اصدارات - 2019.01.21

«الثّـورة الأخرى» لمحــمّد كـرّو مـن نور الثّورة ودَيجورها (فيديو)

«العالم القديم يموت، العالم الجديد تأخّر ظهوره، وفي هذا الغَبَش تنجم الوحوش والأشباح». تُلائم هذه القولة التّي تُنسب إلى غرامشي حال الثّورة التّونسيّة إلى حدّ بعيد، فالبلاد قطعت مع عهد سابق وتخلّت عن نظام كان قائما، ولكنّها وجدت نفسها عاجزة عن إقامة بدائل للمنظومات السّابقة أمنيّا واقتصاديّا واجتماعيّا. وفي غضون ما يعيشه الفعل الثّوريّ من عطالة تسرّبت إلى الجسد المهتاج بعض الأسقام والإعاقات بما جعل الثّورة منقوصة غير مكتملة.

لذلك أطلق الأستاذ محمّد كرّو على كتابه الصّادر مؤخّرا عنوان «الثّورة الأخرى»، أي الثّورة التّي لم تحدث، بمعنى المهامّ التّي لم تنجزها الثّورة والرّهانات التّي لم تكسبها. هي الثّورة القادمة التّي تتجاوز نقائص الثّورة القائمة وتتلافاها فتتّخذ صبغة مُواطنيّة صريحة ، وتحقّق الحريّة والمساواة والكرامة البشريّة تحقيقا فعليّا وتنشر التّسامح وقبول الاختلاف واحترام القانون وإعلاء المصلحة العامّة.

والحقّ أنّ الثّورة التّونسيّة ألهمت كتّابا كثيرين وشكّلت محور اهتمام عديد البحّاثة والدّارسين فتناولوها من وجهات نظر متنوّعة وقاربوها على أصعدة مختلفة. ولعلّ آخر الإصدارات في هذا الشّأن التّرجمة العربيّة لكتاب الأستاذ عياض بن عاشور «تونس ثورة في بلاد الإسلام» الذّي عرّبه فتحي بالحاج يحيى ، وهو يرسم الخطوط العريضة للثّورة في لحظاتها المضيئة وتراجعاتها ولكنّه يباشرها من زاوية قانونيّة ودستوريّة. كما صدر مؤخّرا كتاب «وإذا الثّورة سُئلت...» للجنرال المتقاعد محمّد النّفطي ، وهو يتضمّن محاولة للإجابة عن أسئلة حارقة تتّصل بما كان قد جرى في تونس بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011 وإسهاما في إنارة بعض الجوانب التّي ظلّت خفيّة غامضة وذلك من وجهة نظر الخبير العسكريّ المختصّ.

أمّا مؤلَّف الأستاذ محمّد كرّو «الثّورة الأخرى» فهو كتاب يتناول قضايا الثّورة من جهة ما تحويه من رمزيّات سياسيّة وذاتيّات ثوريّة أكثر ممّا يتّجه إلى تحليل المنطق المؤسّساتي والنّصوص القانونيّة التّي تهدف – بحسب المؤلّف- إلى التّحكّم في العقليّات والسّلوكيّات وتكييفها من وجهة نظر فوقيّة متسلّطة.

وعلى هذا النّحو سيعرض الكتاب لأهمّ مظاهر الانتقال السّياسيّ في تونس محلّلا خصائص المنطق الذّي تحكّم في عمليّة الانتقال، غير أنه سيتوقّف بشكل خاصّ عند ما رافق تلك المظاهر من إخفاقات وتناقضات بما جعل الفعل الثّورّي عنده فعلا مبشّرا وواعدا ولكنّه انكشف خُلَّبا على مستويات عديدة.

وقد برز هذا التّلازم بين استقراء مقوّمات الحراك الثّوريّ وأبعاده من جهة والإشارة إلى حدوده وإعاقاته من جهة ثانية في جميع أجزاء الكتاب، وقد أقامه صاحبه على توطئة وخاتمة تتوسّطهما خمسة فصول.

