المنـتظـر والمـؤمّــل والممكن فـي الـتّـــشغـــيـل
إذا أخذنا في الاعتبار ما جرى في تركيبة السكان المشغّلين حسب القطاعات الاقتصادية بين 1994 و2014، نلاحظ أنّ القطاع الفلاحي هو الخاسر إذ تقهقر عدد المشغّلين فيه تقهقرا وأنّ قطاع الخدمات هو الرابح يليه قطاع البناء والأشغال العامّة ثمّ قطاع الصناعات المعملية. وحتّى ولو أخذنا في الاعتبار الإحصائيات الصادرة عن المعهد الوطني للإحصاء إلي نهاية الثلاثي الثاني من سنة 2018 المتعلقة بعدد المشغّلين في القطاع الفلاحي (ما يزيد قليلا عن خمس مائة ألف) فإنّ الجزم بزيادة المشغّلين فيه في المستقبل يبدو واهيا وذلك لأنّ هذه «الانتعاشة» لا ترتقي من حيث الدقّة والوسائل المستعملة إلى ما يفرزه التعداد العام للسكان والسكنى. ولذا فإنّ التضارب بين المصدرين أو بالأحرى بين الطريقتين من حيث الأرقام المتعلّقة بعدد المشغّلين في القطاع المذكور طبيعي مع الإبقاء على علوية التعداد العام
توزيع المشغّلين حسب القطاعات الاقتصادية في الثلاثي الثاني لسنة 2018 (بالألف)
الفلاحة والصيد البحري | 506.7 |
الصناعات المعملية | 646,5 |
صناعات غذائية | 96,2 |
مواد البناء والخزف والبلور | 39,8 |
صناعات ميكانيكية وكهربائية | 153,6 |
صناعات كيميائية | 30,5 |
صناعات النسيج والملابس والأحذية | 242,1 |
صناعات معملية أخرى | 84,3 |
الصناعات غير المعملية | 525,4 |
المناجم والطاقة | 36,9 |
البناء والأشغال العامة | 488,5 |
الخدمات | 1815,2 |
التجارة | 462,1 |
النقل والاتصالات | 189,9 |
النزل والمطاعم | 139,8 |
البنوك والتأمين | 34,6 |
تصليح وخدمات عقارية وخدمات أخرى للمؤسّسات | 178,6 |
خدمات اجتماعية وثقافية | 148,6 |
تربية وصحّة وخدمات إدارية | 661,6 |
غير مصرّح به | 3,9 |
المجموع | 3497,7 |
قد لا يلعب قطاع الفلاحة والغابات والصيد البحري الدور الذي يؤمّله البعض في تحسين أوضاع التشغيل والبطالة في المستقبل وذلك لأنّ إحداثات الشغل الصافية ستكون أصغر بالتأكيد من الخسارة التي تلحق بعدد المشغّلين في القطاع.
وهذا لا يعني المرّة الدعوة إلى الحدّ من الاستثمار في هذا القطاع بل العكس لأنّ زيادة الإنتاج والإنتاجية فيه من الاختيارات الاستراتيجية الأساسية للبلاد بغضّ النظر عن تأثيره في إحداثات الشغل المباشرة (التأثير في إحداثات الشغل غير المباشر قضيّة أخرى)، كلّ ما في الأمر هو التنبيه إلى خطر بعض التصوّرات التي تسوّق حاليا والقائلة بإمكانية نماء التشغيل في القطاع بدرجة تساهم مساهمة كبيرة في الحدّ من البطالة.
