عبد العزيز قاسم: خــواطـر على هـامش ســنــيّ المـــخـاطــر ,2011 - 2019

1

مررنا بالسنوات العجاف فتذرعنا بالصبر وقلنا إنّها سبع وتمضي وها نحن على عتبة السنة التاسعة وما في الأفق ظلّ لأية سمينة.
وأجلس على الربوة لا استعلاء ولا انعزالا ولا تنصّلا من أية مسؤولية بل لأنّ الزواحف ملأت السفوح والوهاد واستولت على مواقع الكلام والحراك.

أجلس على الربوة وأمامي بانوراما على امتداد الوطن المدمَّر فأرى خراب الذات والمؤسسات. القيم والكفاءات والمنتوجات كلّها على مقاس الدينار فسبحان الذي أبدل دينارنا بدرهم.

الطبقة الوسطى، عماد المجتمع، اهترأت. نحن نغرق ألم نصل القاع بعد؟

أصدقائي يقولون بأنّني متشائم. والصحيح أنّي أنتسب إلى فصيلة كاسندرا اليونانية أو زرقاء اليمامة، أرى الخطر الداهم وأنبِّهُ إليه فلا أُصَدَّق.

2

كلّ القطاعات منكوبة وفي اعتقادي أنّ الاقتصاد قابل للإصلاح إذا تداركته أيد كفؤة ونظيفة في ظلّ دولة قررت أن تستعيد هيبتها وقدرتها على ممارسة السلطة.

أمّا قطاع التربية فهو المتضرّر الأكبر في عهد بن علي، تسيُّبٌ وانخفاضٌ مريع في مستوى التعليم وشهادات أشبه شيء بصكوك بلا رصيد.

ذلك أنّ وسائل المعرفة وعلى رأسها اللغة قد تهلهلت بشكل جعل مقولة «الإنسان حيوان ناطق» أمرا نسبيا. ثم إنّ العلوم تداخلت مع الخرافة. كان أساتذة الأدب والرياضيات والفلسفة هم كواكب المعهد أما اليوم فقد اختطف النجومية منهم أستاذ التربية الدينية فإذا بدروس عذاب القبر وحوارات الرسول مع الحيوانات تتفوق على أية مادة سواها. وازدادت حالة المدرسة التونسية الصحية تدهورا مع المتغيرات.

وكنا نظنّ أن ما تشكوه التربية والتعليم من قصور وتقصير على مختلف الأصعدة يكفيان لتراجيديا المشهد وإذا بنقابات التعليم تزيد من تعطيل المُعَطَّل. ترميم التعليم يحتاج إلى جيل كامل من الجهود المكثفة والعناية المركزة.

3

ويـــقــــال ثـــــورة...

أنا رجل من الطراز القديم أحترم اللغة وأحاول تنزيل المصطلحات في أصحِّ مواقعها وأدقِّها. كلمة ثورة تحيلني بالدرجة الأولى إلى الثورة الفرنسية وبدرجة ثانية إلى الثورتين البولشيفية والماوية ومشتقاتهما في أمريكا اللاتينية على الأخصّ وكلّها تستند إلى كتب ونظريات معمقة، أي إلى متكآت ومستندات ثقافية متطورة. فلا يمكن تصوّر الثورة الفرنسية بدون مفكّري عصر الأنوار ولا الثورة البولشيفية  بدون مؤلفات ماركس ولينين. ثمّ إنّ الثورة ذات منطلقٍ تقدميّ أو لا تكون ولا يمكن بحال من الأحوال لأية حركة يمينية ديماغوجية ولا لأيّة شعبوية دينية أن تدعي لنفسها أيَّ توجُّهٍ ثوري.

إنّ ما حدث عندنا منذ ثماني سنوات كان انتفاضة عارمة، غضبةَ شارعٍ حامية سرتْ سريان النار في الهشيم فأدّت إلى تغيير نظام تآكل ولم تُدْلِ بعد بكامل أسرارِها. ولندع جانبا ما قيل وما تواتر من تحريك خارجي ذهب بالأحداث إلى ما وصلت إليه. لقد حصل ما حصل وكان علينا أن نلعب بما في أيدينا من أوراق وأن نعمل على استخلاص أقصى ما يمكن من الأدنى المتاح وهذا ما لم نُوَفَّقْ إلى تحقيقه بل هذا ما لم نسع إليه البتّة...
ويــقــــال ربيـــــع...

