حـركـة 5 فـيــفــري 1972: انتفاضة جامعة أم أزمة نظام؟
إنّ المتأمّل في تاريخ الجامعة التونسية منذ إحداثها رسميا في مطلع الاستقلال (أكتوبر 1956) يلاحظ التوتّر الكبير والمتواصل الذي شهدته منذ أواخر الستينات ومطلع السبعينات وذلك بمحاكمة مجموعة «آفاق» في مارس 1968 التي كان ضمن أفرادها طلبة وجامعيّون وباحثون... ومحاولة السلطة توجيه نتائج مؤتمر الاتحاد العام لطلبة تونس المنعقد بدار ترشيح المعلمين بمدينة قربة في صائفة 1971 لفائدتها بغاية تدجين الاتحاد كما فعلت مع بقيّة المنظمات الوطنية وتركيع الجامعة. ولا يمكن في اعتقادنا فهم تاريخ اليسار التونسي داخل الجامعة وخارجها: نشأته، برامجه، مطالبه وعلاقته بالسلطة...، دون العودة إلى محطّة نضالية مفصلية تبقى للأسف غير معروفة من قبل العامة وحتّى الكثير من المثقفين من خرّيجي الجامعة، ألا وهي حركة 05 ففري 1972.
تميز مطلـع السبعينــات بعودة معركة الاستقلالية بين السلطة والجامعة على الســـاحــة. كما طرحت للنقاش بين اتحاد الطلبة والحكومة عديد المسائل الأخرى من أهمّها: المسألة اللغوية والمسألة الثقافية... بعد أن صدر في 24 جانفي 1969 أمر ينصّ على أنّه «من بين مهامّ المؤسّسات الجامعيّة إعطاء تعليم عال مطابق لتقدّم المعارف وللواقع الوطني يستجيب لحاجيات البلاد وكذلك تطوير الثقافة الوطنية عبر تعميم تعليم اللغة العربية».
ولم يخلُ الشارع من تحرّكات الجامعيّين من طلبة وأساتذة وباحثين احتجاجات على السياسة الخارجية للحكومة وعديد القضايا المتصلة بالاقتصاد والاجتماعية. ففي 09 فيفري 1970 وبمناسبة زيارة وزير الخارجية الأمريكي «وليام روجرز» William Rogers» لتونس لعرض مشروع التسوية للنزاع في الشرق الأوسط المعروف بـ «مشروع روجرز»، اندلعت موجة من المسيرات الطلابية جابت شوارع العاصمة. كما انتظم تجمّع ببورصة الشغل ضمّ ما بين 5 و6 آلاف شخص للتضامن مع الشعب الفلسطيني واحتجاجا على هذه الزيارة.
ورغم انفراج الوضع السياسي بالبلاد إثر القطع مع التجربة التعاضديّة ومحاكمة مهندسها أحمد بن صالح ودخول البلاد تجربة اقتصادية ليبرالية منذ أواخر سنة 1970 قادها الوزير الأوّل الهادي نويرة، فإنّ ذلك لم يمنع من اندلاع موجة من الإضرابات ببعض مؤسّسات التعليم العالي احتجاجا على محاكمة بن صالح وتطبيق مبدإ السيــــاسة الانتقائية في الدراســــة (نظام الخراطيش: سنتــــان فحسب لكلّ طالب خلال المرحلــــة الأولى مــــن التعليم العالي) منذ مطلع السنة الجامعية 1970 - 1971.
وبين 12 و 16 أوت 1971، عَقَدَ الاتحاد العام لطلبة تونس مؤتمره بمدينة قربة تحت شعار «الحركة الطلابية تعبير عن مطامح الأمّة». وقد مثّل هذا المؤتمر محطّة مفصليّة في تاريخ الحركة الطلابية التونسية. وقد اعتبرته بعض الدراسات ميلادا جديدا للحركة الطلابية التونسية بسبب حركة التعبئة الواسعة في صفوف الطلبة الذي تزامن مع ولادة تيّارات وحساسيات سياسية طلابية في أروقة الجامعة وهي: التيّار الدستوري والتيّار اليساري الماركسي والتيّار القومي العروبي مع تفرّعات كلّ تيّار منها.
وشعر المؤتمرون الدستوريّون ومن ورائهم هياكل الحزب والمنظّمات الخاضعة له بخطورة الوضع وانفلات منظّمة جماهيرية تمثّل النخبة المتعلّمة.
