اصدارات - 2018.12.08

اللاّ البيّة قمر : المباني والمعاني

اللاّ البيّة قمر : المباني والمعاني

يفتتح النص بمقــابلة رسميــة  يستقبــل  خــلالها سيدي محمد الصــادق باي، وقد تزيّا بدلته الرسمية، وألبسه الراوي نياشينه وزينته، موفدا رسميا من اسطنبول محمّلا برسالة وهديّة...الرسالة  يحيلها الباي على الباش كاتب ليقرأها... والهديّة - وأيّة هدية- فتاة في جمال الفجر إذ ينشأ- ، نديّة، نضرة، طريّة الخدّ كما يقول عنها الراوي في ثنايا النصّ، يأمر بتوجيهها إلى القصر، قصرالسعيد...ويقرّر - إكراما لهاديها،خليفة المسلمين، السلطان عبد الحميد الثاني- أن يعقد عليها،مكرهة،وهو طاعن في السن....زواج «أبيض» زواج كاذب...فالنتيجة واحدة...هل أفظع من أن  تترمّل «المرأة» وهي بكر في عمر الزهور؟

ستّ سنوات دامت محنتها الأولى ولم تنته إلاّ بوفاة محمــد الصادق باي سنة 1553م بعد أن أوقع  البلاد في محنة أسوأ من محنتها...محنة توقيع معاهدة باردو التى سلبت البلاد حريّتها ووضعتها تحت الحماية الفرنسية.

ورغم الألم والأذى فإنّ هذه الشابّة القوية لا تبالي...فقد أصبحت بيّة في الحريم  وبدأت تخطو خطواتها الأولى  في عالم القصر وأسراره.....

يتدرّج السّرد،في هذه المرحلة، في تحديد بعض ملامح شخصيتها...فضولية هي تروم المعرفة...تحسن الإصغاء...ذكيّة نابهة...تقتنص المعاني وهي شوارد. وإذ تعلّمت العربية ، فقد بدأت تتعرّف على تاريخ البلاد...وأدركت أنّ العرش الحسيني لا دماء تركيّة فيه ...فالأب المؤسّس الحسين بن علي (1705 - 1740) ولد من أمّ تونسية من قبيلة شارن ومن أب من جزيرة كريت...أب مسيحي اعتنق الإسلام.

ومن محنتها الأولى إلى محنتها الثانية ....ذلك. أنّ سيدي  علي باي (1883 / 1902). أمر بعد وفاة شقيقه- في لهفة يقول النص-بنقلها من قصر السعيد الى قصره، قصر التاج في المرسى...رحلة ممتعة  تمكّنت خلالها من أن تتعرّف على الحاضرة...على أبوابها وأسواقها ومعمارها وعلى ضواحيها الشمالية ضاحية ضاحية...غريبة هي قد اجتثّت من محضنها الدافىء في بلاد الشركس. عمل السرد-وقد بدأت نفسها تتفتح على جمال البلاد ومباهجها- أن يغرسها في تربتها الجديدة....لكنّها مع ذلك لا تعرف سبب هذه النقلة...فكّرت فى كلّ شيء-وقد استبدّ بها السؤال - إلّا في أن يطلبها الباي الجديد للزواج  وهو في سنّ الخامسة والستين....تقضي معه تسع عشرة سنة ،مكرهة،  تقول عنها: إنّه كان خلالها بلا قلب، - وإنّ هي إلاّ دمية للمتعة-وبلا عقل، فقد أوقع البلاد في محنة  أقسى من محنتها  وأفظع...وقّع - عاجزا - اتفاقية المرسى التي أعطت مفاتيح البلاد جميعها إلى الأجنبي الغاصب (الاقتصاد والمالية والقضاء والإدارة) فقد أصبح العرش الحسيني اسما بلا مسمّى.

ورغم الألم ومرارة هاتين المحنتين، بقيت اللّا البيّة قمر- وقد اشتدّ عودها - عزيزة النفس عالية الهمّة.

لكن النص ينتكس، فتجد نفسها في كابوس أشدّ مرارة. ذلك أنّ سيدي الهادى باي الذي خلف والده في الحكم كان لا يطيقها فأمعن في إهانتها وإذلالها. فقد أمر بنقلها من قصر التاج الى شقّة حزينة متواضعة يقطر سقفها عندما ينزل المطر مدرارا على حدّ تعبير الراوي....قبر حياة ليس إلاّ.... ومرّة أخرى تقاوم بشجاعة... ولم يبق لها غير نور خافت في آخر النفق...سيدي الناصر باي الذي كان يزورها  بين  الفينة والأخرى تارة جَهْرًا وأحيانا كثيرة سرّا...يأتيها بالأخبار ويؤنسها في عزلتها...