مَــــنْ مُجيــــري مــــن أشــــواك الربيــــع العـــــربي؟

4

وجاءت الديمقراطية المنشودة وذاب الحزب الواحد فيما يقارب 222 حزبا هي في الحقيقة وعلى الأغلب مجرّد عشائر وشظايا قبلية. وانحلّ مجلس النواب ليحلّ محلّه عبر انتخابات «حرة وشفافة»مجلس تأسيسي فمجلس نواب الشعب. وانهدم النظام الرئاسي وأعْطِيَتْ للنواب صلاحية تزكية الحكومة وحلّها بحجب الثقة. ولكل عقلاء الساسة  في العالم المتقدم احترازات إزاء منح السلطة النيابية مثل هذا النفوذ فما بالك بما تقع فيه برلمانات الديمقراطيات الناشئة من شطط وعبث...

واستمعنا إلى نواب الشعب فسمعنا العجب. صراخ وقلّة أدب ومداخلات لا تشي بفكر ألمعي.وعلينا أن نسلم بقضاء صندوق الاقتراع وقدره. تخرج منه سيدة محترمة مثل فاطمة المسدي وينزلق منه كذلك متسكعون في سباخ السياسة. وتلك هي حدود مدارك الناخبين. ســؤال: كــم مــن نــائب قرأ ابن خلدون؟

5

هناك قاعدة دستوريــة في منتـهى الوضوح تقتضي الفصـل بيــن السلطات الثلاث...

السيد الحبيب الصيد، رئيس الحكومة السابق، رجل فاضل ولكنه ارتكب هفوة ما كان له أن يرتكبها. ففي أثناء مناقشة عمل حكومته قال للنواب : «أنتم أعرافنــا» وغفرنا له زلّة لسانه على اعتبار أنّه يخطب ودّهم أو، على الأقل، يتّقي شرَّهم. ولكنه أعاد الكرة عندما جاء يطلب تجديد الثقة وكان واثقا من أنّه لن يحظى بها فاستنكرنا منه هذا التملّق المجاني الذي أخذه معظم النواب مأخذ الجدّ فأصبحوا به يعملون. وقد رأى وسمع الشعب التونسي النائبة يمينة الزغلامي في مطار تونس قرطاج وهي ترحِّل شابا نهضاويا ممنوعا من السفر مبرّرة تدخّلها بأنّ «صلاحيات النواب أعلى من رئيس الحكومة».

6

سنتان وثلاثة وثلاثون يوما. تلك هي مدة حكم «الترويكا» ومفهوم الثالوث في هذه العبارة تمويه وتعمية فالنهضة هي الآمر الناهي وما حزبا المؤتمر والتكتل سوى كمبارس.

والنتائج مرعبة: ملأوا الإدارة بالعُرْجِ والنطائح من الأتباع وأثقلوا كاهل خزينة الدولة بدفع تعويضات ما أنزل الله بها من سلطان لكلّ من دخل السجن منهم ظالما أو مظلوما.

دشنوا الإرهاب باغتيال شكري بلعيد فمحمد البراهمي، مكّنوا أجلاف التديّن من احتلال المساجد ثم الجبال.

وفي محاولة بائسة استضافوا كلّ ذي لحية من شرّ الوعاظ لمحو الإرث الحداثي البورقيبي من الأذهان ولما اشمأزّ الناس من استيراد الغباء والتحنط أطلقوا لسان إمامهم وجدي غنيم فصرخ فينا: «مــوتـــوا بغـيــضـكـــم».

لا أعتقـــد أنّ الأجيـــال الحــالية قادرة على إصلاح ما أفسدوه.

7

قطعوا علاقاتنا الدبلوماسية مع سوريا الشقيقة ولما استنكر العقلاء ذلك قيل لهــم المرزوقـــي هو الذي فعـــلهــا والحقيقـــة أنّ النهضة هي المســؤول الوحيد عن كـــل ما جـــرى في تونـــس من تـــرهات...

وجنّدوا كلّ صائع وضائع وأرسلوهم بالآلاف إلى بؤر التوتّر ليتدربوا على الذبح والتوحش وأردفوهم بمئات المراهقات من مجاهدات النكاح في أكبر عملية بغاء حلال عرفها التاريخ الإسلامي. 

