رشيد خشانة: لا تستهينــوا بذكــــاء التــونسييـــن

رشيد خشانة: لا تستهينــوا بذكــــاء التــونسييـــن

مع أنّ جوانب كثيرة من الانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة مازال يلفّها الغموض، تظلّ هناك معطيات ثابتة تشير في مجملها إلى أهميّة الرهانات المرتبطة بهذا الاستحقاق السياسي الكبير. وأوّل تلك المعطيات الثابتة التفاوتُ الكبير بين الأحزاب التي ستتبارى، من حيث الإمكانات التنظيمية والقدرة المالية، وهو تفاوت لن يتغيّر جوهريا في المدة القصيرة المتبقية. والمعطى الثاني أنّ نسبة العزوف ستكون مهمّة، وهو أيضا معطى لا يمكن تحسينه بشكل نوعي في الأشهر القليلة المقبلة. والثالث هو الوزن المرتقب للقائمات المستقلّة في ضوء نتائج الانتخابات البلدية التي أجريت في 6 ماي الماضي.

أمّا المعطى الرابع فيتعلّق بموقف اتحاد الشغل، الذي طرح نفسه لأوّل مرّة منذ 2011، طرفا سياسيا في الاستحقاق الانتخابي المقبل. والمعطى الخامس يخُصُّ الأهميّة التي ترتديها مُخرجات الانتخابات المقبلة، فهي ستجري بعد ثماني سنوات من منعرج 2011، واستطرادا ستنحتُ بشكل نهائي ملامح الجمهورية الثانية حتّى أواسط العشرية المقبلة، أي إلى 2025 وما بعدها.

قبل الخوض في هذه العناوين الكبرى، لابدّ من الإشارة إلى ضرورة تنقية المناخ الذي ستجري فيه الانتخابات، وذلك بتوفير شرطين أساسيين أوّلهما استكمال الترسانة التشريعية، التي مازالت تعرجُ بسبب التأخير في إرساء المؤسّسات التي نصّ عليها الدستور، وفي مقدّمتها استكمال انتخاب بقيّة أعضاء المحكمة الدستورية. والشرط الثاني هو إنهاء ملفّ الشهداء والجرحى، الذي طال انتظاره أكثر من اللزوم، ولا يُعقل أن يبقى عالقا عندما يحين الموعد الانتخابي.

نهاية الاستقطاب

الأرجح أن المشهد الانتخابي لن يتّسم هذه المرّة باستقطاب ثنائي بين حزبين، أو كتلتين، خلافا لانتخابات 2014، بعد تفكّك «نداء تونس» وعدم تبلور قوّة وسطية بديلة، وهو ما ظهرت علاماته في نتائج الانتخابات البلدية، التي تبوّأ خلالها «المستقلّون» الرتبة الأولى و«حركة النهضة» الرتبة الثانية و«النداء» الثالثة. بتعبير آخر فالمتوقّع أن يتشكّل المشهـــد من حزب كبير، لكنّه لا يتمتّع بالأغلبية،  إلى جانب أحزاب أخرى أصغــــر منه، متقـــاربة في الوزن الانتخــــابي، ممّا سيفرض العودة إلى ترويكا جديدة، أو رباعية تضمّ «النهضة» و«تحيا تــونـــس» و«المبادرة» و«المشروع». وسيكون للحــــزب الأكبر اليد الطولى في تشكيل الحكومــــات وحلّـــها.

يبقى هنا سؤال كبير بلا جواب ويتعلّق بموقف اتحاد الشغل، الذي أعلن أنّه سيخوض غمار الانتخابات لأوّل مرّة منذ 2011، ما سيجعل منه طرفا سياسيا في الاستحقاق الانتخابي المقبل، لكن لا يُعرف بأيّة صيغة؟ ومع من؟ خاصّة أنّه لا يملك آلة انتخابية مُدرَّبة على هذا النوع من المعارك. وفي كلّ الأحوال لا يمكن تصوُّرُ مشاركة الاتّحاد، كاتّحاد، في حكومة تقودها «النهضة». والسؤال الآخر يخصّ موقع المستقلّين الذين أظهرت نتائج الانتخابات البلدية أنّهم قد يشكّلون قوّة لها حصّة مُعتبرة، حتّى وإن تبيَن أن كثـــيرا منهم متعاقــــدون مع أحزاب. لكن هـــــذا لا ينفي  قدرتهـــم على حجز مكان لهـــم في الخارطة السياسية بعـــد الانتخــــابات.

