احميده النيفر: الظاهـرة الدّينيّة والجامعـة وجـــدار الصــــدّ
1 - ماذا يُتوقَع من رسالة جامعية نوقشت أخيرا تحمل عنوان «تدبير الحقل الديني بين الواقع الاجتماعي والبناء الاستراتيجي» قدّمها باحث تونسي لنيل شهادة الماجستير بإشراف أستاذ في علم الاجتماع الديني؟
أقلّ ما يقال في هذا العنوان أنّه يبحث موضوعا متشعّبا وإشكاليا فضلا عن كونه بالِغَ الدلالة لاقتحامه مجالا شبه محظور أكاديميا.
2 - يبدأ الباحث عرضه بتساؤل عن الحالة الراهنة للحقل الديني في تونس متدرّجا في متابعة المسارات التاريخيّة الاجتماعيّة التي صاغت هذه الوضعيّة.
مقتضى هذا التمشّي يؤدّي موضوعيا إلى التوقّف والحفر في العوامل المختلفة المتحكّمة في ميكانيزمات اشتغال الحقل الديني في تونس والمحددة لمسارات تحوّله.
من هنا تتبدّى للمُتابع رسالةٌ أولى منهجيةٌ يقدّمها الباحث من أجل تعامل مغاير مع الظاهرة الدينية في تونس يفرضها البحث في علم الاجتماع للظواهر التي تقع قُبالتنا والتي يمكن تحليلها تحليلا اجتماعيا. من هذا التحديد المنهجي تتوالى الأسئلة عمّا يمكن للباحث أن يعرفه عن الظاهرة؟ وماذا يجب عليه أن يفعل؟ وكيف يمكنه أن يعرف وأن يفعل؟
هو تَمَشٍّ جديد فيه تجاوز لما كان يتداوله سياسيون وجامعيون وإعلاميون عن نشأة الظاهرة الدينية في تونس وأنّها لم تكن سوى «صنيعة سياسية اختُلِقَتْ في سبعينات القرن الماضي» لمواجهة خصوم النظام الماركسيين الذين كانت لهم اليد الطولى في الجامعة لسنوات مديدة.
المقاربة الجديدة المقترحة من علم الاجتماع تبدأ بالكفّ عن الحديث «الإيديولوجي» عن الإسلام في تونس وما يتصل بذلك الحديث من مقاربات سياسوية لما عُرف بـ«الإسلام السياسي» وما برز من ظواهر عنيفة متلبّسة بالدين فيما اصطُلِحَ عليه بـ «التطرّف الديني». خطورةُ هذه المقاربات في افتقادها للاعتبارات العلمية وفي خطابها العاجز عن تقديم أيّ رؤية موضوعية وعملية لطبيعة ما يجري أمام أعيننا فعليا وفق قوانينه وآلياته.
3 - الوجه المُضَلِّلُ للمقاربة الإيديولوجية لموضوع التديّن في تونس هو أنّها لا تتمكّن من تجاوز المقارنة المجرّدة بين معارف الفكر العربي والفكر الغربي وبين قيم التراث وقيم العلم بذهولها عن إدراك أنّ حركة الأفكار في ذاتها لها ديناميتها الاجتماعية. بمثل هذا الإعراض عن العوامل الاجتماعية الفاعلة في التعبيرات الفكرية والثقافية يزداد التَحصُّن ضمن دائرة التأويلات الذاتية الواهمة العدائية. هو نوع مـــن التِيه الــذي لا يستطيع تجاوز حدّ انتقاد سكــونية الماضي أو الاقتصــار على الوعظ والروح التمجيدية إظهارًا لفضل الحاضر وقيمه على الماضي أو العكس.
أهمية المقاربة الجديدة للمسألة الدينية في تونس تتحدد في صدورها عن أكادميين وباحثين موصولين بما يعتمل في الواقع من حراك بالتركيز على ديناميات المجتمع الذي ما انفكّ، في حيويته الجَمْعية المتواصلة، يرفض السكونية.
