»مذكّـرات مبتـورة« لنـور الدين بن محمود
صدرت مؤخّرا عن دار السنبكات مـــذكّرات الصحافي الأديـــب نــــور الدين بن محمـــود (1914 - 1990) بعنــوان «نور الدين بن محمود ، مذكّرات مبتورة» وذلك ببادرة من نجلته الدكتورة عطف بن محمود، حرصا منها على تخليد ذكرى والدها، هذا العلم الذي قدّم أجلّ الخدمات للإذاعة والصحافة والثقافة في تونس منذ اندلاع الحرب العالمية الثانية إلى منتصف الخمسينات. عمل نور الدين بن محمود مذيعا ومنتجا في الإذاعة التونسية عند تأسيسها قبل أن يشغل منصب الكاتب العام لقسمها العربي وأسّس مجلّة الثريا التي تجاوز صداها حدود تونس وجريدة الأسبوع التي جلبت لها اهتمام القراء بما كانت تزخر به من كتابات جريئة وعالج الشعر والتمثيلية والمقالة السياسية وهو الذي عرّف بأبي القاسم الشابّي في زمن عزّ فيه النشر والطباعة.
يقول الأستاذ عبد العزيز قـاسـم الذي عرف الرجل عن قرب وهو يقدّم هذه المذكّرات: « لم يكن نور الدين بن محمود متحزّبا بمعنى الانخراط بل كان مساندا حرًّا لأنّ طبيعته كانت تقوم على حريّة فكريّة مطلقة انجرّت عنها كلّ المتاعب التي تحمّلها خلال فترة ما قبل الاستقلال، فترة قلقة أودت بحياة الكثيرين من المخالفين في الرأي. ولَكَمْ دهست عجلة التاريخ في أيّام التّحوّلات الصعبة من مواهب واعدة أو هي في عزّ العطاء تُقتلع من أقدار الأمم والشعوب.
كان الحزب الدستوري «الجديد» برئاسة الحبيب بورقيبة بعد الحرب العالمية الثانية قد اشتدّ عوده وتهيّأ لخوض معركة الاستقلال ودخل المعمعة في فجر الخمسينات من القرن الماضي وناله ما ناله من عنف المستعمر وكان أن صبّ جام غضبه على مناوئيه الذين تولَّت أمرَهم ميليشيات الحزب ممّن كانوا يُسمّون بـ «ذوي العضلات المفتولة».
وكان نور الدين من أبرز المناوئين وأخطرهم لأنّه إعلامي طويل اللسان لاذع القلم عليم بخفايا الأشياء وكان لا بدّ من إسكاته خاصّه أنّه أبدى بعض التعاطف مـــع صـالح بن يوسف فتعـــرّض إلى مـــا أسمـــاه بـ «المؤامرات» المتعاقبة لخنق جريدة «الأسبوع» ماليا وتعطيل «قوافل الأسبوع» [كان نور الدين بن محمود ينظّم رحلات إلى القاهرة وإلى مكّة والمدينة حجّة وعمرة تدرّ عليه أرباحا تمكّنه من الإنفاق على مؤسّستيه الإعلاميتين]، انتهاء بالعنف المادّي ضدّ شخصه». ويضيف الأستاذ عبد العزيز قاسم: «ووجد نور الدين نفسه في الزقاق وكانت كلّ المؤشّرات توحي بأنّ تصفيته الجسديّة تقرّرت بل شُرع في تنفيذها وأشهد أَنِّي رأيت بعيني بعض الضالعين في محاولة القتل فكان لا بدّ له أن ينجو صاحبنا بجلده...
ذات يوم غائم من أيّام فيفري (شباط) 1956 غادر نور الدين بن محمود وطنه الحبيب لاجئا سياسيّا إلى فرنسا التي شارك في مقاومة استعمارها إلا أنّ الرئيس الحبيب بورقيبة، حرصا منه على التنقيص من عدد الناقمين الذين يعيشون بالخارج ، أصدر مرسوما يدعو اللاجئين السياسيين إلى العودة إلى أحضان الوطن قبل نهاية 1973 وعاد الهارب بجلده إلى الحبيبة تونس في العشر الأواخر من ديسمبر أي بعد هجرة قسريّة دامت ثماني عشرة سنة وكان سعيدا بالعودة إلا أنّ تونس التي عرفها وأحبّها كبرت ولم تعد تعرفه وانحسر عدد الأصدقاء من حوله فعاد إلى الهجرة عن طواعية وللرجل مصالح تجارية ومعيشية في أرض الغربة. وبقي يتردّد على أرض الوطن إلى أن رجع إليها نهائيا سنة 1989 وبذلك يكون قد قضّى مرغما فمختارا ما يناهز ثلث الق<رن خارج الوطن.
