهادة. ونهب المهاجمون أمتعة المعمّر وخرّبوا منزله. إثر ذلك توجّهوا إلى المعمر «تورنيي» (Tournier) الذي قَبِلَ النطق بالشهادة فلم يصيبوه وحملوه معهم أسيرا. ثمّ عرّجوا على برج تجويد الخيل فقبل رئيس العساكر النطق بالشهادة فاكتفوا بأسره، فيما فرّ العسكريان الآخران. ونهب المتظاهرون ما بالبرج وأخرجوا الخيول الأربع الموجودة به وركبوها. ثمّ انقضّوا على برج المعمّر «برتران» (Bertrand) فقبل هو وعمّه النطق بالشهادة. ثمّ توجّهوا إلى طاحونته فقتلوا خادمه الإيطالي وقبلت أخته النطق بالشهادة فأخلوا سبيلها.

وإثر ذلك رجع المتظاهرون إلى عمر بن عثمان المقيم بدوّار أحد الأعيان، فرحات بن محمّد بفوسانة صحبة الأسرى فألبسوهم ملابس محليّة وحلقوا ذقون الرجال وأطلقوا عليهم أسماء عربية. وفي طريقهم إلى دوّار فرحات مهلّلين مكبّرين، توجّهت مجموعة منهم إلى جبل الشعانبي وطلبت من العمّال النطق بالشهادة فقبلوا وتمّ ترك سبيلهم. وسرعان ما وصلت أخبار الانتفاضة إلى المراقبة المدنية عبر محمّد السعيدي ابن القايد السابق علي الصغيّر وكان المراقب المدني متغيبا منذ 8 أيام في زيارة لنواحي الجهة فلم يكن بمركز المراقبة إلا نائبه والخليفة عبد السلام ڤعيد وأغلب الشيوخ والڤايد محمّد الهادي الجيلاني و «شارل مونشيكور» (Charles Monchicourt) المراقب المدني بالإقامة العامّة الذي أتى للقيام بجرد دقيق لأجهزة إدارة المراقبة من أثاث ومعدّات... كما كان المقيم العــام «ستيفـــان بيشـــون» (Stephen Pichon) بدوره متغيّبا عن البلاد. وفي الأثناء صدرت الأوامر من أولي الأمر إلى الشيوخ وإلى الخليفة عبد السلام قعيد بالتوجّه فورا إلى فوسانة وإرجاع الأمور إلى نصابها. كما أرسلت برقيات طلب نجدة إلى الحاكم العام بالجزائر وإلى مدير منجم القلعة الجرداء، «لا بورت «La Porte» الذي طُلب منه إرسال العمّال على الفور إلى تالة للدفاع عنها ضدّ هجوم محتمل. وفي تالة وقع تسليح الصبايحية والأوروبيّين وعدد من التّجار والعمّال القبائلية الذين كانوا موجودين بها. كما تمّ خزن كميات هامّة من البارود والماء والمواد الغذائية تحسّبا لحصار طويل. وتمّ كذلك فتح شرفات ضيقّة في جدران المراقبة لتسهيل مهمة المدافعين عنها باتخاذ مواقعهم وراء الجدران وأعطيت الأوامر لسكان تالة بعدم مغادرة بيوتهم وأغلقت المقاهي والحانات في انتظار المهاجمين.

وفي مساء يوم الخميس التأم اجتماع حاسم بفوسانة ضمّ كل الذين هاجموا المعمّرين في الصباح وعددا من المقربين من الولي. وقد وعد هذا الأخير المنتفضين بمعجزة أخرى وهي «فتح» تالة على النحو التالي: «أن يوجّهوا عصيّهم نحو المراقبة المدنية حتّى تخرج منها النيران فتصلي البناية لهبا وتحولها إلى هباء منثور، أما رصاص العساكر فسينزل عليهم بردا وسلاما ويتحول إلى قطرات ماء حالما يلامس أبدانهم». ورغم إنكار الوليّ ما نسب إليه أثناء المحاكمة فإنّ الروايات الشفوية المتواترة إلى اليوم تنسب إليه ذلك!
المسيرة نحو تالة (الجمعة 27 أفريل 1906)

فجر الجمعة 27 أفريل 1906 توجّه القدادشة وبعض الآخرين يتقدّمهم أحمد بن مسعود الحنيدري وساروا مهلّلين مكبّرين نحو مقر المراقبة المدنية بتالة ومن ورائهم عشرات الناس. وباقترابهم من مبنى المراقبة المدنية أخذ رصاص الصبايحية والتجار والقبايلية يحصدهم حصدا وبدأ القدادشة يسقطون بين قتلى وجرحى في شجاعة نادرة. لكنّهم ظلوا ينتظرون المعجزة التي لم تأت!

