انقسام أوروبي حول معضلة المقاتليـن الأجـانـب في صفوف داعش
بعد قرار الولايات المتحدة سحب جنودها من سوريا مع القضاء على تنظيم داعش، أعلنت واشنطن رغبتها في أن تستعيد الدّول الأوروبية مواطنيها المنتمين إلى التنظيم، الذين يقبعون في سجون الأكراد تحت إشراف قوات سوريا الديمقراطية. أثار هذا القرار ردّات فعل عديدة من طرف البلدان المعنية، بين من قَبل بفكرة استعادة المقاتلين ومن رفض ذلك.
مع انتهاء الحرب ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية، تُطرح مسألة عودة المقاتلين الأجانب إلى بلدانهم، ممّا يضع هذه البلدان أمام تحدّيات أمنية كبيرة، واحتمال خلق داعش لخلايا نائمة عبر شبكة الإرهابيين العائدين، بالإضافة إلى نسائهم وأطفالهم. وتجد هذه البلدان نفسها أمام مأزق التعامل مع مواطنين تدرّبوا على السلاح وعلى القتل لسنوات، ممّا يجعل إعادة تأهيلهم وإدماجهم داخل المجتمع أمرا صعبا جدّا، علاوة على أنّ كلّ البلدان لا تملك الإمكانيات اللازمة لذلك.
وقد اختلفت مواقف البلدان الأوروبية تجاه مواطنيهم العائدين من بؤر التوتّر في العراق وسوريا. فمنها من قبلت باستعادتهم باعتبارهم مواطنين، ومنهم من رفضت ذلك، معتبرة أنّهم بالانتماء إلى تنظيم إرهابي قد فقدوا حقّهم في المواطنة.
في الأثناء، تواصل قوّات سوريا الديمقراطية (قسد) الاحتفاظ بهم في سجونها في شمال سوريا، ضاغطة على البلدان الأوروبية لاستعادتهم، بحجّة أنّها لم تعد قادرة على الاحتفاظ بهم.
وكان ترامب دعا في تغريدة على تويتر البلدان الأوروبية إلى استعادة مواطنيها الذين قاتلوا في صفــوف داعــــش والذيــــن قُدّر عددهــــم بـ 800 شخص، و«إلا سيضطرّ لإطلاق سراحهم». كان في نبرة تهديده دلالة على أنّ الولايات المتحدة الأمريكية تريد أن تتخلّص بسرعة من مشكلة بقايا التنظيم حتى تستطيع تنفيذ قرارها بالانسحاب من سوريا.
ألمانيا وفرنسا وبلجيكيا: لا بدّ من محاكمة المقاتلين في سوريا والعراق
وضع هذا القرار البلدان الأوروبية أمام وجوب التحرّك السريع لاستعادة المقاتلين الأجانب وهو ما لم يرق لها. في ألمانيا، تقبلت الطبقة السياسية إعلان ترامب بحذر وانقسمت حول إعادتهم أو تركهم يحاكمون في سوريا والعراق، حيث اعتبر وزير داخلية منطقة بافاريا أنّه لابدّ من محاكمتهم على عين المكان دون السماح لهم بالعودة. في حين صرّح المتحدث باسم الداخلية الألمانية أنّه «من حيث المبدإ، وكمواطنين ألمان يشتبه في أنّهم قاتلوا في صفوف داعش فإنّه يحقّ لهم العودة». في نفس الوقت، قامت الحكومة الألمانية بإعداد مسودّة قانون يسمح بسحب الجنسية عن مواطنيها الحاملين للجنسية المزدوجة ممّن انتموا إلى التنظيم وتمريره لوزارة العدل من أجل إصدار قانون جديد في هذا الصدد.