عاد ولم يبق في العمر إلا سنة وبعض سنة فانكبّ على كتابة مذكّراته وعاجلته المنيّة فلم يكمل تدوين ما أراد تدوينه. إلا أنّه روى لنا بما فيه الكفاية أهمّ فترة من فترات حياته السياسية والفكرية وما كابده خلالها من مشاقّ وغدر الغادرين منتهيا إلى خزعبلات القائم على إدارة جامع باريس ... هذه المذكّرات حكاية معاناة رجل مثقّف ملتزم أبى أن يحني جبهته ودفع الثمن وتونس، آخر الأمر، هي الخاسر...»
ومن هذه المذكّرات نورد هذا المقتطف:
إلقاء القبض عليّ
«تعكّر الجوّ بين الزّعيمين الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف الذي عاد من القاهرة وألقى خطابا بجامع الزّيتونة هاجم فيه المفاوضات الفرنسيّة- التونسيّة، كما هاجمها من قبل الزّعيم يوسف الرّويسي من دمشق. ونشرت «الأسبوع» رسائله واحتدم الشّقاق بين الزّعيمين وقرّرت السلط الفرنسيّة مطاردة الزّعيم صالح بن يوسف الذي يتمسّك بالأمانة العامّة للحزب وسعت لإلقاء القبض على القادة من أنصاره وعلى الرّغم من أَنِّي لم أنخرط بها ولم انضمّ لأيّة هيئة حزبيّة أو منظّمة نقابيّة أو مؤسّسة مهما كانت رأت السلطة أن تلقي عليّ القبض وأنا نائم ببيتي لا أتوقّع شرّا لأَنّي لست في العير ولافي النَّفِير.
خرجت ابنتي الكبرى «عطف» على الساعة السادسة صباحا لتركب القطار وتلتحق بمدرستها القرآنية بالعاصمة التونسية ففاجأها الأعوان أمام المنزل وعلى رأسهم ضابط الشرطة فسألوها عنّي، لم ترتبك ولم تضطرب وأشارت إلى بيت الجيران وتركتهم يقرعون بابه بحثا عنّي فلمّا أدركوا أنّهم أخطأوا المرمى عادوا إلى بابي وطرقوا الباب بعنف. سمع صهري صالح بن الشاذلي طرق الباب وكان لم يستيقظ بعد ففتح لهم الباب ودخلوا لتفتيش المحلّ بعد أن لكموه وقد تجمّعوا بباحة الدار، فنهضت زوجتي من فراشها وصحوت. خاطبني ضابط الشرطة قائلا: «نودّ نقلك إلى العاصمة.» قلت : «أتحمل بطاقة جلب؟» قال: «أجل، تأمّل».
ارتديت ثيابي وخرجت معهم وركبت السيّارة وأوصلوني إلى مكتبي وفتّشوا بمحضري أوراقي، وجدوا بها ظروفا أرسلتها «للأسبوع» جبهة التّحرير الجزائرية فسألوني هل أنت متآمر معها؟ قلت أتلقّى كلّ الرسائل التي يبلغها إليّ ساعي البريد ولست مسؤولا إلاّ عمّا أنشره بصحيفتي. ثمّ أودعوني بالسجن الدائم بشارع جول فيري (حاليا شارع بورقيبة بالعاصمة) مع جماعة من الموقوفين. ثمّ جاؤوا وأخذوني لمكتب الضبط فسألني: «هل أنت من جماعة صالح بن يوسف وهل ينفق على صحيفتك؟»
قلت له برباطة جأش:»لم أرتبط بحزب أو منظّمة أو أمانة عامّة أو إقامة عامّة ودخلي من بيع «الأسبوع» يكفي وزيادة، لم ألتمس الزيادة من أحد». قال: «أعلم ذلك ولو شئت لوفّرنا لك المساعدات». قلت له: «حرّيتي لا تشترى بمال».