من ثـَمّ تتبيّن الرسالة الثانية لبحث «تدبير الحقل الديني» المتمثلة في الاهتمام بالدلالة العلمية للمجتمع بأنّه المَعيشُ الحيُّ الذي طالما استهانت به نخب حاكمة ظَـنـًّا منها أنّها الأذكى والأعرف بمصالحه والأقدر على هندسته. حصل ذلك نتيجة تجاهل قدرات المجتمع الذاتية على الفعل والتشكُّل وما يتيحه من معطيات استراتيجية لمن أدرك خصائصه وآلياته.
4 - من أهمّ مكاسب السنوات الأخيرة التي تلت الأحداث الثورية في تونس هو إعادة الاعتبار، واقعيا واستراتيجيا، لهذا البُعد المجتمعي بتجاوز لما كان سائدا من مقاربة فكرية تعطي أولوية مطلقة للدولة ولسياساتها وخططها ومسؤولياتها في كلّ المستويات الحيوية المتعلّقة بالفرد وبالمجتمع كِلَيْهما.
هذا ما التقطته المؤسّسة الجامعية التونسية اليوم بِـنِسَبٍ متفاوتة مع بروز لمساعي رجال علم الاجتماع خاصّة حيث كانوا الأكثرَ وضوحا والأدقَّ تعبيرا في معالجاتهم للتعبيرات التدينية في تونس باعتبارها عنصرا من ظاهرة اجتماعية وليست مشكلةً اجتماعية وخطرا سياسيا. هو إقرار بما يمكن تسميته بـ»عبقرية» المجتمع نتيجة ما تعيّن من أنّه «الكلُّ البشريُّ الذي تندمج فيه حياة كلّ إنسان» بما يحقّق التحام انشغالات الأفراد ورغباتهم وأفعالهم بصورة مهيكلة وبواسطة روابط تبعية متبادلة. من ثَمّ لم يعد مُجديا اعتبار المجتمعات مجرّد ملتقى لأفراد في حالة صراع وتنافٍ تتداخل فيه شراذم الرَعاع والناقمون. ما أكّده بحث «تدبير الحقل الديني» وما تلاه بعد ذلك من إسهام ثريّ للجنة المناقشة هو أنّ الأهم في المجتمع هو استقلاليته وقدرته على التغيير وفق آليات خاضعة لدينامية فاعلة وقدرة كبيرة على الانتظام المؤسّسي.
5 - لكنّ هذا التحديد النوعي لطبيعة المجتمعات لا يَنْفَكّ يُحيل على مفارقات هامّة ثلاث للمجتمع هي:
- الأولى تكشف المجتمع بكونه واقعا متشكّلا وليس مُعطىً ناجزا أي أنّه ذو بُعدٍ إشكاليّ وضمن سيرورة تفرض تحيينا متواصلا.
- الثانية أنّ خاصية المجتمع الإشكالية ترتبط بالفرد وكيف تتقوّى علاقته به؟ هل يسمح المجتمعُ بتحقّق ذاتية ذلك الفرد أم أنه يسلبها أو يمحوها؟
- الثالثة تتعلّق بنزعة الإثباتات الفردية للقوّة في تعارضها وتصادمها بما يُفضي إلى التدمير الذاتي إن لم يلجأ الإنسان لحفظ ذاته إلى مؤسّسة اصطناعية هي الدولة جهازًا أعلى للإكراهات الضامنة للأمن والسلام بين الناس في إطار مجتمعات منظّمة.
6 - بالعودة إلى البحث وما تلاه من نقاش أكاديمي تأكّد أنّ الجامعة التونسية عرفت ما يشبه القطيعة الكاملة في خصوص دراسة الحقل الديني في تونس طوال الستينات والسبعينات من القرن الماضي. بعض الأبحاث الاجتماعية لم تندرج في هذا الإعراض بادر بها الأستاذ عبد الوهاب بوحديبة، أستاذ الفلسفة وعلم الاجتماع في السبعينات بمقاربات أوّلية اهتمت بالجانب الاجتماعي الثقافي السياسي. بعده اعتنى الأستاذ عبد القادر الزغل بالتوجّه الإسلامي الاحتجاجي في علاقة بتشكيل الأيديولوجيات السياسية واكبه سعي الأستاذ عبد الباقي الهرماسي الذي أطّر باحثين حتّى تسعينات القرن الماضي. ذلك أتاح إنتاج بحوث جامعية عن التصوف و«الإسلام السياسي» لم تنشر لاتسام هذه الفترة بالسياسات الاستئصالية لكلّ ما يتّصل بالمجال الديني مؤسّسيا وفكريا وسلوكيا.