الوظيفة العمومية
شكّلت الوظيفة العمومية في السنوات الأخيرة منبعا هامّا للانتداب والتشغيل أدخل على الميزانية العمومية اضطرابا لا يمكن تلافيه في الأمد القصير والمتوسّط ، والقضيّة هنا ليست قضيّة زيادة العبء المالي المحمّل على الدولة بنسق يفوق كثيرا نموّ الناتج المحلي الإجمالي فقط وإنّما هي قضيّة تباين واضح بين الحاجيات ونوعية وعدد الانتدابات التي تمّت بعد سنة 2010 . فمن ناحية العدد تجاوزت الانتدابات في السبع سنوات الأخيرة خمس مرات تقريبا الحاجيات أمّا من حيث النوعية فإن الإشكالية تجاوزت كلّ حدود المنطق وهذا التباين لن يعالج إلا بإعادة النظر في حاجيات الإدارة العمومية من جهة في ميادين الصحة والتعليم والحوكمة أساسا وسياسة التأجير من جهة أخرى. فلا معنى لسلّم الأجور المطبّق إلى حد الآن في الوظيفة العمومية لأنّه أفضى إلى ظلم يصعب تبريره ولأنّه تسبّب في نزيف نوعي لا يطاق من شأنه أن يهدّد المنظومة التربوية بأكملها كما جرى ويجري في كليات الطب والمستشفيات الجامعية مثلا.
وأشارت الدراسة التي قام بها المعهد الوطني للإحصاء حول «خصائص أعوان الوظيفة العمومية وأجورهم لسنوات 2010/2014» إلى أنّ عدد أعوان الوظيفة العمومية بالوزارات والمؤسّسات العمومية بلغ في 2014 ما يناهز خمس مائة وواحد وتسعين ألفا (591174) مقابل أربع مائة وخمسة وثلاثين ألفا (435487) في 2010 أي بزيادة تجاوزت صنفي مائة وستة وخمسين ألفا (156 ألف) عون في الفترة المذكورة وحين نقارن نسق نموّ الزيادة في الفترة بما كان يحدث قبل 2010 نلاحظ أنّ معدّل الزيادة السنوية في عدد أعوان الوظيفة العمومية قفز إلى ستّة فاصل ثلاثة بالمائة (3،6 %) عوضا عن واحد في المائة فقط. كما نلاحظ أنّ هذه الزيادة انتفع بها الرجال أساسا ممّا تسبّب في تراجع نسبة الإناث في الوظيفة العمومية من 39،5 بالمائة في سنة 2010 إلى 36،4 بالمائة في 2014 وحيث أنّ الحاجيات الطبيعية تنحصر في ميدان الصحة والتعليم بالخصوص وحيث أنّ العنصر النسائي يكون غالبا عموما في هذا الميدان فإنّه يمكن القول إنّ الانتدابات التي حصلت في الوظيفة العمومية كانت جائرة من حيث الجنس وغير مجدية بالمرّة من حيث الحاجيات وخطيرة من حيث تأثيرها على الميزانية العمومية.
ويتضح إذا أنّ نسق الانتداب في الوظيفة العمومية في المستقبل سيكون ضعيفا وبالتّالي لن يلعب هذا الجهاز دورا أساسيا في تحسين أوضاع التشغيل والبطالة ولعلّ تحوّل الرأي العام في هذا المضمار من الاعتقاد بالدور التشغيلي للوظيفة العمومية إلى الاعتقاد بدورها في تقديم الخدمات الأساسية ومواكبة الصيرورة التنموية سيسهّل التّحكّم في عدد الموظفين وما يتطلّبه ذلك من مراجعة الأجور وتحسين ظروف العمل.
قطاع الخدمات غير الإدارية وقطاع الصناعة
تشكّل الصناعات المعملية بالخصوص والخدمات الخارجة عن نطاق الدولة والوظيفة العمومية المنبع الحقيقي لإحداثات الشغل في المستقبل. أمّا في الميدان الصناعي فإنّ العبء سيحمّل بالأساس على الصناعات المعملية خاصّة الصناعات الميكانيكية والكهربائية والصناعات الغذائية لأنّ صناعات النسيج والملابس والأحذية حتّى ولو احتلّت إلى حدّ الساعة المرتبة الأولى من حيث عدد المشغّلين في الصناعات المعملية فإنّها لا تفي بالحاجة من حيث تشغيل أصحاب الشهائد العليا، أمّا في ميدان الصناعات غير المعملية فإنّ العبء سيحمّل على قطاع البناء والأشغال العامّة لأنّ التشغيل في الطاقة والمناجم سيكون محدودا بطبعه ولو كان غنيا أكثر من غيره (باستثناء الإدارة طبعا) بمواطن شغل تناسب حاملي الشهادات العليا. وإذا استثنينا التجارة في قطاع الخدمات فإنّ إحداثات الشغل في هذا القطاع ستهمّ بالأساس النقل والمواصلات والنزل والمطاعم والخدمات الاجتماعية والثقافية.