وفي لفتة فنيّة رائعة تكثّف المشهد وتسارع حركة النص وتشعّبها يجوس الكاتب في أعماق نفس بطلته فيخرج النصّ من ثوبه القصصي إلي هيئة مسرحية تراجيدية (مونولوج)....

ففي لحظة وجودية بليغة ومؤثّرة تقف اللّا البيّة قمر أمام المرآة تتملّى وجهها... تتصفّحه... تتفحّصه... تسائله بقسوة... تراه تغيّر... لم يعد وجه تلك الفتاة الصغيرة ولا وجه تلك الشابة الفاتنة... لقد فعل فيه الزمن فعله... وكلّما اقتربت من المرآة أكثر ازداد وجعها... رأته وجها آخر... تمثّل  لها شبحا فتعجّبت واستفهمت ... ثمّ تبدّى لها وجه دمية بشرية فاستغربت... ثم بدا لها وقد تخشّب...أصبح دمية خشبيّة...دمية من دمى الروس-والروس هم أصل البليّة في محنتها- كلّما فتحت واحدة منها «تصاغر الوجه أكثر فأكثر ولا وجود للأصل»...

فمن ملاحظة إلى تعجّب ومن استفهام  إلى استغراب ومن شكّ إلى إنكار تحوّل الوجع  تفجّعا ...وإذا البصر يرتدّ خاسئا وهو حسير...فتنغلق  على نفسها  ثلاثة  أيام طويلة،  يقول النص، لا تكلّم إنسيا وتنقطع عن الطعام ... صومان... صوم عن الكلام وصوم عن الطعام...وتتفرغ لمحاسبة نفسها بعد أن جلدتها قاسية غير رحيمة... فترتدّ إلى منبتها الأوّل الذي اجتثّت منه... وتستعرض محنها محنة محنة ثمّ تقرّر واعية أن تضطلع بمصيرها..لكأنه برد اليقين... ويتدخّل القدر نصيرا لها نذيرا لخصيمها سيدي الهادي  بأي... فعندما يستيقظ الضمير الوطني عنده ويواجه المقيم العام ينكسر الجسم ويتهشّم...أصيب بشلل نصفي وما لبث أن التحق بجوار ربّه ... فانفتح  «باب العرش» أمام سيدي الناصر باي الذي أنسها أيّام الوحدة والوحشة وطابت نفسه لها وطابت نفسها له وأصبحت موضع أخباره وأسراره ونزّلها منزلة كبيرة في قلبه ثمّ في قصره. وإذ تنفكّ اللاّ البيّة قمر-وقد  تزوّجت من سيدي الناصر باي- من عقالها يرتقي نسق الرواية صعدا...فينطلق السّـرد غزلا... محـــافل من البهجة والسرور...وتشـرع اللاّ البيّة قمــر في صناعة الرجال والأحـــداث - وإن بلطف وكياسة - وحذر.

تصبح سيّدة القصر بلا منازع حازمة في غير قسوة لا تفوتها شاردة ولا واردة...تحيط ربّ القصر بكثير من الرعاية والعناية... تغمره بعطاءاتها وتطوّقه  بعطفها فلا يبخل عليها في المقابل بنفائس الهدايا ويشركها- وإن على سبيل المشورة- في عظائم الأمور...تدفع بسيدي خليل بو حاجب الي الواجهة... ترمى الطعم هنا... تنسج السدي هناك في لعبة السياسة كما يقول النص.

وكم تتقن هذه البيّة  - ومن ورائها الكاتب- فنّ الإيتيكات  وتحرص عليه في كلّ حركاتها وسكناتها... رفيقة رقيقة... لطيفة مهذّبة... مرهفة الحسّ... تعرف المقامات وتحسن المقالات في هذا العالم المخملي الراقي.وتنضبط لطقوس الملك ونواميسه بدقّة متناهية.

وضعها الكاتب  -عنوة - فيما يشبه الاختبار مع أميرة شرقية من قصور العثمانيين في مصر...مع الأميرة  «نازلي» زوجة سيدي  خليل بوحاجب -وقد تاقت نفسها للتعرف عليها لفرط ما حدّثها عنها سيدي الناصر باي عندما رآها لأوّل مرّة خلال حفل الاستقبال الذي أقامته  وزوجها احتفاء بقدوم الشيخ محمد عبده إلى تونس سنة 1906...