ستتحوّل الجامعة مع هذا التصلّب الاسئصالي إلى ما يشبه جدار الصدّ نتيجة ما اعتراها من اختلال وظيفي. لكنّ ذلك لم يكن مجرّد ردّ فعل سياسي أبرزته مرحلة التسعينات بل عبّر عمّا ساد من اقتناع مُبكِّر لدى عموم الجامعيين منذ عقود بأن المسألة الدينية استنفذت أغراضها فلا تحتاج لأيّة عناية بحثية أكاديمية.
7 - الأهمّ هو أنّ أساس اقتناع الباحثين في الإنسانيات والاجتماعيات كان بالارتهان لمقولة «أوغست كونت» والفلسفة الوضعية التي تعتبر أنّ الإنسانية بلغت مرحلة يتوقّف فيها الفكر عن تعليل الظواهر بالرجوع إلى المبادئ الأولى مكتفيا باكتشاف قوانين علاقات الأشياء عن طريق الملاحظة والتجربة الحسية.
بذلك ترسّخ «جدار الصدّ» الجامعي على قاعدة مرحلة «العلم الكلّي» الذي يدرس المجتمعات برُمّتها في مظاهرها ومقوّماتها باعتبار أنّ ذلك العلم «دِينٌ للإنسانية يُجنِّبها النزاعات السياسية ويحقّق لها السلام الاجتماعي».
ما شدّد عليه بحث «تدبير الحقل الديني» هو أنّه أردف رصده وتحليله الواقع الاجتماعي لهذا الحقل في خصوصيته الاستراتيجية أي في قدراته المتوفّرة والمتعدّدة. من هنا تتميّز الرسالة الثالثة لهذا العمل في تخطّي سياسات «جدار الصدّ» عند بحث الظاهرة الدينية أكاديميا.
لقد صار واضحا أنّ ذلك الجدار فوّت على الجامعة والجامعيين وأصحاب القرار السياسي التفاعلَ مع الحقل الديني في تونس بصورة (بل بصور) علمية تقي المجتمع والأفراد والدولة ظواهرَ الالتباس المُهدّدة للاستقرار والنموّ.
مؤدّى ذلك أنّ الأجدى بالأكادميين اليوم الاعتناء بالحاجة الموضوعية لتدبيرٍ توافقيٍّ يُجانس بين السياسات الدينيّة والطلب الديّني واستراتيجيات الفاعلين الدينين.
لقد استبان الحقلُ الديني حقلًا ديناميّا متحوّلا وأنّ تحوّله متفاعل مع نسق من التغيّرات الاجتماعيّة تأثيرا وتأثّرًا نتيجة الروابط العلائقيّة والصيغ التفاعليّة بين كلّ من السياسات الدينيّة للدولة والواقع الاجتماعي التديّني للمجتمع واستراتيجيات تحرّك الفاعلين الدينين.
هو انطلاقُ مرحلة «النِدِّيَة» التفاعلية بين مؤسّسات الدولة واحتياجات الحقل الديني والمتغيّرات الاجتماعيّة وإيذانٌ بنهاية «أُبُوَّة» الدولة القاهرة المحتكمة إلى مقولة «أوغست كونت».
بهذا يتأتّى القطعُ مع الوعي الفِصامِيّ الذي دفع مسؤولا سياسيا كبيرا عند اطّلاعه على بعض أسباب اضطراب الدراسة بالمركّب الجامعي بتونس، سبعينات القرن الماضي، وأنّ منها مطالبة بعض الطلبة بقاعة للصلاة، قال يومها غاضبا مستنكرا: جامعٌ في الجامعة؟ !!
احميده النيفر
رئيس رابطة تونس للثقافة والتعدّد
- اكتب تعليق
- تعليق