المــاركسيّة والدّيـن في السّياقات الاسـلاميّة محاولة نقد معرفيّة وأنسنيّة
حين فتّشت في محرّكات البحث على «الانترنت» عن أصداء ظهور هذا الكتاب الذي صدر خلال شهر أكتوبر 2018 عن مؤسسة بو جميل للطباعة والنشر «نيرفانا»، لم أعثر على شيء يذكر، وقد استغربت ذلك لأنّ الكتاب صدر في وقت تشهد فيه العلاقة بين التيارين اليساري والإسلامي توتّرا متصاعدا، أوّلا بسبب تطورات قضيّة اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي اللذين كانا على رأس من أهداهما المؤلّف كتابه، وثانيا بسبب الجدل المحتدم حول تقرير لجنة الحريّات الفردية والمساواة، فقد كان من المُفترض أن يدفع ذلك إلى مناقشة الفكرة المحورية التي يقوم عليها بل أن يثير سجالا واسعا حولها، وهي ما سمّاه الكاتب «تنظيم الصراع بينهما». فلقد انطلق الكاتب في هذا التأليف من قناعة مفادها أنّه «لا بدّ من نقد الإسلام والإسلاميين لإنقاذ المسلمين، ولا بدّ من نقد الماركسية والماركسيين لإنقاذ اليساريين» حيث أنّه يعتقد «أنّه لا مسـتقبل لمسـلمين في وطـن مثـل تونـس (والوطـن العربـي عمومـا) يعـادون فيـه اليســار كمــا يفعــل فيـه الإســلاميون عندنـا. كما أّنّـه لا مســتقبل ليســاريين في وطــن مثـل تونـس (والوطـن العربـي عمومـا) يعـادون فيـه الإسلام كمـا يفعـل فيـه الماركسيون عندنـا»... (انظر ص 7).
ويَفْتَرِضُ الكاتب أنّ «تونس باسلاميّيها ويساريّيها لها خصوصية ما إيجابية، في نظره، بدليل تجنّبها إلى حدّ الآن الوقوع في الحرب الأهلية مقارنة بمثيلاتها من دول ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي وهي التي لا تزال عندها فرصة حقيقية للانخراط في مسار تاريخي جديد فعليا إذا استطاعت تجنّب الانتكاسة في الداخل، وأمنت شرور تدخّل القوى الإقليمية والدولية من بوّابة التفليس الاقتصادي و/ أو من بوّابة الإرهاب» (انظر ص 7).
وبناء على ذلك، وبعد أن يعدّد الخصوصيات التي تجعل اليساريين والإسلاميين التونسيين من أقوى وأفضل اليساريين والإسلاميين في الوطن العربي، يؤكّد الكاتب أن يساريّي تونس وإسلاميّيها مرشّحون أكثر من غيرهم من الإسلاميين واليساريين العرب «للارتقاء بمستوى الصراع الفكري والسياسي بين التيارين الكبيرين بما يمكّن من خوض تجربة خاصّة في الحياة الفكرية والسياسية العربية ستكون أكثر فائدة لو ساهمت القوى الوسطية الديمقراطية الاجتماعية التونسية في ذلك بالانخراط الفعلي في نقد التيّارين معا تونسيا، وسيكون ذلك أكثر فائدة لو رفدتها تجربة مماثلة داخل صفوف الحركتين الوطنيتين الفلسطينية واللبنانية تحديدا بسبب ما يمثّلانه من رمزية فكرية وسياسية نظرا لدورهما في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي ومخاطره هناك وعلى الوطن العربي عموما» (انظر ص 8). وينبّه الكاتب إلى أنّ الغاية من الارتقاء بالصراع بين التيارين اليساري والإسلامي ليست تنظيم التحالف بينهما وإنّما تنظيم صراعهما والارتقاء به في كلّ أبعاده، وذلك من خلال قيام كلّ منهما بما يتعيّن من مراجعات في الخطاب وفي الممارسة...
