مـــحــاكمـات الفـــكـر والإبــداع للمنّوبـــي زيّــــود
من آخر الكتب التي تثير اهتمام القارئ وفضوله كتاب صادر عن «دار الجنوب» من تأليف الروائي والمحامي لدى محكمة التعقيب المنّوبـــي زيّــــود بعنوان «محاكمات الفكر والإبداع». وهو عمل يشدّ الانتباه بمضمونه الطريف الذي يمتزج فيه القانوني والفكري والأدبي وقد صيغ بأسلوب راق أنيق في الكتابة من سماتها جزالة اللفظ ودقّة التعبير وصرامة طريقة البحث والتناول. ويوضّح المنّوبي زيّود في المقدمة أنّ فكرة تأليف الكتاب انطلقت من محاكمات شهيرة كان آخرها محاكمة الممثّل المصري عادل أمام محكمة العجوزة في 26 أفريل 2012 والتي جذبته مستندات الحكم الصادر فيه وصدمه «مستوى الثقافة العالية التي تسلّح بها القاضي المصري المستنير أحمد سميح الريحاني وصاغ على أساسه حكمه الشهير». كما يبيّن أنّ منطلق الكتابة كان أيضا الرجوع إلى التاريخ الذي وجده «حافلا بمحاكمات جائرة للفكر والإبداع انتهى بعضها بإدانة صريحة للتعبير على غرار محاكمة سقراط ومحاكمة الحلّاج ونصر حامد أبو زيد وغيرهم وانتصر الإبداع في بعضها الآخر تأسيسا على استنارة بعض القضاة ممّن حملوا هموما فكريَّة وانتصروا لروح التجديد في جدلية الصراع الدائم بين القديم والحديث وبين العلم والجهل ومن بينهم من حكموا في قضية غوستاف فلوبير وقضية طه حسين وقضية عادل إمام وقبله صادق جلال العظم».
ويشير الكاتب إلى أنّه اختار من بين المحاكمات الشهيرة المتعلّقة بالرأي والتعبير تلك التي لها علاقة بالفكر والإبداع لا بالسياسة والصراعات السياسية المباشرة والتي يشتمّ من ثناياها رائحة تدخّل السلطة. وقد نزّل المنًوبي زيّود هذه المحاكمات في سياق «الصراع بين المبدع وسلطة السائد» الذي «يحتدّ أحيانا ويخفّ أحيانا وفق المناخ السائد وحسب طبيعة الأنظمة والأنساق الاجتماعية» باعتباره « التعبير الأمثل عن الصراع بين القديم والحديث وبين الأصالة والحداثة». ويعتبر العميد ووزير العدل الأسبق الأستاذ محمّد الصالح بن عيسى هذا الكتاب مساهمة قيّمة للمنّوبي زيّود في التذكير بالجدل القديم الجديد الذي امتدّ على مرّ العصور والقائم «حول العلاقة بين المثَقّف والسلطة عموما، وما ينطوي عليه من صراع بين حريّة الفكر والإبداع من جهة، ومن التصوّرات المتكلّسة والمتحجّرة للموروث الديني والروحي والحضاري من جهة أخرى». ومن أهمّ تجلّيات هذا الجدل «المحاكمات الشهيرة لفلاسفة ومفكّرين تركوا بصمات لا تمّحي في تاريخ الإنسانية عموما والفكر البشري على وجه الخصوص». ولا يملك القارئ بعد الانتهاء من قراءة الكتاب إلّا أن يشاطر رأي الأستاذ محمّد الصالح بن عيسى الذي وضع نفسه موضع الناقد الموضوعي المتبصّر لهذا العمل الذي من مزاياه أنّه يوفّر للقارئ المعطيات المتعلّقة بالمحاكمات «بطريقة ميسّرة وهو ما يعكس، لا فقط التكوين القانوني المتين للمؤلف بحكم تخصّصه، ولكن أيضا ملكته وقدرته على التبليغ المستساغ والشرح المستفيض مع المزاوجة الناجحة بين الجمالية الأدبية والصرامة القانونية في أسلوب التحرير بما يخوِّل للقارئين استيعاب المسائل القانونية الدقيقة، دون عناء».
وكما يشير الأستاذ محمّد الصالح بن عيسى فإنّ القارئ يلمس في نهاية المطاف أنّ الكتاب لا يقف به عند حدود المحاكمات المدروسة وملابساتها بل تعود به «في النهاية إلى إشكالية الصراع بين السلطة والحريّة بصفة عامّة والتي تظلّ مطروحة في جلّ المجتمعات وخاصّة التي لا تزال تتلمّس طريقها نحو الديمقراطية وسبل ترسيخها في الوعي الجمعي وفِي الممارسات السياسية».
وبعد التذكير بالأحكام الصادرة في مصر في السنــوات الأخيرة في قضــايا ما سمّي بـ «ازدراء الأديان» يخلص إلى التأكيد أنّ «تونس ليست في مأمن من هذه الانزلاقات الخطيرة وحتّى بعد ثورة 14 جانفي 2011 لا تزال العلاقة بين حرية الفكر والإبداع من جهة والقرارات المتحجّرة للموروث الديني والروحي من جهة أخرى علاقة متأزّمة يحكمها الغموض والخوف والتوجُّس». وبوصفه الخبير في القانون الدستوري يعتبر أنّه «خلافا للاعتقاد السائد، فإنّ الدستور الحالي لم يوضّح بصفة قاطعة طبيعة هذه العلاقة وما يترتّب عنها على مستوى العلاقة بين الدين والدولة وما توصيف الدستور التوافقي من قبل محرّريه إلا وسيلة للتغطية عن التناقضات التي تنخر كيانه وتفتح باب التأويل على مصراعيه أمام القراءات المتضاربة التي قد تشتعل في أيّ وقت فتيل التناحر والصراعات». وقد حرص المنّوبي زيّود على إدراج سيرة ذاتية لكلّ من حوكم في قضايا رأي قبل تحليل ملابسات المحاكمة وأطوارها والتعليق على الأحكام الصادرة بمنهج بيداغوجي سلس. الكتاب مصدر متعة وإفادة يجعل القارئ مشدودا إليه إلى النهاية وهو عمل حقيق بأن يعدّ من أفضل الأعمال الفكرية التي جاءت لتثري رصيد المكتبة التونسية والعربيّة.
عبد الحفيظ الهرڤام
- اكتب تعليق
- تعليق