الدّورة العشرون لأيّام قرطاج المسرحيّة مقاربة جديدة لبعدها الفكري
للدّورة الثّانية على التّوالي، يشرف على إدارة مهرجان أيّام قرطاج المسرحيّة المدير نفسه وهو الأستاذ حاتم دربال. نظريّا، يشكّل هذا المعطى نقطة إيجابيّة فيما يتعلّق بالهامش الزّمني المرصود لإعداد الدّورة. وهو ما طالبت به أصوات إعلاميّة ونقديّة عديدة بالنّسبة إلى جميع التّظاهرات الثّقافيّة السّياديّة (أيّام قرطاج المسرحيّة والسّينمائيّة ومهرجان قرطاج الدّولي ومهرجان الحمّامات الدّولي ومعرض الكتاب).
وما يبرّر هذا المطلب تمكين هذه التّظاهرات من الإعداد لتسيرها ولبرمجة أنشطتها وعروضها في آجال مناسبة، خاصّة وأنّ السّوق الثّقافيّة العالميّة التي تتزوّد منها للبرمجة تتعامل وفق آجال تبلغ في أحيان كثيرة وبالنّسبة إلى العروض القيّمة والمائزة، أكثر من ثلاث سنوات.
بعد أحداث 14 جانفي وعندما تقرّر تنظيم أيّام قرطاج السّينمائيّة والمسرحيّة كلّ سنة عوضا عن السّنتين، أصبح التّعاقد مع المدير المكلف بها يتواصل على امتداد دورتين متتاليتين إلاّ أنّ هذه البادرة يقابلها إشكال يخصّ توفير مقرّ قارّ وهيئة إداريّة قارّة أيضا على امتداد السّنة. وهذا ما لم يتوفّر إلى حدّ الآن. فإنّ إدارة أيّام قرطاج المسرحيّة لم يتسنّ لها الالتحاق بمقرّ عملها إلاّ في شهر أوت المنقضي أي قبل أقلّ من أربعة أشهر على موعد انطلاق الدّورة التي حدّدت للفترة بين 8 و16 ديسمبر 2018. وهو ما يبقي على الاختلال في منظومة الانتقاء بالنّسبة إلى برمجة العروض المسرحيّة التّونسيّة والعربيّة والإفريقيّة والعــــالميّة كما بالنّسبة إلى الفعاليّات الأخرى من ندوات فكريّة ومعارض وغيرها.
ومن بين المحـــاذير التي تنجـــرّ عـــن عدم استقرار الإدارة –فضاء وتسييرا- تلف الذّاكرة التّوثيقيّة للمهـــرجان. فقد فقدت جلّ الوثائق المتعلّقة بالدّورات التسع عشرة السّابقة ، ممّا عطّل تنفيذ المبادرة التي اتّخذها المدير الحــــالي والمتمثّلة في إقامة معـــرض وثــائـــقي للمهرجان، إحياء للذّكرى العشــرين لتـــأسيسه.
والمعلوم أنّ الدّورات السّابقة للمهرجان خلّف في كلّ دورة منها، منذ 1983، تراثا على قدر من الأهمّيّة على مستوى العرض المسرحي والنّقاش الذي يتلوه وكذلك على مستوى التّفكير حول الطّروحات المسرحيّة ومسالك الإبداع في العالم العربي والإفريقي وكذلك في عدّة بلدان آسيويّة وأوروبيّة وأمريكيّة وهذه الأخيرة بعنوان الاستضافة ، نظرا إلى أنّ المهرجان، في نصّ أهدافه، يخصّ المسرح الإفريقي والعربي.
وفيما يتعلّق بالجانب الفكري أو النّدوات الفكريّة التي ينظّمها المهرجان، كانت وقّعت مذكّرة تفاهم بين المهرجان من جهة والهيئة العربيّة للمسرح من جهة أخرى، للإشراف مادّيّا على هذه النّدوات. وقد ولّد ذلك الأمل في إمكانية طبع مداخلات النّدوات وتوثقها ونشرها حتّى تتجسّد أهدافها من خلال ما يصدر عنها من توصيات وتقييم للمسالك الإبداعيّة في العالم العربي والإفريقي. على أنّ ذلك لم يتجسّد إلى اليوم.