أمّا عن كيفية تنظيم الصراع والارتقاء به فهو ما يحاول أن يبيّنه في ثنايا الكتاب. ولعلّه من المفيد قبل التطرّق إلى تفاصيل هذه المحاولة، أن نستعرض أهمّ الدوافع التي جعلت الكاتب يخوضها، وهي، كما وردت في التقديم العام، التالية:
1 - ملاحظته «أنّ اليسار التونسي، رغم انفتاح طاقات كبيرة منه (بقيت فردية مع الأسف) على الفلسفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة في مجالات بحث وسلوك أخرى عديدة، يعود القهقرى متى تعلّق الأمر بالنظر إلى الدين وإلى الحركات الإسلامية فلا يستفيد من قراءاته المتنوّعة» (انظر ص 10) للائحة طويلة من الفلاسفة الذين يعدّدهم الكاتب في عدّة فقرات موالية مع ذكر أهم إضافاتهم من حيث الأفكار والمناهج.
2 - أنّ الوعي بدور «البنى الفوقية» على طريقة غرامشي تؤدّي إلى مفارقة تدفع بالبعض إلى «يسار ثقافي» همّه الأساسي النضال ضدّ الظلامية، وليس ضدّ التبعية وضدّ البورجوازية التي قد تكون تنويرية أو ظلامية، فيسند شقّها الحداثي دائما إن كان في المعارضة، أو بمنطق «مؤسساتي» في الحكم، ويا للمفارقة حتى لو كان الشقّان متحالفين في الحكم فيشتغل بذلك مناولا عند قسمها «الحمائمي» المستنير ضدّ قسمها «الصقوري» الظلامي (انظر ص 12).
3 - أنّه وصل إلى قناعة مفادها أنّه من الضروري التجاوز الإيجابي للماركسية كنسق تفكير مع الاستفادة النقدية منها جزئيا في كلّ فكرة وكلّ خطوة بسبب ثرائها الاستثنائي في الفكر الحديث المعاصر.
4 - انطلاقا من أنّ الوعي الديني الإسلامي، كما يرى، ما يزال يحتلّ مكانة كبيرة في الوعي الاجتماعي العام في تونس والوطن العربي، وأنّ الحركات الإسلامية تحتلّ مكانة كبيرة في الحياة السياسية العامة في تونس والوطن العربي، وبناء على أنّ مقولة «نقد الدين هو أساس كلّ نقد» تبقى، في نظره، صالحة بمعنى جزئي ما، ولكن ليس كما فهم وفعل ماركس والماركسيون... فإنّه، كشخص يعتبر نفسه يساريا دائما، قرّر القيام بمحاولة نقد وتجاوز التصور الماركسي للدين والحركات السياسية الدينية للمساهمة في تطوير اليسار عبر مساءلة «علبته السوداء» الفلسفية – المادية الإلحادية تحديدا، من منطلق يساري أنسني طبيعي تاريخي وليس ماديا جدليا ، واجتماعيا تاريخيا من ناحية أولى وليس ماديا تاريخيا من ناحية ثانية. وأمّا عن الهدف من هذه المحاولة فإنّه كما يؤكّد «ليس الدفاع عن التديّن الإسلامي ضدّ الإلحاد ولا الدفاع عن الحركة الإسلامية ضدّ اليسار كما قد يسارع البعض في الاستنتاج، ولا هو مجرّد القيام بالعكس بالضبط أيضا» وإنّما هو سيحاول «اتباع علمانية منهجية في الطرح تكاد تكون إجرائيا «إلحادية منهجية» عند التعامل مع الدين و»إيمانية منهجية» عند التعامل مع الماركسية عساه يأخذ مسافة كافية منهما ويصل إلى تفهّمهما وتفسيرهما معا بقطع النظر عن موقفه العقائدي الشخصي الذي لا يهم القارئ في شيء» (انظر ص 13). ويستخلص الكاتب قائلا: «إنّ محور هذا العمل الأساسي ليس سياسيا مباشرا أصلا، بل هو محاولة معرفية تهدف إلى تجديد رؤية اليسار لنفسه ورؤيته للدين الإسلامي وللحركة الإسلامية في نفس الوقت، وهو بذلك موضوعيا وذاتيا دفاع عن الإنسان والمعرفة والسياسة ولكن من منطلق أنسني يساري أزعم أنه جديد نسبيا في تونس على الأقل» (انظر ص 13)، كما يشير إلى أنه سيكمل هذا العمل «بإصدار عمل ثان يكون موجّها إلى الإسلاميين تحديدا» يرجو أن ينهيه سنة 2019 عسى أن يساهم في تحريك الجهة الأخرى المقابلة أيضا. والكتاب يضمّ قسمين أساسيين وملحقين، وقد جاء القسم الأوّل تحت عنوان «الماركسية والدين: مقاربة نقدية أنسنية طبيعية تاريخية واجتماعية تاريخية»، وجاء القسم الثاني تحت عنوان «موضوعات منهجية حول الإسلام وحول الحركات الإسلامية الحديثة».