ووفقا للإحصائيات التي أعلنتها الحكومة، يوجد حاليا 60 مقاتلا ألمانيا محتجزين عند قوات سوريا الديمقراطية، بالإضافة إلى 270 امرأة ألمانية وأطفالهنّ لا يزالون في سوريا والعراق. ويذكر أنّ 1050 شخصا تقريبا غادروا ألمانيا للقتال مع داعش منذ 2013.
أكثر راديكالية كان موقف فرنسا عندما رفضت استعادة مقاتليها فورا كما طالب بذلك ترامب، حيث أعلنت وزيرة العدل الفرنسية، نيكول بيلوبي، أنّ بلادها ستتعامل مع كلّ حالة على حدّة بالنسبة إلى مقاتليها الموجودين حاليا في شمال سوريا عند قسد. وقد قُدّر عددهم بـ 50 مقاتلا من جملة 150 إرهابيا يحملون الجنسية الفرنسية لا يزالون في سوريا والعراق.
وأكدت المتحدّثة باسم الخارجية الفرنسية، أنييس فون دارمول من جهتها، أنّ موقف فرنسا واضح وهو أنّ المقاتلين الأجانب «يجب أن يحاكموا حيث ارتكبوا جرائمهم». وكانت القوّات الكردية في سوريا سلّمت مقاتلي داعش الأسرى لديها للعراقين، ممّا جعل الخارجية الفرنسية تصرّح بأنّها تترك أمر محاكمتهم للسلطات العراقية بما فيهم مواطنيها. وهو ما أكّده الرئيس الفرنسي ماكرون بقوله إنّ فرنسا لن تقوم باستعادة الإرهابيين من الفرنسين إلى أراضيها»، وإنّما ستكتفي بالمطالبة «بتحويل أحكام الإعدام التي سيحكمون بها إلى سجن مدى الحياة».
وكان رئيس الجمهورية العراقي، برهم صالح، أعلن خلال زيارته لباريس الشهر الماضي، أنّ العراق تسلّم 13 إرهابيا فرنسيّا وأنه ستتم محاكمتهم هناك.
وكان لبلجيكيا نفس موقف فرنسا من المقاتلين الأجانب، خاصّة وأنها تُعتبر من أكبر البلدان الأوروبية المصدّرة للإرهابيين حيث غادرها حوالي 400 مقاتل منذ 2012، لا يزال منهم حوالي 150 موجودين في سوريا والعراق. وترفض الحكومة البلجيكية عودة مواطنيها من المنتمين إلى داعش وتقول إنّه لابدّ من محاكماتهم في البلاد التي ارتكبوا فيها أعمالا إرهابية. في حين أنّها تبدي مرونة نسبية في مسألة استعادة أطفال الدواعش ما تحت العشر سنوات، إذ تشير الإحصائيات إلى أنّ هناك حوالي 160 طفلا بلجيكيا محتجزين. وحسب ما أعلنته الحكومة فإنها ستسهّل عودة الأطفال إذا ثبت أنّ أحد الوالدين بلجيكي. ما عدا ذلك، فستنظر في كل حالة على حدة. ولكن لا يبدو أنّها ملتزمة بهذا التوجه، ففي نهاية شهر فيفري الماضي، طعنت الحكومة البلجيكية في حكم يقضي باستعادة ستّة أطفال وأمّهاتهم موجودين في مخيّم الهول بسوريا الخاضع لسيطرة قسد.
وتطالب بلجيكيا «بحلّ أوروبي» لمسالة المقاتلين، حيث يؤكّد وزير العدل البلجيكي أنّه «لابدّ من التفكير بهدوء حول المخاطر الأمنية المحتملة».
بريطانيا مع سحب الجنسية عن مواطنيها
لا يختلف موقف بريطانيا، عن موقفي فرنسا وبلجيكيا، فهي أيضا ترغب في محاكمة المقاتلين في البلدان التي يوجدون فيها. وكانت رئيسة الوزراء، تيريزا ماي، صرّحت أنّه «يجب تقديم المقاتلين الأجانب للمحاكمة «وفقاً للإجراء القانوني المناسب في النطاق القضائي الأكثر ملائمة»، بما يعني إبقاءهم في الأماكن التي يحتجزون فيها حاليا بسوريا والعراق. وقد أكّدت ماي أنّ «الحكومة البريطانية ستبذل كل ما في وسعها لضمان أمن المملكة المتحدة».