وتقتـــرح الدّورة الحاليّة العشرين ثلاث ندوات حول «منحى المســـرح ما بعد الدّرامي» بالنّسبة إلى النّدوة الأولى ويديرها علميّا النّاقد عبد الحليم المسعودي و«الممثّل والرّكح في مسرح ما بعد الدّراما» بإدارة الأستاذ محمّد المديوني. أمّا النّدوة الثّالثة فتطرح ثنائيّة «الخصوصيّة والتّفرّد في اللاّمركزيّة المسرحيّة» بإدارة الأستاذ محمّد إدريس مسعود.ودعي إلى هذه النّدوات باحثـــون ونقّـــاد عرب وأفارقة.
ومن المنتظر أن يبقى البحث والتّداول حول هذه المواضيع الثّلاثة في مدار التّنظير والفرضيّات. ذلك أنّ المقاربات الغربيّة في هذا الشّأن لم تتوصّل إلى تحديد دقيق ومحسوس لما يطلق عليه «ما بعد الدّراما».فالتّجربة الغربيّة في المسرح، وهي التّجربة الأمّ، تضع هذا المصطلح «ما بعد الدّراما» في ميزان الشكّ المنهجي وتواصـــل البحــث في احتمالات تطبيقه على المسالك الإبداعيّة القديمة والحديثة.
ويرى بعض الباحثين الغربيّين أنّ مفهوم الدّراما الذي اشتغل عليه المسرح الغربي إلى هذا الحين وقع اختراقه من قبل مفهوم ما بعد الحداثة، وهو ما يحدث خلطا بين المفهومين: ما بعد الحداثة وما بعد الدّراما.
وفيما يتعلّق بالتّجربة المسرحيّة العربيّة والإفريقيّة، فإنّ خلطا آخر سادها بين مفهوم التّجديد والحداثة. ويبقى طرح ما بعد الدّراما مرتهنا بتحديد مجمل هذه المفاهيم ، انطلاقا من مسالك إبداعيّة ميدانيّة. ولعلّ المسرح كعرض زائل يستعصي على البحث التّجريبي، في انعدام الثّقافتين التّوثيقيّة والنّقديّة الأساسيّة critique fondamentale.
وإلى حين انعقاد النّدوتين الأولى والثّانية، ينتظر النّقّاد منهما رفع اللّثام عن مغالطات كثيرة وخلط سائد لدى عدد كبير من المبدعين المسرحيّين الذين يدّعون حداثة وما بعدها ودراما وما بعدها، يستوحونها من تجارب غربيّة ويلبسونها حللا محلّيّة يوهمون بها أنّهم يمتطون صهوة الحداثة والدّراما وأحيانا ما بعدهما، والحال أنّهم ما يعرضون سوى نماذج مضغتها أفواه أخرى. يستنسخونها قوالب جاهزة ولم يهضموا منها تمشّيها وسمكها الفكري وعمق طبقاته الحضاريّة والثّقافيّة والمعرفيّة.
وبخصوص النّدوة الثّالثة المخصّصة للتّفكير حول المركزيّة والتّســــاؤل عـــن مدلوليها: الخصوصيّة والتّفرّد، فإنّ مفهوم اللامركزيّة كما وقعت مقاربته منذ دولة الاستقلال إلى اليوم، يعلن عن خلط بين توزيع الثّقافة ونشرها خارج المركز، واستنساخ الثّقافة المركزيّة في شكل هياكل مسقطة على الجهـــات وغير مدعومة بالهيـــاكل السّياسيّة والاجتماعيّة لبيئاتها المحلّيّة.
وفي انتظار انتهاء الدّورة العشرين لأيّام قرطاج المسرحية واستكمال أشغال ندواتها الثّلاث، سنعود لاستخلاص مقــاربة هــذه المشاغل الفكريّة في علاقتها بالحركة المسرحيّة في العالم العربي والإفريقي.
فوزية بلحاج المزّي
- اكتب تعليق
- تعليق