الصحبي الوهايبي: ما أجمـــل أن يلوذ بك الأحيـــاء حــيّا ومــيّــتــا!
مضى زمن طويل لم أزر فيه قبر جدّي، لذلك كان سعيدا حين وقفت عليه ذلك اليوم، الاثنين 25 فيفري 2019. قال: «أهذا أنت يا صحبي؟ أين غبت كلّ هذا الوقت يا بُني؟»؛ وشردتُ ولم أجبْ، فنقر بعكّازه على سقف قبره: «هل تسمعني يا بُني؟»؛ وكان قد أوصى أن يُدفن عكّازه معه. قلت: «أنا هنا يا جدّي». قال لي: «هَلاَ انتزعت الغرس النّابت عند رأسي فعروقه تمتدّ داخل قبري؟». قلت: «إنّها فُلّة غرستها البلديّة، زينةً للمكان»، فضحك ضحكته التي تشبه ضحكة طفل صغير وقال: «أيّها الخبيث! منذ متى كانت بلديّة القيروان تغرس الزّهر والشّجر؟». قلت: «إنّها حَسَكَة برّيّة لاذت بقبرك من حرّ الهجير». قال: «إذًا دعْها ولا تقتلعها...ما أجمل أن يلوذ بك الأحياء حيّا وميّتا... قلْ لي يا ولدي ما ذاك التّطبيل والتّزمير اللذان أقضّا مضجعي طيلة الأيّام الماضية؟ عرس من؟ لا الأحياء يرتاحون ولا الأموات». قلت: «إنّه عرس الدّيمقراطيّة! فالانتخابات على الأبواب»؛ قال: «أما زالوا يطبلّون ويزمّرون بعد كلّ هذه السّنوات؟». قلت: «بل زادوا في الطّنبور نغمة». قال لي: «يا بُني، لماذا لا تلمَّ رفاتي وتدفنني في مكان غير هذا؟ أريد قليلا من السّكينة». قلت: «إلى أين المفرّ يا جدّي؟ إنّهم يطبّلون في كلّ فجّ سحيق؛ أنّى دفنتَ عظامك، ولو في أعلى علّيين أو في قاع البحار، فلن تفوز بالرّاحة السّرمديّة، سيأتي بعضهم لينبش حيث أنت! دونك والشّهد لدغ النّحل، ولو أنّهم طلعوا علينا هذه الأيّام بتقليعة المداواة بلدغ النّحل. يقولون إنّ فيه علاجا للرّوماتيزم والحساسيّة. ولا أظنّهم يقصدون حساسيّة السّلطة من المعارضة. والحساسيّة بمعناها البسيط هي كلّ الأعراض التي تظهر علي الإنسان نتيجة التعرّض لموادَّ من المفترض أنّها طبيعيّة، كبعض الفواكه والأطعمة كالموز والفراولة والمانجو والأسماك واللبن وغيرها؛ والحمد لله أنّ الأغلبيّة السّاحقة من الشّعب الكريم محصّنة ضدّ هذه الأنواع من الحساسيّة فهي لا تقتات منها! والمعارضة عنصر طبيعيّ، لازم لكلّ المجتمعات ومع ذلك مافتئت تسبّب للسّلطة حساسيّة مفرطة، ومن علاماتها، إصدار قوانين مفصّلة على المقاس؛ والتّفصيل على المقاس، عمل صعب، مضن ومجهد، كذلك الخيّاط الذي اختصّ بملابس ذوي الإعاقة من أصحاب الرّجل الواحدة أو اليد الواحدة، فهو يقتصد من هذه الكسوة كُمّا ومن تلك رِجْلا، حتّى يفوزَ في نهاية المطاف بكسوة على المقاس، والفرق الوحيد بين الخيّاطيْن الاثنين أنّ خيّاطنا يخيط لحرفائه، والسّلطة تفصّل وتخيط على مقاسها ومقاسِ الإعاقات المختلفة التي لحقتها جرّاء ما أصابها طيلة السّنوات الماضية من غصرات ونكسات. غير أنّه وجب التّنويه إلى أنّ الأسباب لا تقتصر عل المأكولات والمشروبات فقط، فالمساحيق وبعض المعادن مثل المجوهرات الرّخيصة، وهي زينة السّلطة هذه الأيّام، قد تؤدّي هي الأخرى إلى تفاقم شدّة الحساسيّة، كذلك تمثّل تغيّرات الطّقس مرتعا خصبا للحساسيّة بدءا من الرّبو الرّبيعي والرّمد الرّبيعي، وهذا الأخير يحرم صاحبه من متعة النّظر إلى الزّهور وهي تتفتّح وإلى العصافير تذهب وتجيء دون حسيب أو رقيب، لذلك تبدو أيّامه خريفا لا نهاية له. «هل تسمعنــــي يا جدّي؟». يبدو أنّه عاد إلى رقدته المضطربة التي أفسدتها عليه دقّات الطّبول وصيحات المزامير في غير انسجام أو اتّساق كحال أغلب أهل الفنّ هذه الأيّام، وما زلت أعتقد أنّ من أولى علامات الانحطاط، انحطاطَ الفنّ، ولو أنّي أستنكف أن أسمّيَ ما أسمعه فنّا. قال جدّي، بعد صمت طال: «دعنا من هذا. قل لي كيف حال البلد الآن؟». قلت: «ما لنا والبلد يا جدّي؟ أخاف أن يتنصّتوا علينا» فقاطعني: «ما هذا؟ أيتنصّتون عليّ حيّا وميّتا؟». «هل تسمعني يا جدّي؟ هل تسمعني يا جدّي؟». يبدو أنّه فضّل أن يحاور الأموات من حوله. هل تجدون فرقا بين هنا وهناك؟.
الصحبي الوهايبي
- اكتب تعليق
- تعليق