أمّا الملحقان فإنّ أوّلهما يحمل عنوان: «نداء فكري سياسي أنسني إلى المناضلين والمثقّفين في تونس والوطن العربي: مسوّدة برقية لتجاوز «السبع العجاف» المتشابهة في تفكيرنا السياسي المشترك»، كان الكاتب نشره في 03/07/2016 في مجلة «الآداب» الالكترونية التي تصدر ببيروت، أمّا ثانيهما فهو عبارة عن مقال يحمل عنوان «نحو يسار أنسني اشتراكي ديمقراطي جديد في تونس والوطن العربي: عشرون مسوّدة أطروحة مختصرة للنقاش»، وقد نشره في مجلة «الفكرية» الورقية التي تصدر بتونس في عددها المؤرخ بشهري سبتمبر/ أكتوبر 2016. ودون الإطناب في استعراض محتوى القسم الأوّل الذي يستغرق ثلثي الكتاب تقريبا، فإنّنا نلاحظ أن الكاتب توجّه فيه بالنقد إلى الماركسيين من اليساريين تحديدا، من وجهة نظر يسارية خاصة، فقام بنقد التصوّر الماركسي للدين عموما وللإسلام والحركات الإسلامية القديمة والحديثة خصوصا. وقد شبّه الكاتب الماركسية في هذا القسم بما سمّاه «مضادّ فيروسات ودليل صيانة قديم وغير مُحَيَّن مع الأسف. إنها مضادّ/ دليل يعود إلى مرحلة الرأسمالية الصناعية الأولى والمحرّك البخاري، ولم يعد يصلح كنسق في عصر العولمة والإعلامية» (انظر ص 48)، واستخلص في خاتمته التي اختار لها عنوان «رسول البروليتاريا» «أنّ الفلسفة والعلوم الطبيعية والاجتماعية الحديثة تقدّمت كثيرا بعد ماركس، كما أنّ الواقع التاريخي تغيّر كثيرا بما في ذلك نتيجة فشل التجارب الشيوعية الكبرى وكلاهما يعطيان اليوم لوحة لم تكن لتخطر على بال ماركس وأنجلس على الإطلاق. لقد مات ماركس رسول البروليتاريا فكريا الآن بالمعنى النسقي رغم أنّ سماد أفكاره سيبقى لقرون أخرى ربّما يغذّي الحركات الفكرية والسياسية اليسارية قبل أن تصل الإنسانية إلى التعامل معه كما تتعامل اليوم مع افلاطون وأرسطو وحتّى هيغل: كجزء من التاريخ الفكري والعلمي للإنسانية، ولن يكون هنالك من أمل في تجديد اليسار إلا بتجاوز الماركسية بوصفها نسقا ومواصلة الاستفادة النقدية منها متى كان ذلك صالحا» (انظر ص 199/200).
أمّا في القسم الثاني من الكتاب فقد قدّم موضوعات منهجية في كيفية التعامل مع الإسلام والحركات الإسلامية الحديثة، بالانطلاق من نقد ما يسميه «الثنائيات القاتلة في نظرتنا الى الإسلام وعلاقته بالحركة الإسلامية». وهو يرجع هذه الثنائيات إلى «الاستشراق السلبي المعادي للإسلام والمسلمين والنظريات المعادية راديكاليا للدين بصورة عامة، من ناحية أولى، والاستشراق المقلوب في الفكر التبجيلي الإيماني العربي الإسلامي عموما والإيماني السياسي الإسلاموي خصوصا من ناحية ثانية». ويرى الكاتب أنّ هذه الثنائيات تؤدي الى عشرة مواقف كبرى هي ليست حصرية لكنّه يعتقد أنّها الأهمّ، وهذه المواقف التي يعمل على تفنيدها هي التالية:
1 - اعتبار الإسلام وبشكل إطلاقي دينا له خصوصية تجعله بطبيعته على عكس الأديان الأخرى معاديا للتقدم أو اعتباره دينا له خصوصية تجعله بطبيعته دونا عنها معادلا مثاليا للتقدم بقطع النظر عن ظروف البشر والمكان والزمان (انظر ص 204)، وهو يرى في الردّ على ذلك «أن الإسلام إسلامات: الإسلام واحد ومتعدّد فهو إضافة إلى كونه إسلاما سنيا أو شيعيا أو خارجيا أو صوفيا... وإسلاما معتزليا أو أشعريا أو ظاهريا وإسلاما سعوديا أو ماليزيا أو فرنسيا وإسلاما إسلامويا أو ليبراليا أو رسميا أو شعبيا... فهو إسلام عادل وتقدّمي أو إسلام ظالم ورجعي»... (انظر ص 207).