أوباشنا تفوّقوا في البطش حتى على ذئاب الشيشان. ومن بطولاتهم أنّهم هم الذين توَلوْا إحراق الطيار الأردني معاذ الكساسبة حيا.
خلال أفريل الماضي، عندما تعرّضت سوريا إلى العدوان الثلاثي (الأمريكي الإنكليزي الفرنسي) هلّل راشد الغنوشي لما اعتبره «حدثا عظيما».
سوريا البطولة، سوريا المقاومة، سوريا الحضارة تنتصر. ولقد عنَّ لبعض الأصدقاء أن يرسل برقية إلى كلّ مكونات الترويكا يعزّيها في تحطّمِ أوهامِها على صخرة الصمود فثنيته عن ذلك.

8

في 24 ديسمبر 2013 وقبيل خروجها من الحكم بأيام استصدرت الترويكا قانونا يؤسّس لما سُمِّيَ تعسفا، هيئة الحقيقة والكرامة. كان يفترض أن يتلقى هذا الجهاز شكاوى المظلومين لإنصافهم من ظالميهم مع امتداد مساحة المحاسبة إلى فجر الاستقلال بما لا يدع أي مجال للمصالحة الوطنية. وأعْطِيَت الهيئة صلاحيات مجحفة تجيز لها إعادة محاكمة المتهمين الذين برّأهم القضاء مخالفة بذلك كل تشريعات العالم المتحضّر. وعلاوة على مــا قـــد يحصل عليه «المظلومون» من تعويضات مؤدية إلى مزيد إفلاس الدولة يبقى المستهدف الأول هو باني تونس المستقلة. إنّهم يريدون مقاضاة شبح بورڤيبة.

لقد ظلّت الحكومات المتعاقبة تقترض من صندوق النقد الدولي لتغطية ما تتطلبه ميزانية تصرف الهيئة من ملايين الدنانير ذهبت عبثا في مرتبات خيالية ورحلات واستقبالات كانت الدولة في غنى عنها. ومن المفارقات أن يكون سوء التصرف هذا محلّ توافق الخصوم والأعداء، حزب النهضة والجبهة الشعبية. وكثيرا ما يتحلّق النقيضان حول الموائد العفنة.

9

في الماضي كان الحكّام العرب المتهمون بالعمالة للغرب يتعاملون مباشرة مع القوى العظمى ومع أميركا بالتحديد. أما اليوم فقد اشترتْ دويلاتُ الخليج الحجابة على السيد الأكبر بغزير أموالها وبماء الوجه وصار حكامنا يتمسّحون على عتبات العبيد. بعضنا يدين بالولاء لقطر وبعضنا الآخر للسعودية أو لدولة الإمارات. وقديما قال أبو نواس:

ومنْ تميمٌ ومن قيسٌ إخوتُهم ليس الأعـاريبُ عند اللهِ مـن أحدِ

يعرفون هذا جيدا ولكنهم ينتظرون بفارغ صبر انبعاث الخلافة العثمانية وما تونس في نظرهم إلا إيالة أردوغانية.

10

كفــــانا ضــحكـــا على عقـــولنـــا قبـــــل عقــــول النـــــاس.

هناك كلمة أصبحت تزعجني، كلمة «شعب» ومشتقاتها. شعار أجوف يصبّ حتما في مهامّه الشعبوية. لقد تغنّت الانتفاضة في تونس وفي مصر أيضا ببيت الشابي :

إذا الشعب يومــا أراد الحيــاة...فهــل أراد شعبنا الحيـــاة حقا؟

خــرج النـــاس يطالبــون بالشغـــل وبالكــرامة وبالحـــريــة.

الشغــل لم يتحقـــق منـه شيء بل تفاقمت الإضرابات وانتشرت ثقافة اللاشغل وأصبحت مناطق كاملة تحلــم بمداخيل ريعية، وفر المستثمرون وأُغْلِقَت المصانع وتوقّف الإنتاج في العديد من المواقع وتضاءلت موارد الدولة فارتهنت لصندوق النقد الدولي.

أما الكـــرامة فهـــي مـــرتبطة أساسا بالعمــل وبحـب الوطن.

وتبقى الحرية فماذا فعلنا بها في مستوى الإبداع وشحذ القرائح. صحيح أنّ الألسنة أطْلِقَتْ من عقالها وأصبحت بلاتوات التلفزة حلبة سباق للثرثرة والهذيان.

كانت الانتفاضة حركة عارمة لا قيادة لها فانقض عليها تنظيم الإخوان وحقق مطامحه.