أمّا التّوطئة فحملت عنوان «الثّورة الغامضة»، ومأتى الغموض أنّ هذه الثّورة بدت محكومة بمنطقين اثنين: منطق القطيعــــة ومنطق الاستمراريّة وهو ما ولّد أبرز تناقضاتها، فبقدر ما استبطنت الثّورة التّونسيّة – من خلال دوافعها وشعاراتها – القطع مع المرحلة السّابقة على مستوى المناويل السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة وطمحت إلى تحقيق تغيير جذريّ عميق في البُنى الثّقافيّة والفكريّة نجدها تنتهي إلى تكريس الاستمراريّة على نحو مفارق Paradoxal: فبن علي الذّي غادر البلاد في 14 جانفي 2011 لم تعوّضه شخصيّة ثوريّة وإنّما حلّ محلّه فريق من أعضاده السّابقين. ثمّ إنّ نتائج انتخابات 2011 منحت الفوز لأطراف لم تشارك في الثّورة إطلاقا، وانتهت السّلطة آخر الأمر بين يدي «شيخين» (السّبسي والغنّوشي) تربّعا على عرش ثورة صنعها الشّباب في بلد غالبيّة سكّانه من الشّباب، والأغرب عند المؤلّف من كلّ ذلك أنّ المسار الانتقالي يُقاد بفاعلين لم تكن لهم أيّة مشاركة في الثّورة. والنّتيجة أنّ البلد الحقيقيّ بات في قطيعة كليّة مع البلد الرّسميّ.

وفي الفصل الأوّل المخصّص لمحمّد البوعزيزي يُقدّم المؤلّف تحليلا نفسيّا اجتماعيّا لحادثة إقدام البوعزيزي على حرق نفسه ، ويذهب في فهم أبعاد الخصومة بينه وبين عون التّراتيب البلديّة فادية الحمدي إلى اعتبارات قبليّة وجندريّة، ويُسْلِمه ذلك كلّه إلى اعتبار أنّ شخصيّة البوعزيزي تنطوي على تصوّر أسطوريّ بطوليّ. إلّا أنّ ذلك لم يمنع من ظهور تصوّر مضادّ يجعلها شخصيّة سوقيّة لمعتدٍ وقاطع طريق. وتحتدّ المفارقة عندما يروي الفصل خبر هجرة والدة البوعزيزي وشقيقته إلى كندا حيث أصبحت العائلة تمتلك مطعما هناك وبذلك تلتحق ببلحسن الطّرابلسي صهر بن علي الذّي فرّ إلى كندا لتلتقي الضّحيّة بالجلّاد في المكان نفسه بعد أن أصبحت تونس في نظر عائلة البوعزيزي «بلدا لا يُطاق». صورة بليغة التّعبير عن وجه من وجوه تناقضات الثّورة ومفارقاتها.

ويتطرّق الفصل الثّاني إلى ظاهرة اقترنت بالحراك الثّوريّ وهي غزو السّاحات العامّة، وينطلق المؤلّف من شعار «الشّعب يريد إسقاط النّظام» ويجد جذوره الشّعريّة والثّقافيّة في شعر الشّابّي ولا سيّما في بيت «إرادة الحياة» الشّهير، ومن ثمّ يتفطّن إلى ما في المتخيّل السّياسي من ربط بين فترة الكفاح الوطنيّ وفترة الثّورة.

أمّا الدّلالة الكبرى لغزو السّاحات العامّة فتتّصل بالمنزلة الجديدة التّي سيتبوّؤها «الشّعب» في الثّورة ، ذلك أنّه سيصبح هو الفاعل الرّئيسيّ في حركة التّاريخ بتصدّره المشهد العامّ الذّي كانت تصادره السّلطة السّياسيّة. لقد أعلنت الثّورات العربيّة العودة القويّة للشّعب باعتباره مفهوما سياسيّا ومقولة في التّفكير، إذ يظهر الشّعب في لحظة غير متوقّعة ويفرض تبدّلات جذريّة سياسيّة ورمزيّة. وهنا ينعطف الكتاب إلى تحليل الأدوار التّي اضطلعت بها بعض السّاحات العامّة في مسار الثّورة التّونسيّة مثل ساحة القصبة وساحة باردو وشارع الحبيب بورقيبة والمسرح البلدي بالعاصمة. إلّا أنّه لا يغفل عن الوجه الآخر لغزو السّاحات العامّة، ذلك أنّ الأمر لم يتّصل دائما بالاحتجاج والتّعبير الحرّ وإنّما انقلب أحيانا كثيرة إلى إفراط في استخدام الحريّة أفضى إلى ضرب من تحدّي سلطة الدّولة ومن الانزلاق إلى الفوضى الاجتماعيّة. وذاك مظهر آخر من مظاهر تناقضات الثّورة.