الخوف من العزوف...

لعلّ أكبر خطر يتهدّد الاستحقاقين الانتخابيين التشريعي والرئاسي هو عزوف الناخبين عن الذهاب إلى مراكز الاقتراع، بعد انجراف مصداقية معظم الأحزاب، وتشكُّل موقف شعبي يائس من جدوى المشاركة. وتعزّز هذا الموقف السلبي بقوّة المناكفات والمعارك الكلامية عبر القنوات التلفزية، لكنّه تغذّى أيضا من انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، التي ما فتئت تترصّد أخطاء الأحزاب، حاكمة ومعارضة على السواء. ويُعتبر المنخرطون في الشبكة العنكبوتية، وبخاصّة المبحرون على مواقع التواصل الاجتماعي، خزانا انتخابيّا مُهمّا يمكن أن تستفيد منه أطراف سياسية، كما يمكن أيضا أن يرتدَّ على طرف أو أطراف أخرى ويساهم في فشلها. وتشير الإحصاءات في هذا الصدد إلى أنّ عدد زوّار مواقع التواصل والمبحرين على الشبكة العنكبوتية تضاعف منذ 2011، إذ زاد من 850 ألفا في تلك السنة إلى 1.7 مليون مُبحر في 2015  ممّا يعني أنّ مواطنا على ستّة يبحث عـــن ضالته في الشبكة، ويستخدمها مصدرا للمعلومة.

إلى جانب دور النشطاء في مواقع التواصل الاجتماعي في استفحال النزوع إلى المقاطعة، فإنّ الأميّة أيضا تلعب دورا في قعود كثير ممّن هم في سنّ الاقتراع عن التصويت، إذ بلغت نسبة الأميّة أكثر من 19 في المئة، وهي تصل في الوسط الريفي إلى 53 في المئة. وبديهي أنّ هذه الكتلة المهمّة تستخدمها بعض الأحزاب لجلب المُقترعين لمرشّحيها، باستثمار المال الفاسد، وهي ظاهرة سُجّلت في الانتخابات الماضية، ولا شيء يدلُّ على أنّها لن تتكرّر، بالرغم من كلّ الاحتياطات، لأنّ المحاسبة القانونية لم تتم.

تداخل مشبوه

يلعب الإعلام دورا حاسما في الإعداد للاستحقاقات الانتخابية، فكثيرا ما يُقال إنّ حريّة الإعلام هي أهمّ مكسب جناه التونسيون من ثورة الحريّة والكرامة، وفعلا تكرّست التعددية الإعلامية بعد بعث 12 قناة تلفزية و35 محطّة إذاعية خاصّة أو مجتمعية، لكنّ الغموض مازال يلفّ مصادر تمويلها، لاسيما أنّ بعض «الانزلاقات» أماطت اللثام عن تداخل مشبوه بين بعض تلك التلفزات والإذاعات من جهة، ولوبيات مالية وسياسيين أثرياء من جهة ثانية. والضالعون في نسجها هم في الغالب «صحفيون» داسوا على أخلاقيات المهنة.

نحن عمليا في ربع الساعة الأخير، الذي يسبقُ انتخابات يُفترض أن تؤسّس لمرحلة جديدة. ولن يتأتّى ذلك إلا متى استفادت الأحزاب من هذه الفسحة للمراجعة والتصحيح، ومن ثمّ بناء قائماتها على معياري الصدق ونظافة اليد. وهذا يعني التخلّص من رموز الانتهازية والفساد في صفوفها، إذ أنّ التونسيين بلغوا درجة من الرشد لا يمكن معها مغالطتهم أو الاستهانة بذكائهم. والثابت أنّهم غير راضين عن بطء وتيرة الإصلاحات وسيختارون على الأرجح من يتوسمون فيهم الإرادة والقدرة على المضيّ إلى الأمام بالإصلاح الذي لم يعُد منه بُدٌ.

رشيد خشانة

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.