أمــــا بقية الجماهير فرحم الله أبا القاســــم الشابي إذ يقـــول

أيها الشعب أنــتَ طفلٌ صغيرٌ   لاعــبٌ بالتــرابِ والليلُ مُغْـسِ
أنت يا شعــبُ قوةٌ لم تسُسْهـا   فـــكــرةٌ عـبـقـريةٌ ذاتُ بــأسِ فهل من زعيم ذي كاريزما ينهض بهذا الطفل يوصله إلى سنِّ البلوغ؟ هذا الصنف الاستثنائي من الرجال والنساء موجود ولكنه لن يخرج من صناديق الاقتراع...هناك أسئلة يطرحها علينا وحش خفي كامنٌ فينا أشدُّ هوْلا من أبي الهول ويتوقَّف مصيرنا على استنباط الأجوبة الصحيحة، أجوبة لن تخرج هي أيضا من صناديق الاقتراع.

11

الويل للمغلوب. كل نظام يسقط يفقدُ أولَ ما يفقد القدرةَ على الدفاع عن نفسه أمام التاريخ. إذ يسهلُ أنْ تُلصقَ به التهم حقا وباطلا. وكثيرا ما يسيء المنتصـــر التصــرف فيترحّم النـاس على ما كان. نظام بن علي كان فاسدا ولكن الدينار كان أفضلَ حالا وكان الدواء متوفرًا وحتى البطالة كانت أخف وطأة. ولعلَّ أقسى ما يمكن تسليطُه من أحكام على النظام البديل هو التحسُّرُ على ما مضى. والأمثال الشعبية تعجّ بمقولات من نوع «شـــد مشومك».

أشهرُ تعليقٍ قيل عشيةَ خروجِ بن علي من الحكم ومن أرض الوطن وردَّدَتْه قنوات التلفزة في كافة الأقطار العربية جاء على لسان مواطن عادي يدعى أحمد الحفناوي قال بصوت متأثر ومؤثر: «هرِمْنا من أجلِ هذه اللحظةِ التاريخية». أحمد الحفناوي يعبّر اليوم عن شديد أسفه عمّا يعتبره خطأ فادحا في التقدير. ومثل هذا الندم معروف منذ القدم. وللإمام علي بن أبي طالب في هذاالمعنى بيتان شهيران:

عجــبًا للزمــانِ في حــالتَـيْـــهِ    وبـــلاءٍ ذهــبـتُ مـنْـهُ إليــهِ
رُبَّ يـــومٍ بكيتُ منـــه فلــمّا    صـــرتُ في غــيرِهِ بكيـتُ عليهِ

12

تحية لقواتنا المسلحة من جيش وحرس ورجال أمن. إنّهم حماة الحمى بحقّ. بتضحياتهم ويقظتهم الدائمة وتصدّيهم الشجاع تمكنوا من تسديد ضربات موجعة للإرهاب. إنّهم يواجهون عدوّا متجدّدا لانبعاث. فالعصابة التي يفككونها لا تلبث أن تتشكل من جديد في إطار بيئة حاضنة متواطئة تعرف أنّ السلـــطة القائمة لا تخلو من عناصر تستخدم الإجرام أداة للتمكين. ثم إنّ المساجد ما زالت تشتغل كقواعد تعبئة وتجنيد. يضاف إلى ذلك ما تقوم به مدارسنا من شحن الرؤوس الطرية بأساطير الجهاد وبفضيلة الموت نعطيه ونتلقاه بغبطة وشهية.

لقد أخطأنا زمنا طويلا في اعتقادنا أنّ «الداعشية» غير مؤهّلة للبقاء بسبب غلظتها وافتقارها إلى أيّ تنظير وتصوّر لمقتضيات الحكم. والواقع أنّ لهم منظومة فكرية مبسطة ولكنها كليانية متكاملة. وفي المقابل ما هي خطتنا الفكرية لمواجهة هذا التنظيم الجهنمي؟ لقد ظننا أنّ مقاومة الإسلاموية لا تؤتي أكلها إلاّ بالإسلام. والصحيح أنّ الثقافة هي الحلّ. 

لا بدّ لنا من وقفة حازمة حاسمة نقوم فيها بتطهير شجاع لمناهج التعليم من كل الفيروسات المميتة للعقل. ولا بد لنا من سياسة ثقافية في مستوى التحولات تحرر العقول من الخرافة وتنمِّي ملَكَةَ النقد وتفتق مواهب الإبداع عند الناشئة. مقاومة الإرهاب تتطلب السلاح وكذلك القلم والريشة.

عبد العزيز قاسم