وبمكيدة من الشيخ ڤعيد بتالة قُبض على محرّكها الوليّ عمر بن عثمان صحبة مقدم الزاوية علي بن محمّد بن صالح، حيث نجح في إقناع الولي بأنّه سيكون من أتباعه واستدعاه للقدوم في الحين إلى بيته الموجود بأطراف تالة صحبة المقدم، لكنّه غدر بهما وسلّمهما للقوات الفرنسية التي قامت بنقل عمر بن عثمان إلى سوسة للمحاكمة مع بقية الموقوفين في الانتفاضة. وحســب التقارير الرسمــية كانــت حصيلة الانتفاضة 15 قتيلا (03 أوروبيّين و12 تونسيا) (ودفنوا في حفرة واحدة «حفرة الاثناش») و7 جرحى تونسيّين.

سوء ظروف المحاكمة وقساوة الأحكام الصادرة

اعتبرت السلطات الفرنسية الانتفاضة قضيّة حقّ عام وليست قضية سياسية. وقد دام التحقيق عدّة أشهر ولم تصدر الاتّهامات إلاّ في 21 سبتمبر 1906. فقد تمّت إحالة 59 متّهما على المحكمة الجنائية الفرنسية بسوسة، 3 منهم في حالة فرار بتهم مختلفة: النهب والقتل واستخدام القوة والتعدّي عمدا والمشاركة في ذلك. وقد عقّبت النيابة العمومية على ذلك ولم تُستأنف المحاكمة إلا يوم 22 نوفمبر 1906. وامتدت طيلة ثلاثة أسابيع. وكانت أوضاع الموقوفين جدّ مزرية، حيث تعرّضوا للتعذيب وكان بعضهم حفاة عراة يرتجفون من البرد فيما كان البعض الآخر مكبّلا بالأغلال ويشتكي من الهزال إلى حدّ العجز عن الوقوف في قاعة الجلسة على غرار عمر بن عثمان الذي جيء به على نقالة يوم 28 فيفري 1907.

أمّا الأحكام فقد كانت قاسية وتراوحت بين 5 سنوات أشغال شاقّة والإعدام مع التنفيذ بإحدى الساحات العمومية بمدينة سوسة. وبإيعاز من المعتمد لدى الإقامة العامة البارون «دانتوار» ولتهدئة الخواطر، تمّ اقتراح استبدال حكم الأحكام الثلاثة بالإعدام بالأشغال الشاقة المؤبدة فاستجاب المقيم العام «ستيفان بيشون» لذلك.هذا وقد توفي عمر بن عثمان يوم 13 ماي 1907 بالمستشفى العسكري بسوسة. أما علي بن محمّد بن صالح فقد أبعد إلى محتشد «كايّان» (Cayenne) حيث مات هناك.

انتفاضة لا تزال راسخة في الذاكرة الجماعية وملهمة للفراشيش

مثّلت انتفاضة الفراشيش ثورة على الظلم الاجتماعي وعلى الاستغلال الفرنسي بمختلف أشكاله. وقد كانت قبيلة الفراشيش المحرّك الأساسي لها. أمّا وقودها الأساسي فهو الولي عمر بن عثمان الذي كان يحرّكه الشيخ المعزول علي بن محمّد. ولئن فشلت هذه الانتفاضة في الريف لعدّة عوامل منها ما هو موضوعي ومنها ما هو ذاتي، فقد مهّدت الطريق لانتقال الانتفاضات الشعبية من الوسط الريفي إلى الوسط الحضري. ورغم مرور أكثر من قرن على حصولها فإنّ انتفاضة تالة والقصرين لا تزال حاضرة في وجدان سكان الفراشيش الذين ظلّوا يتداولون أحداثها أبا عن جدّ وكان لآبائهم وأجدادهم إلى عقود غير بعيدة يتردّدون على «حفرة الاثناش» لما لهذا المكان من رمزية.

د.عادل يوسف

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
2 تعليق
التعليقات
أحمد - 08-09-2019 20:55

ماهو دور الحاج عبدالملك بن سديرة اليعقوبي السميري وابنه محمد وايضا دور الحاج سديرة اليعقوبي السميري

Nahed - 26-04-2020 14:04

أريد أكثر معلومات عن الفراشيش و القصرين

X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.