محسن بن عيسى: إلى قمّة تونس العربية
من الحقائق الراهنة أنّ الدول العربية أصبحت غرضا لتهافت المطامع الأجنبية وعُرضة لجشع الدول ذات النزعة الاستعمارية التي حكمتها ومازالت تحكمها، وإن اختلفت صورها وتغيّرت أسماؤها. لست متشائما ولا متفائلا ولكني أَحتَكم قدر الإمكان إلى الواقع الذي يشير أنّ المستقبل قد يكون صعبا ما دامت الحالة لا تتغيّر مع تغيّر الزمن ورغبة الشعوب في الرقي نحو الأفضل. لقد بات المواطن العربي يعتقد اعتقادا جازما، أنّه كلّما تأخّرت حركة الإصلاح بهذه المنطقة الحسّاسة، كان الخطر إليها أسرع.
وإذا كانت السياسات العالمية للقوى الكبرى تستثمر في خلافات الدول لدينا، وإذا كان الإرهاب يهدّد الدولة الوطنية، فهل حان الوقت للجلوس على طاولة واحدة حدودها الوطن العربي وقبول التنازلات المتبادلة؟
صورة العالم العربي
لا يجب أن نَنكر وأنّ مصطلح "العالم العربي"، الشائع في الخطاب السياسي لم يعد له أيّ معنى. علينا أن نعترف كذلك وأنّ بعض الأقطار مهدّدة في وجودها كدول بعد أن طغى عليها أمراء الحرب والجواسيس وجنود الغرب. وأنّ استمرار التبعية التي تعيشها الأمة العربية، والتحالف مع العدوّ المتربّص، يعني العودة إلى تقاليد القبائل وصراعات الأعراق، وشرائع الجماعات المتشرذمة، ومعارك الطوائف الدينية، وقوانين المال والثروة التي تسمح للغني بالجور على الفقير في إطار إقطاعيات جديدة.
لاشك أنّ الواقع السياسي يطرح رؤى جديدة حول مستقبل الدولة في المنطقة وبالتالي مستقبل العالم العربي. إنّ الإطاحة منذ 2011 بأنظمة وقيادات، واندلاع حروب أهلية شرسة، وتعرّض بعض الدول لصراع الإخوة وخطر الانقسام والانفصال يجعل الحوار حول القضايا الراهنة أمرا ضروريا ومصيريا.
ولئن تبدو الاستنتاجات قاسية أو صادمة بالنسبة إلى الدول التي عرفت رياح الثورة فإنّ وضع البقية التي تبدو محصّنة نسبيا "بدولة الرفاه الاجتماعي"، لا يبعث على الارتياح، فهناك سيطرة مريبة على منظوماتها الاقتصادية، وانتهاك فاضح لسيادتها وإحياء لخلافات قديمة جديدة بينها.
إنّ ما نراه اليوم من وهن واستهداف للعالم العربي هو نتيجة لتراجع الحس المشترك والالتزام الأخلاقي بخدمة قضايا الأمة والوعي العميق بمفهوم الحداثة وسبل تأصيله في مجتمعاتنا. وليس غريبا أن يفرز هذا الواقع خُطب الإسلام السياسي وأُطروحات انتصار الدّيمقراطية، التي لا تعدو أن تكون "ورقةَ التُّوت" التي تُخفي تطلعات التوسّع لدى الأجوار ومشروع هيمنة القوى العظمى عن طريق "الكرتيلات" و"الشركات متعدّدة الجنسيات" والأيادي الخفية لرجال الأعمال.
لقد توسّع استعمال كلمة "ديمقراطية" حتى تكاد لا تعني شيئا في السياسة، فعندما يكون الجميع ديمقراطيين ..لا أحد في الواقع ديمقراطي. فالديمقراطية ليست نظاما سياسيا بحدّ ذاتها، ولكنها ساحة سلمية للبحث عن نظام سياسي، وهي مجال اختلاف سلمي على كل الأصعدة فكريا وثقافيا واقتصاديا وتربويا وحتى دينيا.
إنّ جوهر التراجع الذي عرفته شعوبنا خلال العقود الماضية، يتمثل في تغييب الخطاب الحداثي لمصلحة الإيديولوجيات القومية والاشتراكية الدولية طورا، ولمصلحة الايدولوجيات الدينية السلفية أو الأصولية طورا آخر. هذا فضلا عن ارتباط مصير الشعوب العربية بنماذج مختلفة من الحكام فمنهم القائد العسكري والشرطي أو القائد القبلي، وبدرجة أقل المستبد والمستنير والوريث صاحب الكياسة، دون التوفّق في بناء أنموذج يطرح رؤية سياسية سليمة عن الدولة الحديثة.
لم يدرك بعدُ الساسة العرب أنّ الدول العربية وفقا للتقسيم الحالي هي أصغر من أن تصبح دولا قوية بقدراتها الذاتية، وأنّ التسابق على التسلح بدعوى بناء القوة العسكرية هو أمر مشروط بضرورة توازنها مع التنمية الاقتصادية والاجتماعية. فتقدّم الأمم يقاس تاريخيا، واليوم، بتقدّم أبنائها، والعامل الحاسم في التقدم هو بناء ما يسمى بـ "الرأس المال البشري"، أي توفير الموارد البشرية، كمّا وكيفا.