وفي اليوم التاسع من المؤتمر تحرّك الطلبة الدستوريّون المساندون للسّلطة بمساعدة البعثيّين والقوميّين ورفضوا كلّ التنقيحات المدخلة على لائحة السّياسة العامة وتبنّي المطالب التي قدّمتها لجنة الإعداد منذ البداية والإعلان عن اختتام أشغال المؤتمر والمرور مباشرة إلى انتخاب هيئة إدارية جديدة تحافظ على تبعية الاتحاد للسّلطة. رفض أغلب المؤتمرين تلك الطريقة واعتبروها انقلابا ضدّ الشرعية وأمضى 105 منهم (من جملة 175 من نوّاب المؤتمر)، أي التيار المستقلّ، على عريضة تنديد ولم يعترفوا فيها بشرعيّة القيادة الجديدة للاتحاد وأعلنوا أنّ المؤتمر لم ينه أشغاله وأنّهم سيواصلون النضال «صلب منظّمتنا حتّى تكــون بحقّ منظمة ديمقراطية».
وعند العودة الجامعية 1971ـ1972، اتّخذت السّلطة عدّة إجراءات تمسّ من وضعية الطلبة وخاصّة إرساء نظام «الخراطيش» أي الحدّ من التسجيل لسدّ الباب أمام من كانت تعتبرهم السّلـــطة «طلبة أبديّين»، وبالتالي المصدر الرئيسي للاضطرابات بالجامعة.
وكانت ردّة الفعل الأولى أن اقتحم عدد كبير من الطلبة ـ خاصّة المحرزين الجدد على الباكالوريا ـ مكاتب الديوان الوطني للخـــدمات الجامعية يوم 28 أكتوبر 1971 قبل التوجّه إلى وزارة التربية لتفرّقهم قوّات الأمن.
وكثّف المؤتمرون الغاضبون من اتصالاتهم بالطلبة لشرح ظروف انعقاد مؤتمر قربة وما عقبه من انقلاب، واندلعت إضرابات تهديديّة في نوفمبر وديسمبر 1971 وانعقدت اجتماعات عامة ندّد فيها الطلبة بالسياسة الانتقائية للتعليم وبالقيادة المنصّبة على رأس اتحاد الطلبة...
وفي مؤتمر انعقد ببئر الباي تقرّر الاندماج في منظمة جديدة سمّيت «اتحاد الشباب التونسي». وقد طبّقت قيادة الاتحاد الطّلابي هذا القرار مباشرة دون استشارة قواعد المنظمة وعمَّقت ارتباط المُنظَّمة بالحزب الحاكم تنظيميًّا، هذا علاوة على أنّ مبدأ القطيعة السِّياسة والتنظيمية مع النظام يعني أيضا أنّ الخطّ السياسي العام للحركة الطلابية وللاتحاد سيكون خطّا معارضا لسياسة النظام الحاكم اللاوطنية والاديمقراطية واللاشعبية.
أطوار الحركة وطبيعتها
تجمّع يوم الأربعاء 2 فيفري 1972 بكلية الحقوق حوالي 4.000 طالب (من أصل 11.489 ألف طالب مرسّمين بالجامعة التونسية) للتنديد بقمع السلطة الحاكمة. وللتأكيد عـلى عـزمهم عـلى عـقد المؤتمر 18 الخارق للعادة في حالة المنع شُنّ إضراب غير محدود عن الدراسة يوم 7 فيفري. وبالفعـل انطلقت أشغال المؤتمر يوم الخميس 3 فيفري 1972 بمشاركة آلاف الطلاب، حيث تكونت 5 لجان تحضيرية: اللجنة السياسية العامة ولجنة الشؤون الداخلية ولجنة الشؤون النقابية ولجنة الشؤون الثقافية ولجنة الصحافة والإعلام. وقد شارك في بعـض اللجان (اللجنة السياسية العامة) أكثر من ألف طالب. وقد أفضت أشغال هـذه اللجان إلى إقرار شعارات مركزية أو مبادئ أساسية من أهمّها: النضال من أجل اتحاد عام لطلبة تونس ديمقراطي وجماهيري ومستقـلّ - النضال من أجل ثقافة وطنية وتعـليم ديمقراطي وجامعة شعـبية - اعـتبار الحركة الطلابية جزءا لا يتجزأ من الجماهير الشعـبية ومساندة حركة الكفاح الوطني العـربية والعالمية.
استمرّت أشغال المؤتمر كامل يوم الجمعة 4 فيفري 1972. وفي يوم السبت 5 فيفري 1972، وقبل تلاوة البيان الرسمي والختامي للمؤتمر، تدخّلت ميليشيا الحزب الحاكم، التي كانت ترفع شعار «يحيا المجاهد الأكبر»، فيردّ عـليها الطلبة بشعار «لا مجاهد أكبر إلا الشعـب»...