2 - الاعتقاد أنّه لا فرق بين المسلمين والإسلاميين أو أن بينهم سورا صينيا بهدف مدح هؤلاء (نقاد الإسلاميين) او أولئك (الإسلاميون)، وهو هنا يرى أنه «ليس كل مسلم إسلاميا ولكن كل إسلامي هو مسلم على طريقته الخاصة» (انظر ص 209)، كما يرى «أن من أهمّ ما يجب القيام به هنا هو تفكيك الصورة النمطية عن المسلمين والإسلاميين على حد السواء» مع الملاحظة أنّ «تنميط المسلمين في شكل واحد شديد العمومية هو صنيع الآخر الذي يجهل الإسلام أو يعاديه ويمارس ضده الاسلاموفوبيا. ولكنّه صنيع الإسلاميين أيضا الذين يريدون إعطاء صورة واحدة عن الإسلام» (انظر ص 210 / 211).
3 - اعتبار الحركة الإسلامية وبصورة إطلاقيه نتاجا جوهريا إيجابيا (الإسلاميون) أو سلبيا (خصومهم) للإسلام بوصفه دينا خالصا، وهي، في نظره، ليست هذا ولا ذلك، لأنّها أوّلا «ليست نتيجة للإسلام بوصفه دينا خالصا لأنّها نتاج تضافر تفاعل قسم من المسلمين مع الدين الإسلامي في ظروف مكانية وزمانية معينة ووفق مقتضيات فكرية وسياسية واجتماعية واقتصادية ودولية معينة… وهي ثانيا قد تلعب أدوارا إيجابية لحظة، وسلبية لحظة أخرى، حسب المواقف التي تتّخذها من كبرى المسائل التي تهمّ المجتمعات التي يعتملها الدين الإسلامي» (انظر ص 212).
4 - اعتبار الحركة الإسلامية تعبيرا اقتصاديا أساسيا عن الإقطاع (أو غيره مما هو ما قبل رأسمالي) أو عن الرأسمالية او تعبيرا عن اقتصاد إسلامي خاصّ لا يندرج ضمن أية تصنيفية اقتصادية لا رأسمالية ولا اشتراكية. وهو يرى في هذا الصدد «أنّ الحركة الإسلامية، اقتصاديا، ليست حركة ما قبل رأسمالية: إقطاعية أو شبه إقطاعية أو إقطاعية شرقية أو مدافعة عن نمط إنتاج آسيوي إسلامي بالمطلق، ولا هي بورجوازية تابعة أو وطنية بالمطلق، ولكنّ الاقتصاد الإسلامي ليس اقتصادا من نوع خاصّ لا شرقيّ ولا غربيّ، لا رأسمالي ولا شيوعيّ كما يقول عنه الإسلاميون وإن اتّخذ إشكالا خاصّة» (انظر ص 216).
5 - على الصعيد الاجتماعي، يرى أنّ الحركة الإسلامية «ليست تعبيرا عن طبقات وشرائح اجتماعية ما قبل رأسمالية بالمطلق، أو رأسمالية بالمطلق، ولا هي تعبير عن هرمية طبقية مثلى إلهية أو نسيج اجتماعي إلهي ومثالي التقدير كما قد يقول الإسلاميون. (انظر ص 218).
6 - على الصعيد السياسي وردّا على من يعتبر الحركة الإسلامية تعبيرا سياسيا جوهريا أساسيا عن الاستبداد الشرقي المقابل للديمقراطية الغربية، أو عن نظام العدل الإسلامي المخالف لكل النظم السياسية والمتفوّق عليها جميعا لكونه عدلا إلهيا، يؤكّد أنّ هذه الحركة «ليست لا فاشية ولا تيوقراطية ولا استبدادية شرقية بصفة إطلاقيه كما يقول بعض نقادّ الإسلام السياسي من ناحية، وليست مثالا نموذجيا مطلقا عن الحكم السياسي العادل ذي المرجعية الإلهية الرسولية العادلة بالمطلق كما يزعم الإسلاميون» (انظر ص 224).