وقد لا يكون مبالغة القول إنّ مناظير التحول في المنطقة ليست واعدة فهي رهينة تردّد صانعي السياسة على المستوى الدولي لبناء تحالف إقليمي فعال لدينا، وعجز الأنظمة القائمة عندنا على تشكيل تكتلات خاصة بها. وكيف والحالة هذه، لا تبقى الدول العربية خاضعة ومُطيعة.
لقد استوعبنا الدّرس فالمال هو الذي كبّل "الهلال"، وتحكّم في مراكز صنع القرار. لدينا ما يكفي من الآليات التي لا تعكس متطلبات الشعوب والتغيّر في الحاجات، وبصراحة لا يمكن أن نعترف لها بدور فاعل على هذا المستوى. يكفي أن ننظر إلى ما حولنا ونستذكر بعض الوقائع المادية والأحداث التاريخية لتتبيّن لنا الحقيقة المرّة التي نواجهها في التوظيف الضيق للقضايا، وعدم النضج المؤسّسي لصياغة رؤى سياسية وإستراتيجية واضحة.
أسئلة عديدة ومسارات لازالت ماثلة حول كيفية الخروج بالأمة العربية من نفق التشرذم والتأخّر والتناحر وعدم الاستقرار.
يحقّ لنا أن نذكّر وتونس تحتضن أعمال الدورة الثلاثين لمجلس جامعة الدول العربية في مستوى القمة، أنّ العالم العربي يبقى رغم واقعه الحالي من أكثر المجتمعات الدولية تقاربا بالنظر لروابط اللغة والدّين والإرث التاريخي والثقافي المشترك والحدود المترابطة. وأنّ جامعة الدول العربية تظلّ مُجسّدة للوطن العربي بإيجابياتها وسلبياتها على أمل أن يكون المستقبل كفيلا بتحقيق الإصلاحات المنتظرة داخلها لتصبح قوّة عسكرية وسياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية مؤثرة.
تجربة الاتحاد الأوروبي
يتباهى " الاتحاد الأوروبي" الذي يضمّ 28 دولة بانجازه الكبير، وتشير أديباته إلى أنّه التكتّل الإقليمي الوحيد الذي نجح في التاريخ الحضاري رغم الاختلاف اللغوي والتباين الاقتصادي والتنوع البشري. فالتطور كان ملحوظا وهاما، والحديث عنه يُحيلنا حتما الى إنجازاته من سوق موحّدةـ، وعملة واحدة (الأورو في 19 دولة)، وحدود مفتوحة لحرية التنقل والعمل (في 26 دولة)، وسياسة أوروبية للصيد البحري والزراعة هذا فضلا عن تكريسه لقيم مشتركة تقوم على الكرامة الإنسانية والحرية والديمقراطية والمساواة ودولة القانون وحقوق الانسان.
لقد واجه الاتحاد الأوروبي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية وغياب حلف فرصوفيا تحديات دعم بنائه الداخلي وامتداده الأوروبي حيث عمل على نجاح تجربة الوحدة الألمانية واحتوائها، ووضع التحولات الاقتصادية والسياسية في أوروبا الشرقية ضمن أولوياته، ويعمل أخيرا على بناء هوية أوروبية في مجال الدفاع والسياسة الخارجية. نجح الاتحاد الأوروبي في تحقيق الكثير من أهدافه والتي بمقتضاها تحصّل سنة 2012 على جائزة نوبل للسلام.
لقد نجح الغرب لأنّ ساسته ناقشت بشكل علمي مكامن الخطر المحدقة بحضارتهم الغربية وشعوبهم منذ مقترح رئيس وزراء بريطانيا "هنري كامبل بانرمان" في العقد الأول من القرن العشرين، والذي أصبح يُعرف بتقرير بانرمان.
وانتصر الشعور بالبناء الاقليمي بفضل رجال مثل شومان وأديناور وكاسبيري وسباك، اتفقوا بعد الحرب العالمية الثانية على أن "لن يكون هناك حروبا مستقبلا ولن يكون هناك انعدام أمن في أوروبا". لقد كانت البداية بتوحيد الصناعة الحربية وصناعات الفحم الحجري والفولاذ واختاروا الاقتصاد كمرحلة ثانية ويتواصل عمل هذا الكيان المؤسساتي لتحقيق الأمن لمختلف شعوبه.
لم يكن هذا الإنجاز نتيجة لمسار طبيعي وإنما ثمرة مناقشات وفي بعض الأحيان اختلافات حالت دون التعاون في مجالات معيّنة. ولكن من ميزات البناء الأوروبي التمسك بنهج الاستمرار مع الانفتاح لتجديد الأفكار وتطوير السياسات وتحديث الأجندات الاصلاحية.
من المتفق عليه أنّ الاتحاد الأوروبي هو النموذج الأكثر نجاحا في حالات التكتل التي عرفها عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. ولا شك أنّ لهذه التجربة دوافع ساهمت في تطورها ونجاحها لعلّ أبرزها القناعة بأهمّية الدمج بين المصالح القطرية والمصالح الجماعية المشتركة.
آمل أن لا يكون زمن العمل على وحدة المصير ووحدة المصالح قد انتهى لدينا، وأنّ هناك فرص جديدة لكي تنهض أُمّتنا العربية!
محسن بن عيسى
عقيد متقاعد من سلك الحرس الوطني
- اكتب تعليق
- تعليق