وحسب الإحصائيات الرسمية، فإنّ عدد المقاتلين البريطانيين الذين سافروا للالتحاق بداعش في العراق وسوريا بلغ 9000 شخص، منهم 400 عادوا وأغلبهم من النساء والأطفال، في حين تمّ تقديم 40 مقاتلا أجنبيا للقضاء. ويعتقد أنّ 200 مقاتل بريطاني موجدون في مناطق الصراع.
وكانت بريطانيا صرّحت أنّها تمتلك برامج لمعالجة التطرّف، ولكنّ ذلك لم يمنعها من التصدي لعودة المقاتلين إلى بلادهم، باعتبارهم «تهديدا رئيسيا»، حسبما وصفهم به أحد المسؤولين في جهاز مكافحة الإرهاب. هذا ما يفسّر ذهاب بريطانيا إلى حدّ إسقاط الجنسية عن مواطنيها المقاتلين مع داعش. وهو ما حدث مؤخّرا مع شميما بيجوم، الملقبّة بـ «عروس داعش» والتي انتمت إلى التنظيم منذ أربع سنوات مع زوجها الهولندي الجنسية وتبلغ من العمر حاليا 19 سنة.
السويد كانت أقلّ راديكالية في تعاملها مع مشكلة المقاتلين الأجانب، حيث لم تقم بإدانة الـ 150 مقاتلا سويديا الذين عادوا إلى لبلاد في حين بقي 100 آخرون في سوريا والعراق. وحسب رئيس الوزراء السويدي، ستيفان لوفين، ليس لدى حكومته إلى حد الآن استراتيجية واضحة للتعامل مع هذه المشكلة وتحديدا فيما يخصّ استعادة الأطفال والنساء. إلا أنّ الحكومة السويدية أبدت بوضوح عدم استعدادها لتقديم أيّة تسهيلات قنصلية لمواطنيها الذين تحوم حولهم شبهات إرهابية والراغبين في الرجوع إلى البلاد.
على عكس البلدان الأوروبية، فإنّ روسيا تنتهج سياسية أخرى في التعامل مع المقاتلين الأجانب الحاملين للجنسية الروسية والبالغ عددهم 4500 ممّن التحقوا بداعش، حيث تعمل على تصفيتهم في الميدان. في نفس الوقت، فإنّها تتكفّل بإعادة الأطفال وأمهاتهم، حيث تمّت إعادة حوالي مائتين منهم إلى حدّ الآن، في حين يبقى 1400 طفل محتجزين في سوريا والعراق.
وتعدّ تونس من البلدان التي تواجه جدّيا مشكلة عودة المقاتلين الأجانب، خاصّة وأنّها من أكثر البلدان التي صدّرت مقاتلين نحو ساحات الحرب في الشرق الأوسط، حيث يقدّر عددهم بـ 6000 شخص، عاد منهم 800 إلى حدّ الآن حسب الأرقام الرسمية لوزارة الداخلية. ولكنّ ما يشكّل تحدّيا حقيقيّا لتونس هو استعادة أطفال الدواعش وزوجاتهم العالقين في المخيّمات السورية والسجون الليبية. وفي تقريرها الصادر بتاريخ 12 فيفري 2012، أعلنت منظمة هيومن رايتس ووتش وجود 200 طفل تونسي و100 امرأة محتجزين في «معسكرات وسجون بائسة في ليبيا وسوريا والعراق»، متّهمة المسؤولين التونسيين بالتقاعس في إعادتهم. وجاء في التقرير أنّ «المخاوف الأمنية المشروعة لا تبرّر تخلّي الحكومات عن الأطفال ومواطنين آخرين محتجزين في معسكرات وسجون بائسة في الخارج» وأنّ هناك «أطفالا تونسيين عالقين في هذه المعسكرات بلا تعليم ولا مستقبل، ولا أمل لهم في الخروج من هناك وحكومتهم لم تُقدّم أي مساعدة تُذكر».