وبعـد فشل الميليشيا تدخّلت فرق النظام العام (BOP) بكل ضراوة ووحشية، وهـو ما أدّى إلى مواجهات دامية وإيقاف أكثر من 900 طالب.
النظام الحاكم يستخدم سياسة العصا الغليظة:
في يوم 8 فيفري 1972 قرّر مجس الوزراء غلق كليّتي الآداب (3.200 طالب) والحقوق والعلوم الاقتصادية (1.867 طالبا) إلى غاية شهر سبتمبر 1972. وفي يوم 10 فيفري 1972 بدأت عمليات الإيقاف في صفوف الطلبة والتلاميذ وشملت كامل مجموعة 1968 التي حمّلت مسؤولية الشغب الذي حصل بالجامعة وبكامل البلاد. وقد بلغ عدد الموقوفين 1.500 موقوف تمّ تصنيفهم إلى مجموعات. كما اعتمدت عدّة وسائل غير قانونية للحصول على اعترافات منهم بالقوّة لكن دون جدوى. لذلك تمّ الإبقاء على 55 فردت من بين 1.500 من مجموعة ما يعرف بحركة 5 فيفري 1972، 08 منهم من مجموعة 1968 يتقدّمهم كلّ من: محمّد الصالح فليـــس ونــور الديــن بن خذر ومحمّد بن جنات ومختار العرباوي والهاشمي الطرودي وعبد الله الرويسي...
وأمام تصلُّب موقف النظام من مسألة استقلالية الاتحاد العام لطلبة تونس طرحت حركة فيفري مبدأ «القطيعة السياسية والتنظيميّة مع النظام الحاكم»، ويعني هذا المبدأ أنّ الاتحاد المنشود بعد إنجاز المؤتمر 18 الخارق للعادة لن يكون له أيّ ارتباط تنظيمي بأطر الحزب الحاكم الشبابية مثلما حصل سابقا وخاصّة في المؤتمر الثالث المنعقد بنابل عندما أقرّ الدساترة آنذاك فكرة إدماج الاتحاد العام لطلبة تونس و«الجامعة القومية للطلبة الدستوريين» في منظّمة واحدة.
تضامن الأساتذة الجامعيّين مع الطلبة
كردّة فعل على هذا الغلق دخل الأساتذة الجامعيّون على الخطّ. ففي 25 فيفري 1972 وجّه أساتذة كلية الآداب والعلوم الإنسانية رسالة إلى رئيس الجمهورية بإمضاء 149 جامعيّا. وفي 11 أفريل 1972 أرسل نفس الأساتذة لائحة ثانية ضدّ قرار الغلق والانتخاب ومشاركة الأساتذة والطلبة في الحياة الجامعية على أساس الانتخاب ودَعَوْا الرئيس إلى حلّ الأزمة على أسس سليمة تضمن للجامعة أسباب التطوّر و التقدّم...
وكان للرسالة الموجّهة من قبل العمداء إلى رئيس الجمهورية بتاريخ 12 أفريل 1972 راجين منه اتخاذ القرار السليم والصائب بإرجاع الطمأنينة إلى الجامعة بواسطة هياكل جامعية منتخبة وإصلاح التعليم العالي إصلاحا يمكّن البلاد من تدعيم شخصيتها القومية ومواجهة مشكل الفقر بعقلية حديثة... صداها بقصر قرطاج.
تجاوب النظام وانفراج الأزمة
في 16 أفريل 1972 قرّر الرئيس بورڤيبة فتح الكليّتين ومن الغد وفي مجلس وزاري التقى بالعمداء والمديرين رفقة الوزير الأوّل، الهادي نويرة وأعضاء الحكومة من بينهم وزير التربية، السيّد محمّد مزالي. وقد حضر هذا المجلس الوزاري كلّ من الأساتذة: عبد القادر المهيري (عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية) ومحمّد عمـــارة (عميد كليّة العلوم) وجنيدي عبد الجواد وعلي الحيلي (أستاذان بنفس الكليّة) والصادق بلعيد (عميد كليّة الحقوق) وعز الدين مخلوف (مدير البحث العلمي) والصدّيق الجدّي (عميد كليّة الطبّ).