ويتّضح إذا أنّ تنمية التشغيل في المستقبل وخاصّة مواطن الشغل التي من الممكن أن تؤول إلى حاملي الشهادات العليا، وهي القضيّة الأساسية والمحورية، مرتبطة إلى حدّ كبير بحجم الاستثمار وتركيبتة، أي مرتبطة بالمعادلة الذكية بين الاستثمار المفضي إلى تشغيل يد عاملة وفيرة (النسيج والملابس والأحذية، البناء والأشغال العامة، التجارة مثلا) والاستثمار الضامن للقيمة المضافة والإنتاجية والتأطير(الصناعات الميكانيكية والكهربائية، مواد البناء والخزف والبلور، الصناعات الكيمياكية والأدوية على سبيل المثال).
وخلاصة القول إنّه يصعب الحديث عن آفاق التشغيل وعن عدد المشغّلين وتوزيعهم حسب القطاعات الاقتصادية في المدى البعيد، لأنّ العالم يتطوّر بسرعة لم تشهدها الإنسانية من قبل ولأنّ عدد الحرف والمهن ونوعيتها في حركية مستمرّة ولأنّ اقتصاد أيّ بلد كان مرتبط بمداخيل وذوق المستهلكين في البلدان التي يتعامل معها. فهناك حرف ومهن ستزول أو سيتتناقص عددها لتحلّ محلّها حرف ومهن جديدة وهناك تحوّلات مناخية ستجبر قطاعات الفلاحة والسكن والنقل والمرافق العمومية على التكيّف معها ممّا يؤثّر فى التشغيل. وهناك أيضا عوامل أخرى وديمغرافية ستلعب دورا هامّا في حجم الهجرة الداخلية والخارجية ووجهتها. ومع ذلك فإنّ كل بلد مجبر على استقراء المستقبل ومضطرّ بالتالي إلى وضع الرهانات في حدود ما تمليه المصلحة العامّة وما تفرضه إمكانياته الطبيعية والبشرية وما يتطلّع إليه من تقدّم ونماء وازدهار.
وهذا لا يعني المرّة العدول عن التخطيط ورسم برامج اقتصادية واجتماعية متوسّطة المدى بل بالعكس لأنّ الاكتفاء بمعالجة المشاكل الظرفية في الأمد القصير لا ينفع بقدر ما يؤدي إلى تأجج الأزمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية كما نشاهده اليوم في تونس وفي غيرها من البلدان التي نصّبت حكومات عاجزة عن التطلّع إلى المستقبل وعاجزة حتّى عن التصرّف اليومي بصفة عقلانية تجنّب مجتمعاتها التفقير والتهميش والفوضى.
للبطالة والتشغيل حلول تكمن أساسا في إعادة النّظر في السياسة التنموية ومراجعة التكوين الجامعي والمهني وإصلاح نظام التأجير إصلاحا جذريا وإصلاح الجباية إصلاحا يتناسب مع العدل والمردودية وتحديد الأولويّات من حيث الاستثمار المنتج مباشرة وإعطاء الأولويّة لهذا القطاع نظرا لتأثيره في الميزان التجاري وميزان الدفوعات والإدماج الصناعي والاقتصادي إلى غير ذلك من الاختيارات التي تدخل ضمن سياسة اقتصادية وصناعية مقنّنة ومضبوطة لا ضمن سياسة «زيد الماء زيد الدقيق» كما يقال بالعاميّة.
الحبيب التهامي
- اكتب تعليق
- تعليق