«تأخّرت الأميرة لشأن ثقافي في سانية بوحاجب في المرسى فتحيّرت الملكة وتغيّرت أو كادت...وإذا بالأميرة تصل-على عجل- محرجة تعتذر وتنحني لتقبّل يد الملكة فتجذبها البيّة اليها بلطف وتقبّلها... هذه بتلك... تواضع بتواضع... لطف بكياسة... وتواصل  الحديث بينهما هــادئا ودودا... لطفــا وانسجــاما.» يقول الرّاوي.

يمضى سيدي الناصر باي  إلي جوار ربّه سنة 1922 بعد أن صعّد  الموقف مع المقيم العام وهدّد بالاستقالة وكاد ينسف زيارة الرئيس الفرنسي إلى تونس في شهر أفريل من نفس السنة... مضى إلى جوار ربّه وقد أحاط اللاّ البيّة قمر بكلّ الضمانات... أوصى نجله وابن عمّه بها خيرا وأهداها قصر السعادة بالمرسى تحسّبا لغوائل الدهر ونوائبه. ثمّ يعود النص إلى التوتّر وتبدو اللاّ البيّة قمر بعد وفاة زوجها بين خوف ورجاء لاسيّما في عهد سيدي أحمد باي الذي تميّز بكثرة الدسائس والحبائل وفساد البطانة والتخاذل أمام المستعمر الفرنسي.لا تعود هذه البيّة إلي عنفوانها - رغم تقدّمها في السن - إلاّ عندما يعتلي سيدي المنصف باي العــرش سنة 1942.وكان هذا الباي نصيرا للوطنيين في غير وجل، قريبا من شعبه، مواسيا ومؤازرا لاسيما خلال الحرب العالمية الثانية التي عرفت فيها البلاد الويلات والدمار عندما اصطدمت جيوش  المحور مع جيوش الحلفاء على الأراضي التونسية. ولم يتردّد هذا الباي الأصيل  في رفض أوامر السلطات الاستعمارية... وهو ما كلّفه النفي والإبعاد إلى الجزائر أوّلا ثمّ إلى فرنسا حيث وافته المنية سنة 1948...وكان  موكب دفنه بمقبرة  الجلاز  يوما مشهودا في تونس.

ورغم عسف المستعمر الفرنسي وتنكيله بالزعماء والمناضلين من أبناء الشعب التونسي، ورغم الاغتيالات والقتل فقد توسّع المدّ النضالي وارتفع سقف المطالبة بالحرية والاستقلال وقد تغيّرت الموازين والمعادلات بعد انتهاء الحرب... فقد ظهر عالم جديد استيقظ على هول الدّمار والخراب الذي خلّفته الحرب الكونية الثانية.

وفي غرّة جوان ستكون العودة المظفّرة للزعيم الحبيب بورقيبة وسيكون يوم النصر يوما مشهودا... وفي 25 جويلية 1957 سيتمّ إعلان الجمهورية... وبذلك ينتهي العرش الحسينى بعد قرنين ونصف من الزمان.... غادرت اللّا البيّة قمر هذا العالم وتركت في الرواية وفي الواقع اللّا البيّة صفيّة بديلا عنها دليلا عليها... شركسية مثلها أعدّتها لخلافاتها وأهدتها بعضا من مجوهراتها وأسدت لها نصائحها قبل أن تغمض، عينيها... ستقف هذه البيّة- في تحدّ في وجه الزعيم بورقيبة وقد جرّدت الأسرة الحسينية من ممتلكاتها وامتيازاتها وزجّ بعدد من أفرادها في السجن.

مضت اللّا البيّة قمر وبقيت اللّا البيّة تونس شامخة عزيزة أبيّة أبد الدهر.

هذا غيض من فيض ممّا ورد في هذه الرواية الرائعة.... نصّ ثريّ كلّ مفردة تحيلك على مفردة أخرى أجمل منها... أعجبت أول مرة- بحكم تكويني- بإتقان صاحبه لفنّ الخطاب الدبلوماسي وأعجب اليوم من إتقانه لغة المعمار ولغة المصوغ والعطور... لغة الجمال في التفاصيل الصغيرة... عين ترصد ويد فنان بالكلمات ترسم... نصّ جميل  تقرؤه  فتستسيغه... تحاوره فيحاورك... قد يستفزّك... «يحيي نارك» قد يفنيــــك عمرا ولا تفنيه بحثا وتمحيصا.أدعو لإدراجه في برامجنا التعليمية..

خالد الزيتوني

سفير متقاعد

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.