وهنا يجدر التذكير أنّه رغم خطورة الأزمة وتردّد وزيري الداخليّة الضاوي حنابليّة ووزير التربية القومية، محمّد مزالي في مصارحة الرئيس في الأمر وإعلامه بحالة الاحتقان وكثرة الإضرابات وتعطّل الدروس داخل الجامعة والمظاهرات خارجها عند لقائهما به أو في اجتماعات مجلس الوزراء كلّ يوم أربعاء، فقد كان يجيبهم بعد الاستماع لتقرير كلّ منهما بكلّ اهتمام: «لا بأس، ما دام ليس هناك عنف فيما بينهم واعتداء على الممتلكات العامة والخاصّة... إنّي أفضّل الحوار مع مثقّفين عن الحوار مع أمّيّين...». وفي ذلك دليل واضح على إيمانه بجدوى التعليم ومراهنته عليه في صنع « الأمّة التونسية» على حدّ قوله، إضافة إلى عدم اعتراضه على تسيّس الجامعة وممارسة الطلبة للسياسة ما لم يتمّ المساس بالممتلكات العامّة والخاصّة والإخلال بالأمن العام. وإثر قرار مجلس الوزراء القاضي بإعادة فتح الكليّتين وعودة الدروس بهما، التقى الرئيس بورقيبة أعضاء اللجنة المكلفة بمعالجة الأزمة والمؤلفة من عمداء الكليات ومدير دار المعلمين العليا وعدد من الأساتذة الجامعيّين، من بينهم الطيّب البكّوش وعبد السلام المسدّي ومحمّد الطالبي...
لقد مثّلت حركة 05 فيفري 1972 «تمرّدا» حقيقيا قادته النخبة الطالبية أو الأنتليجنسيا الشبابية الناشئة، حضر فيها الفكر الثوري بقوة بنقد البديهيات وخلخلة القيم السائدة وتفكيك الأراجيف والثوابت المزعـومة التي كان يروّج لها النظام الحاكم في خطابه الرسمي منذ 1959. وهكذا شكّلت أزمة فيفري 1972 إصرارا واضحا من قبل الحزب الحاكم على تدجين الجامعة وحشر نفسه في شؤون الطلبة. كما عبّرت عن وجود أزمة حقيقيّة بين السلطة والجامعة نتيجة حرص الحزب الاشتراكي الدستوري على تسييرها من الخارج عبر مختلف مؤسّساته وهياكله. وهي في اعتقادنا سياسة ثبت ميدانيا عدم جدواها، لذا كان مآلها الفشل. ورغم بقاء الطلبة رهن الإيقاف بين 10 و11 شهرا في السجن دون محاكمة فقد اعتبروا عدم محاكمتهم انتصارا لهم ولقضيّة الجامعة التونسية عامة.
نتائج الحركة
كان من أهم النتائج التي تمخّضت عـنها حركة فيفري إعادة طرح قضية الشرعـية على الساحة وهي مسألة ستظل لعقود تشكّل لبّ العـمل السياسي والنقابي بالجامعة ومن خلالها تتحدد مكانة الهياكل والقرارات والنتائج...، إذ رفضت الجماهير الطلابية الموقف الانقلابي للسلطة، المتمثل في تنصيب هيئة إدارية موالية، وتشبثت بحقها الشرعـي في إيجاد هياكل نقابية ممثلة.
كما حصل صدام وتعارض في تصوّر الشرعـية بما أنّ ما تعـتبره السلطة شرعـيا هـو في نظر الجماهير الطلابية غـير شرعـيّ، وما تعـتبره السلطة غـير شرعـي هو في نظر الجماهير الطلابية شرعيّ. وعموما مثّلت حركة 5 فيفري 1972 نقلة نوعية في تاريخ العمل النقابي والسيّاسي بالجامعة وذلك بحكم عمق الشعارات التي رفعتها والتي رسمت الخطّ النضالي العام للحركة الطلابية وكانت ذات جوهر وطنيّ ديمقراطي شعبي فوضعت النضال الطلابي ضمن مسار التحرّر الوطني الديمقراطي في تونس وأسَّست لرؤية جديدة للعمل النقابي والسياسي داخل الجامعة، انطلقت من جملة من الشعارات لتصبح تمرّدا بأتمّ معنى الكلمة لم تتسع دائرته إلى المجتمع لكنّه لامسه عن قرب من خلال عائلات الموقوفين والمحاكمات التي طالتهم... وبقطع النظر عن الأخطاء التي ارتكبت في هذه المحطة النضالية وتداعيتها السلبية على الطلبة والجامعة فإنها تبقى لحظةً مُضيئةً ومُهمّة في تاريخ النضال الطالبي في تاريخ الجامعة التونسية بتونس المستقلّة!.
عادل بن يوسف
(أستاذ التاريخ المعاصر والزمن الراهن بجامعة سوسة)
- اكتب تعليق
- تعليق