وفي المساء أطلقوا سراحي وسراح المحامي محمّد المهدي ابن ناصر. ألقوا القبض علينا لا لكوننا من أتباع صالــح بــن يوسف بل لأنّنا لن نكن في صفّهم. ومن الغد نشر وزير الداخلية بلاغا جاء فيه: عند تفتيش مكتب «الأسبوع» وجدنا به مسدّس عيار 6,35. فاستفظعت ما جاء بالبلاغ الكاذب ونشرت بالصّحف تصويبا جاء فيه: «لما حاصرت الشّرطة مكتبي بعثروه فلم يجدوا مسدّسا واحدا بل عدّة أقلام حبر و«رصاص» وهي سلاحي الوحيد في الكفاح». نشرت البيان بعض الصحف وامتنعت عن نشره صحف أخرى، لكن لمّا طالع وزير الداخلية بياني الذي اتّهمه بالكذب وتهكّم عليه غضب غضبا شديدا وفكّر في الانتقام.
انتقم أوّلا من «الأسبوع» فسعى لدى رئيس الوزراء لتعطيل هذه الجريدة ستّة أشهر. فارتكب مخالفة لأنّ قانون الصّحافة ينصّ على عدم تعطيل أيّة صحيفة إِلَّا بعد تقديم شكوى للمحاكم التونسية تنظر فيها وفِي صورة ثبوت ارتكاب الصحيفة مخالفة من المخالفات تصدر المحكمة قرارها بالتّعطيل. ولم يحدث هذا لأنّ رئيس الوزراء اتَّخَذ قرار التعطيل مباشرة دون الرّجوع إلى رأي المحكمة التي تجاهل سلطتها.
لم أعد أملك شيئا، وتأمّلت من مستقبلي الأظلم بعد «احتجاب «الثريّا» «وقوافل الأسبوع» والمؤامرات الستّ على حياتي. كنت متردّدا بين اليأس والأمل وبين التفاؤل والتشاؤم. وقلت ربّما يتركني الأعداء أحيا بعد احتجاب «الأسبوع».
وجاءني الزميل عمر فضّة رئيس تحرير «البلاغ» اليومية برغبة من صاحبها بوعثمان القيطوني وعرض عليّ أن أشاركه في التحرير وفتح لي بابا بصحيفته عنوانه «بالرأي لا بالنار» وعقدت عدّة فصول ألهبت الحقد ضدّي ونفخت في النار ولم تبرد. وفِي 14 فبراير- شباط 1956، كنت مرابطا بمكتبي لا أفارقه منذ أسبوع، أنام على كرسيّ سياحي وأتناول أكلا خفيفا خشية الاعتداء عليّ بالطريق، حدث ذلك أمام متجر ميزون موديل على السّابعة ليلا. لم أتفطّن لوجود بلطجي يقتفي أثري. استوقفني صهري عبد الحميد بن الشاذلي الذي كان يتفرّج على معروضات ذلك المتجر.
وبدأنا في الحديث فإذا بذلك المنحرف يتقدّم خطوات ، عرفته من سيمائه وقد أخفى يديه في صدريّته ليحجب عن الأنظار مسدّسه. ولمّا حدّقت به النظر وقف وقال: «لِمَ تنظر إليّ؟». قلت له: «ولِمَ تحــوم حــولي جيئة وذهابا؟»
لاحظ ذلك سائق صهري فتخاصم معه دون أن يدري نواياه وأخذني صهري من يدي وركبنا السيّارة وأوصلني إلى سيدي أبي سعيد. وبعد ذلك قرّرت أن لا أغادر المكتب خصوصا وقد رابط بمقهى العمارة بالطابق السفلي من الكوليزي جماعة من الخصوم منتظرين نزولي. لم أمرّ بالشوارع ولم أتردّد على إدارة البريد أو الاتصال بمصرفي أسبوعا كاملا حتّى لا يتكرّر ما تعرّضت له أمام ميزون موديل».
- اكتب تعليق
- تعليق