7 - اعتبار الحركة الإسلامية نتاجا نفسيا لأمراض نفسية فردية اجتماعية سببها الإسلام مقابل السعادة الغربية... أو تعبيرا عن النفس القرآنية النبوية المثالية والسوية.
وهو ينفي أن تكون الحركة ذلك النتاج أو ذلك التعبير (انظر ص 229).
8 - من الناحية الفكرية، ينفي أن تكون الحركة الإسلامية «نتاجا مطلقا للجهل أو انعدام العقلانية ولتعطل العقل بسبب الإسلام مقابل عقلانية لا إسلامية ولكن دينية (مسيحية أو غيرها) و/ أو لا دينية (عقلانية وضعية أو مادية او تحليلية نفسية) وليست كذلك تحقيقا للعلم الإلهي ووريثا للوحي ولسنة وعلم النبي - الأنبياء» (انظر ص 233).
9 - على الصعيد الجغرا- سياسي، يؤكّد أنّ الحركة الإسلامية ليست «دائما نتيجة لمؤامرة داخلية و/ أو خارجية كما يقول نقادها، ولاهي ضحيّة تلك المؤامرة كما يقول الإسلاميون عن أنفسهم» وهو يعتبر «أنّ الحركة الإسلامية ظاهرة اجتماعية سياسية، وهي لذلك ليست لا مجرّد نتاج مؤامرة داخلية أو خارجية ولا مجرّد ضحيّة لها» (انظر ص 241).
10 - ردّا على بعض نقّاد الحركة الإسلامية الذين يرون أنّه لا فرق بين مكوّناتها كلّها فهي جميعا سلبية ورجعية، وعلى بعض الإسلاميين الذين يرون، في المقابل، أنّ كل فصائلها إيجابية وثورية إسلامية، يقول «إن هؤلاء وأولئك يشدّدون التعميم السلبي أو الإيجابي كما لو أنّهم يتّفقون على أنّ الحركة متجانسة وثابتة الخصائص تقريبا ولكن لا هؤلاء ولا أولئك على صواب حسب ما اعتقد» ذلك «أنّ الحركة الإسلامية مثل الإسلام واحدة ومتعدّدة ومتحوّلة. إنّه بالإمكان محاولة تقديم تعريف عامّ لها ولكن لا بدّ من تصنيفية دقيقة نسبية لمكوّناتها يمكن أن تنطلق من نماذج مثالية تحليلية مجرّدة لتعود إلى النماذج الواقعية المحسوسة ثم العكس وهكذا دواليك»... (انظر ص 246).
واستنادا إلى كلّ ما تقدّم، فإنّ الكاتب يخلص إلى فكرة محورية، لعلّها هي الدافع الخفي الذي جعلته يؤلف هذا الكتاب، وهي أنّه يدعو إلى أهمية «الوعي بإمكان وجود حركة إسلامية تقدمية انطلاقا من قراءات معاصرة للإسلام تقبل الحداثات والديمقراطيات السياسية والاجتماعية المعاصرة إلى درجة الاقتراب من الليبرالية الإسلامية والاشتراكية الإسلامية أحيانا» (انظر ص 248).
وفي هذا السياق يذكّر الكاتب بما يعتبره فكرة وسطى هي الفكرة التي عبّر عنها اوليفييه روا في كتابه «فشل الإسلام السياسي» ثمّ أكملها في كتابه «الإسلام المعولم»، والتي ترى إمكانية تحوّل الإسلام السياسي إلى «قوّة وطنية بمعنى غير إسلامية عبر تفاعله مع السياسة في بلاده وليبرالية اقتصاديا واشتراكية ديمقراطية من حيث الميل إلى النزعة البرلمانية في التغيير» (انظر ص 248)، ثمّ يؤكّد أنّ هنالك مجالا «للمراهنة مبدئيا على أن تحوّل الإسلاميين إلى الديمقراطية ممكن مبدئيا، فلا استثناء هنا رغم الخصوصية إلاّ لمن عنده تصوّر ماهوي جامد عن الإسلام والمسلمين والإسلاميين» (انظر ص 254)...