وقد بدأت السلطات التونسية في التحرّك مؤخّرا حيث قبلت باستعادة 6 أطفال يتامى كانوا موجودين لدى الهلال الأحمر الليبي. ولكنّ المسألة معقّدة جدا، خاصّة في غياب برامج لاحتضان الإرهابيين وعائلاتهم وإعادة تأهيلهم، إلى جانب ما يشكّلونه من تهديد لبلد يعاني أساســـا من هشاشة وضعه الأمني.
مخاطر داعش في المستقبل
أمام حيرة البلدان الأوروبية في كيفيّة التعامل مع مقاتليها، اقترحت قوات سوريا الديمقراطية التي تحتجز منهم حاليا قرابة 1300 عنصر إرهابي أن تقوم الأمم المتحدة بإنشاء محاكم «إرهاب» في الشمال السوري لمحاكمتهم بما أن الأكراد هناك «لا يملكون أرضية قانونية معترفا بها» للقيام بذلك، كما جاء في تصريح المتحدّث باسم «قسد»، مصطفى بالي. من جهة أخرى، فإنّ الحكومة العراقية اقترحت تقديم المساعدة في هذا الملف من خلال تسلّم المقاتلين الأجانب من «قسد» ومحاكمتهم على الأراضي العراقية. في هذا الصدد، قال رئيس الحكومة العراقية، عادل عبد المهدي، إنّه «سيتمّ فحص أسماء المقاتلين الأجانب المنتمين إلى لداعش وتسليمهم بعدها للمحاكم العراقية لمحاكمتهم».
يبقى السؤال هل أنّ ذلك كفيل بالقضاء على داعش نهائيا والتنظيمات الإرهابية المماثلة التي حاربت في سوريا والعراق؟
في تقريره الأخير أمام الكونغرس، بدا مدير الإستخبارات الوطنية الأمريكية، دان كوتس، حذرا فيما يخصّ هذه النقطة، حيث بيّن أنّ «داعش لا يزال يملك آلاف المقاتلين في العراق وسوريا، كما أنّ له ثمانية فروع وأكثر من 12 شبكة وآلاف المناصرين المنتشرين حول العالم رغم خسائره الجسيمة في القيادات والأراضي»، وهو ما سيجعله «قادرا على تشكيل تهديد قوي في منطقة الشرق الأوسط وغيرها».
وقد أكّد كذلك أنّ التنظيم «سيستغلّ تقلّص الضغوط ضدّ الإرهاب لتعزيز تواجده السرّي وتسريع إعادة بناء قدراته مثل الإنتاج الإعلامي والعمليات الخارجية»، مضيفا أنّه «من المرجّح جدّاً أن يواصل التنظيم السعي لشنّ هجمات خارجية من العراق وسورية ضدّ أعدائه في المنطقة والغرب، بمن فيهم الولايات المتحدة».
بالتالي، فإنّ صفحة جديدة في تاريخ الإرهاب ستُفتح وستستهدف أساسا البلدان الغربية، كما أنّ هناك احتمالا كبيرا جدّا أن يعيد داعش تشكيل نفسه ولكن عبر تسميات جديدة في مناطق تبدو ملائمة لنشاط الجماعات الإرهابية مثل أفغانستان التي تستعدّ القوّات الأمريكية لمغادرتها بعد تحالف سري مع طالبان، ومنطقة الساحل، وهو ما حصل قبلا مع تنظيم القاعدة الذي أفرز تنظيم الدولة الإسلامية.
حنان الأندلسي
- اكتب تعليق
- تعليق