ولعلّ الفصل الأهمّ في الكتاب هو الفصل الثّالث الذّي خُصّص لظاهرة اجتياح الإسلام السّياسي للفضاء العامّ. وفيه ينطلق المؤلّف من مفارقة وهي أنّ هذا الاجتياح يحدث في بلد عُرف على مدى قرون بأنّه حداثيّ، مُنفتح ومتسامح وخضع الدّين فيه دوما إلى رقابة الدّولة. إلّا أنّه يفسّر هذه الظّاهرة بما رافق الثّورة من انفلات كان من نتائجه صعود الإسلام السّياسيّ ذي النّزعة السّلفيّة باتّجاهيها: السّلفيّة العلميّة أو المعتدلة والسّلفيّة الرّاديكاليّة أو الجهاديّة، تضاف إليهما إسلامويّة حركة النّهضة التّي تستمدّ جذورها من سلفيّة الإخوان المسلمين المصريّين. ويتجلّى هذا الاجتياح في جملة من المظاهر أوّلها احتلال المساجد وأماكن العبادة باعتبارها تمثّل عندهم الفضاء الدّيني الأمثل لتنفيذ استراتيجيّة الهيمنة، ومنها التّدخّل في فضاء التّديّن الشّعبي والفضاء الفنّي والإبداعي باللّجوء إلى إحراق الزّوايا (السّيّدة المنّوبيّة – سيدي بوسعيد...) والاعتداء على المثقّفين والفنّانين وتكفيرهم، من ذلك الهجوم على قاعة سينما «أفريكار» بالعاصمة والفضاء الثّقافي العبدليّة بالمرسى.

ويفسّر المؤلّف هذه الظّاهرة بتراجع سلطة الدّولة وتفكّك الكثير من بُناها وهياكلها والفراغ الذّي خلّفه عزل الأيمّة الرّسميّين الذّين أُبعدوا من المساجد عُنوة ليحلّ محلّهم في الغالب شبّان مُتزمّتون دون تكوين دينيّ ودون مستوى تعليميّ يكفلان لهم القيام بوظيفة الإمامة على أفضل وجه. وقد تهيّأ صعود هذه الوجوه السّياسيّة والدّينيّة الجديدة بفضل ترسانة إعلاميّة وسياسيّة وماليّة كانت تدعم الفكر السّلفيّ وتُغذّيه. وكان من نتائج ذلك استفحال العنف السّياسي الذّي أدّى إلى اغتيال لطفي نقّض وشكري بلعيد ومحمّد البراهمي، وتزايد أعداد الجهاديّين التّونسيّين الذّين يُقاتلون في بؤر التّوتّر. وأمام اجتياح الإسلام السّياسي للفضاء العامّ نشطت حركة مقاومة مدنيّة وسياسيّة وفنيّة في الوقت نفسه، تشهد على ذلك بعض المواقف الرّمزيّة مثل الحركة التّي قامت بها الطّالبة خولة الرّشيدي في كليّة الآداب بمنّوبة (حادثة العلم) والأعمال المسرحيّة للفنّانة المناضلة ليلى طوبال.