ومع أنّه يحذّر من فخّ القياس والعقل القياسي، فإنّه يدعو في هذا السياق إلى القياس على ما حدث من تحوّلات للفاشيين في ألمانيا وإيطاليا وللعسكر في البرتغال، وللعنصريين في جنوب إفريقيا، وللشيوعيين في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية، وللإسلاميين في تركيا، ثمّ يتساءل قائلا: «فلم لا يفعلها الإسلاميون التونسيون والعرب أو بعضهم تحديدا؟» (انظر ص 254 ).
وعلى كلّ، وفي الانتظار، فإنّ الكاتب يرى «أنّه لابدّ لنا أوّلا من تأسيس حقيقي لعلم هو علم الإسلام كمبحث في علوم الأديان الخاصّ بالإسلام يستفيد من كلّ العلوم الإنسانية والاجتماعية ومناهجها التفسيرية والتفهّمية في نفس الوقت في تناول الظاهرة الدينية الإسلامية انطلاقا من الفلسفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية ومنظوراتها واختصاصاتها ومناهجها وتقنياتها البحثية ولكن في إطار تركيبة قائمة الذات هي الإسلامولوجيا» (انظر ص 256) وذلك حتّى «لا تبقى دراسة الإسلام والإسلام السياسي رهينة المراجع النظرية بل تتنّزل في الحياة وتبتعد عن كونها دراسة ثقافية أو كلامية لتصبح دراسة لما يسميه مارسيل موس الإنسان الكلّي والظاهرة الاجتماعية الكلية» (انظر ص 261).
وخلاصة القول كما يؤكد الكاتب، في نهاية المطاف، إنه على من ينظر إلى الإسلام هذه النظرة «عليه أن يعيد تقييمه لمكانة (الاستشراق) و(الاستشراق المعكوس) في تفكيره حول الإسلام والحركة الإسلامية وعليه أن يتجاوز الثنائيات التبجيلية أو الانتقادية السلبية العامة ويفكر بطريقة جديدة لتقديم القراءة المخصوصة للواقع المخصوص بعيدا عن كلّ تعميم هو بالضرورة منقوص... إذا كان يروم البحث عن كلّ من الحقيقة والحقّ معا» (انظر ص 206).
وعودا على بدء، لنشير مجدّدا إلى ما قاله الكاتب في التقديم العامّ من أنّ محور عمله الأساسي «ليس سياسيا مباشرا أصلا»...، وذلك لكي نلاحظ أنّه ربما يكون ناقض نفسه في ثنايا الكتاب حيث يؤكّد في مطلع القسم الثاني منه، أنّه لا فكاك من الثنائيات القاتلة في النظرة إلى الإسلام وعلاقته بالحركة الإسلامية، إلاّ بنظرة مركّبة لهذه المسألة المعقّدة و»هذه النظرة لا تتطلّب فقط منظورا مركّبا في المقاربة، بل كذلك مرونة سياسية عملية في التعامل» (انظر ص 203).
وهو يضيف قائلا إنّه لا يزعم «أنّ هذه النظرة وتلك المرونة محايدتان قيميا وسياسيا، بل إنّه يعتقد بالعكس تماما أنّهما ملتزمتان وحاملتان لقيم تتمحور حول تنسيب الحقيقة تجنّبا للتطرف العقائدي والفكري مهما كان شكله من ناحية أولى، وحول الدفاع عن الإنسان مهما كانت صفته من ناحية ثانية» (انظر ص 203). وليس هذا فحسب فهو يقول «أنا إذن لن أزعم الموضوعية التامّة في التعامل مع المسألة منهجيا ولست محايدا فيها سياسيا وهدفي هو دفع التفكير والممارسة إلى التغيّر بهاجس معرفي وسياسي أعتقده جديدا نسبيا في نفس الوقت « (انظر ص 203).
وفي رأيي، فإنّ الإشكالية الكبرى التي يطرحها هذا الكتاب، هي هذا المزج المُتَعمَّدُ و»الماكر» بين السياسي والمعرفي، بحيث يصعب استكناه النوايا التي يخفيها، أو يتستّر عليها، في مرحلة قفزت فيه كينونة الإسلام السياسي أولا كينونته الى مرتبة «المشغل» الكبير إن لم يكن الأكبر لا على المستوى الوطني فحسب، وإنّما على المستويين الإقليمي والعالمي أيضا.
محمد إبراهيم الحصايري
- اكتب تعليق
- تعليق