خديجة معلَّى: الفكر التقدمي، طوق النجاة
كثيرا ما يُساء فهم معنى عبارة "الفكر التقدمي" أو"الخط التقدمي" ويتم ربطه آليا بالمفهوم الشائع "للتوجه اليساري". في حين أنّ "التقدمية" هي مفهوم فَرَضَهُ التطور الاجتماعي والاقتصادي بداية من منتصف القرن العشرين وما شهده من تبدلات وتعقيدات تقتضي إيجاد الحلول لها في إبَّانها. ولعلَّ إيغال الرأس مالية العالمية في استنباط أساليب وآلياتٍ، أكثر إغراء ظاهريا واستغلالا واقعيا للهيمنة، ليس فقط على الفئات المحرومة والضعيفة، بل وعلى شعوبٍ بأكملها في مختلف أرجاء المعمورة، قد كان العاملَ الدافع لمراجعة أسس وسياسات أنظمة الحكم القديمة والقائمة حاليا والبحث عن بدائل تُحقق المطامح الشعبية في العدالة والتنمية الشاملة والكرامة والحرية.
لذا كان لزاما على القوى اليسارية الملتصقة بالجماهير الشعبية الواسعة والمعبرة عن تطلعاتها، أن تبتكر الأساليب والآليات الفعالة لمواجهة هذا المدِّ الرأسمالي المتوحش من ناحية، ولتهيئة الظروف الملائمة لإقامة منظومات حكم يكون لأوسع الشرائح الإجتماعية الدور الأساسي في إنجاحها.غير انّ تحقيق هذا المشروع وإنجاز مهام من هذا القبيل يستدعيان عدم التقيد بما أعتبر طويلا قواعد وقوانين لا يجب المساس بها في ظل النهج الماركسي للممارسة السياسة، أوالمفهوم اليساري الكلاسيكي لها عموما.
ومن هنا أصبح لهذا الاجتهاد المستمر في تفكيك وإعادة بناء إطار جديد للعمل السياسي التواق لتحقيق الحرية والكرامة المهدورتين للشعوب والعدالة الإجتماعية لكل فئاتها، عنوانٌ أو بوصلةٌ ثابته. إنّه مفهوم التقدمية للعمل السياسي الذي انبلج صُبحُهُ في العقود الأخيرة، وقد تطور في السنوات القليلة الماضية ليكتسب صبغة جديدة في نفس النهج التقدمي، ألا وهي الديمقراطية التشاركية التي تطرح على نفسها إعادة النظر في أسس بناء الأنظمة الديمقراطية ليس فقط في البلدان الفقيرة، بل وفي كل بلدان العالم، خاصة وقد تأكد أن رأس المال العالمي قد طوَّع الديمقراطية لخدمة أغراضه بسطوة ماله. وهكذا لم يعد كافيا الإقتصارعلى مفهوم الدولة المدنية فقط، للتدليل على ديمقراطية وحداثة النظام في أي مكان، بل أصبح الأمر يستدعي إضافة عبارة "المواطنية" لتكون في النهاية "دولةً مدنيةً مواطنية"، أي لضمان مشاركة المواطنين والمواطنات في اختيار وفي مراقبة وفي محاسبة حكامهم ومسؤوليهم بآلياتٍ غير تلك القائمة والمستخدَمة في الأنظمة الديمقراطية الشائعة حاليا والتي بان فشلها سواء بحكم التقادم وعدم القدرة على الاستجابة لاحتياجات الشرائح الواسعة من المجتمع. أو بسبب هيمنة لوبيات الفساد وأباطرة المال المتوحشين عليها.
إن تكريس مواطَنَة بناتِ شعبنا وأبنائه على أرض الواقع لن يكون إلاّ بالدفاع عن حقهن وحقهم في افتكاك زمام إدارة الشأن العام، وبالتالي شؤون الدولة، بأيديهم بعد أن فشلت الأحزاب، حاكمةً كانت أو معارضة، في أداء الدور الموكول لكل منها، سواء بخيانة مؤتمن، هو الشعب، بالنسبة إلى أحزاب منظومات الحكم المتعاقبة طيلة السنوات الثمانية الماضية، أو بعدم الكفاءة وبالتخاذل بالنسبة إلى غالب أحزاب المعارضة.
لقد ظلت عبارات "مواطِن" و"مواطِنة" و"مواطَنة" خاليةً من مفهومها الحقيقي المتمثل في ممارسة الحق في الاختيار بحرية ومسؤولية، وفي الرقابة اللصيقة والدقيقة وفي المحاسبة المباشرة والآنية لكل السلطات. وهو ما يتطلب استحداث آليات فعالة تُمكّن المواطنات والمواطنين، الصاعدين من المجتمع المدني، من تحمّل المسؤولية السياسية لتصحيح المسار وإنقاذ البلد من الغرق المحتوم إذا تواصل التدمير المُمنهج الحالي لكيان دولة الإستقلال، والسعي الظاهر والخفي، لتركيز نمط مجتمعي يُكرّس الاستعباد والدكترة، ويحارب حرية الفكر، وينشر نظام "الرعية" القائم على السمع والطاعة.
فلا خيار للدفاع عن مواطَنَتِنا، جميعاً، نساءًا ورجالا، وعن نمط المجتمع الحر الحداثي الذي نؤمن به ضمن دولة مدنية عَلمانية، إلا بالتقدم لتحمل مسؤوليتنا التاريخية، الآن وليس غداَ، بالتسجيل الكثيف في السجل الانتخابي، وبالانخراط الجماعي في المبادرات المُواطَنِية المستقلة بالفعل، وبالإقبال على صناديق الإقتراع ساعة الحسم، لإنقاذ الوطن وتحريره من مختطفيه!
ولعلّ في نجاح مبادراتٍ من هذا القبيل وأحزاب وطنية في عدد من بلدان العالم الغربي، مثل إسبانيا وغيرها، قطعت مع الأساليب والخيارات الكلاسيكية العقيمة للأحزاب التي كانت كبيرة وتقزّمت، أو قزّمت نفسها، لأكبر حافز على المُضي في افتكاك حقنا كمواطنين في تنقية النظام الديمقراطي من التشوّه والمسخ اللذين طبعوه بهما، وفي ترسيخ مواطَنتِنا الفعلية الحقة لإنقاذ بلدنا من الإنهيارالوشيك!
ولولا الانفتاح الذهني الذي هو السمة الرئيسية في الفكر التقدمي، لما أمكن الوصول الى هذا الخيار بهدف السعي إلى تحقيق تلك الغايات النبيلة!
إن أردنا حقيقةً لبلدنا أن ينجو من المؤامرات التي تكاتفت، وما زالت، أطماع مختلف مكونات منظومة الحكم القائمة والرجعية بكل تلوناتها، على حبكها بمكر وعنجهية، من أجل مزيد تفقير كل الفئات الاجتماعية، ورهن سيادة الدولة، فلن يكون لنا خيار سوى المراهنة على الخيار المُواطَني الذي يكون للمواطنين والمواطنات فيه الدورُ الأولُ والأخير، لأنهم، هم وهنَّ، الحِصن المنيع لسيادة الوطن ولاستبسالهم في الدفاع عن حقوق شعبنا وحريته.
خديجة معلَّى
- اكتب تعليق
- تعليق