وفي الفصل الرّابع «ديناميّات المجتمع المدني المتعدّدة» ترشح عن الكتاب صورتان متناقضتان للمجتمع المدنيّ بعد الثّورة: صورة ناصعة يعكسها صنف من المجتمع المدنيّ يُسمّيه المؤلّف المجتمع المدني الرّسميّ، وتتمثّل أبرز تجلّياته في الرّباعي الرّاعي للحوار الوطني الذّي تُوّجت إدارته للحوار المفضي إلى التّوافق الوطنيّ بالحصول على جائزة نوبل للسّلام سنة 2015. وصورة قاتمة يعكسها صنفان يُسمّيهما المجتمع المــدني الإسلامويّ والمجتمــــع المدنيّ السّوقي Plébéienne وكلاهما يُنسب إلى المجتمع المدنيّ غير الرّسميّ، وهو نتاج تاريخيّ حتميّ لتناقضات الدّولة الوطنيّة التّي جرفتها بعد الثّورة العولمة الاقتصاديّة والثّقافيّة . وتكمن خطورة هذا المجتمع المدنيّ الجديد غير الرّسميّ في علاقته بالعنف (روابط حماية الثّورة) وبدعم الإرهاب وفي ارتباطه بالاقتصاد الموازي والتّهريب والعصابات المافيوزيّة.

وتنغلق فصول الكتاب بإثارة أزمة أخيرة من أزمات الثّورة وهي عجزها عن إنتاج زعامات سياسيّة تتوفّر فيها الكاريزما والقدرة على التّأثير في النّفوس والعقول والفعل في الواقع، فالطّبقة السّياسيّة الحاليّة هي - بحسب المؤلّف - أقرب إلى الرّداءة منها إلى الزّعامة. وكان من تداعيات هذه الأزمة أمران اثنان : أوّلهما عودة رجال النّظام السّابق للاضطلاع بمسؤوليّات عليا في الحكومة وفي مؤسّسات الدّولة بالنّظر إلى ما يتوفّرون عليه من كفاءة وتجربة سياسيّة. وثانيهما عودة بورقيبة و»البورقيبيّة»، وقد تُرجمت أوّلا في إعادة تماثيل الزّعيـــم إلى السّاحـــات الرّئيسيّة في العاصمـــة وفي عدد من المدن الكبرى، وثانيا في إعــلان بعــض الأحزاب السّــياسيّة عن استنـــادها إلى الفكـــر البورقيبي مرجعــيّة سيــاسيّة وإصـلاحيّة.

وفضلا عمّا تعكسه هذه العودة من مصالحة نوستالجيّة مع الماضي القريب فإنّ استدعاء شخصيّة «الزّعيم» لعب دورا محوريّا في الصّراعات السّياسويّة بعد الثّورة ، فقد تشكّلت حول صـــورة بورقيبة الزّعيم الكاريزماتي المتنوّر والمتّصف بالحكمة وبُعد النّظر حــركة المقاومة في مواجهة التّهديـــد الإسلامـويّ والتّهديــد الشّعبـــويّ.

وفي المحصّلة يعدُّ كتاب «الثّورة الأخرى» مقاربة عميقة وطريفة للمسار الثّوريّ في تونس تستند إلى مقولات علم الاجتماع والسّيميائيّة والتّأويليّة وتسترفد بأدوات البحث التّاريخي فتستقرئ في ضوء تلك المناهج مجتمعة رمزيّات الثّورة السّياسيّة والتّاريخيّة وتعبيراتها الفنيّة والثّقافيّة. ولكنّها تكشف كذلك إعاقات الثّورة ومنزلقاتها فقد ركبتها موجات متطرّفة وحاقدة وهدّامة عقيدتها العنف وهدفها تفكيك مقوّمات الدّولة وزعزعة بناها الرّاسخة، فكأنّ الثّورة التّي بدأت احتجاجا على طريقة في الحكم وأسلوب في إدارة البلاد تكاد تنقلب ثورة ضدّ تونس وتاريخها وحضارتها وثقافتها وضدّ مكتسباتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة.

وازدادت الأزمة استفحالا بتراجع شوكة الدّولة وعجز النّخب عن إيجاد بدائل تنمويّة حقيقيّة وإقناع جماهير الشّعب بأنّ حالهم اليوم أفضل من حالهم بالأمس. لقد جاءت الثّورة بالحريّة ولكنّها فشلت في خلــــق الإطار الملائم لممارستهـــا على أحســـن وجــه. أفلا تكون الثّورة قد حدثت في مستوى استيهامات النّخب وفانتازماتها أكثر ممّا حـدثت في الواقع ؟... وذلك في انتظار الثّورة الأخرى.

ف.ن