الأعمال الكاملة في القصّة لعــزّ الدّين المـدني: أيّ معـنـى لإعادة نشـرها ؟
صدرت مؤخّرا «الأعمال الكاملة» في القصّة لعز الدين المدني عن الدّار العربيّة للكتاب وبتوصية ورعاية من وزارة الشّؤون الثّقافيّة. ويجدر التّنويه بالجهود التي بذلها الزّميل الإعلامي محمّد الميّ للإشراف على إعداد هذا العمل والحرص على صدوره.
شدّني في الإصدار الجانب «التّجريبي» في مسألة إعادة النّشر. وللأمانة لست ناقدة أدبيّة بمعنى الاختصاص العلمي الدّقيق. ولكنّ هذا الإصدار يطرح مسألة على غاية من الأهمّيّة وهي الإضافة الممكنة بل والضّروريّة في عمليّة إعادة النّشر.
عادة ما تقوم دور النّشر بصياغة تقديم يسعى إلى تحيين مدلولات الأثر المقترح و تسجيله في محاور اهتمام الرّاهن. لكن نادرا ما يقوم الكاتب نفسه بذلك. وأقصد الإضافة التي تعيد صياغة معنى الأثر وتبرّر إعادة نشره، بقطع النّظر عن نفاذ نسخ النشرات الأولى.
في «الأعمال الكاملة» لعزّ الدين المدني، حدثت لي في قراءة تقديمه للكتاب بمجلّداته الأربعة، هزّة كتلك التي حدثت لي وأنا أقرأ «الإنسان الصّفر» عقدا بعد كتابته. وامتزجت في ذهني حالتان: لحظة التّلقّي أي الالتقاء بالأثر وتقبّله ولحظة المكاشفة التي كتب عنها المدني في تقديمه. فالمهمّ في هذا الإصدار هو دون شكّ مقدّمته بقلـــم الكاتب. فآثار عزّ الدّين المدني، لأنّها زلزلت السّائد الأدبي والنّقدي عند صـدور كلّ قصّة منها ولأنّها على مرّ السّنين، أصبحت تدرّس في صلب البرامـج المدرســيّة، فإنّهـــا في ذاتها، لا تحتاج اليوم إلى التّعريف أو إلى التّلخيص كما يقع التّعامل الإعلاميّ عادة مـع الصّادرات الأدبيّة. الأهمّ من كلّ ذلك ما خطّه الكاتب في تقديم المجــلّدات الأربعة لأعماله في نشرتها الجـديدة.
مقدّمة هي بمثابة الماسح الضّوئي للحظة المكاشفة التي عاشها عز الدّين المدني عند كلّ كتابة. ويخصّ بالذّكر كتابة القصّة. لحظة مكاشفة جزّأها إلى تسع حالات لمست من خلالها، سيميائيّا، إحالة على الّلحظات التّسع السّابقة للمخاض ثمّ الولادة، ليس في مدّتها الزّمنيّة وإنّما في مدلولها النّشوئي.
«أن تكتب القصّة ...» هكذا بدأ الكاتب كلّ مرحلة من المراحل التّسع.
تحدّث عن انفتاح الفضاء الإبداعي على الكون كأن يفتح الوليد عينيه على الحياة فالكون حياة حاملة لـ«آماله الرّحيبة غير المتناهية».
«وأنت حين تكتب قصّة فإنّك لا تكتب الأشياء على عواهنها...لا بوازع سحريّ ولا غيبي ولا ظلاميّ، بل بدافع الخيال وبالفكر العاقل...وإذا أحببت بالافتراض، بالرّؤيا..ولا فكاك لك من كلّ ذلك». وتحدّث عن انفتاح الكتابة على الآخر وفي الوقت ذاته على الأنا « ..ومع ذلك فإنّك طليق حرّ، حرّ في نفسك، في فكرك..» فتعي مسالك الإضاءة مقابل مسالك التّسيّب و«دروب التّيه».
«وأنت حين تكتب قصّة»، يقول الكاتب: «تكتبها في الحاضر». قد تكون شاهدا وقد يحسب أنّك ماضويّ لأنّك تكتب عن الأمس. كتابتك هي الحاضر والماضي والآتي جميعا ومندفعة نحو المستقبل لأنّها تخلّت عن التّافه..وأهملت الظّروف الزّمنيّة التي يتعشّقها أهل السّياسة والإعلام ...ألا تدري أنّ العمل الإبداعي يغالب الزّمن ويغلبه؟»
ويكتب عن الإبداع أنّه متجدّد كما يدلّ عليه معناه. ويكتب عن اللغة، لغة كتابة القصّة، يقول إنّها «لغتك لا لغة غيرك وبلاغتك لم يطأها لا الأوّلون ولا الأخيرون. وخذ من الغيب وكحّل به عينك». وعن شكل القصّة يشبّه المدني الاشتغال عليه بالهندسة المعماريّة يمتزج فيها الحسّ الرّياضي العلمي وتوحي تركيبتها اللّغويّة بالدّقّة مع الإيحاء يشبّهها بأحجار الألماس والزّبرجد والعقيق والكهرمان والمرجان. ويتحدّث الكاتب عمّا يمكن أن نسمّيه بمعاني كتابة القصّة أو موضوعها فيؤكّد على طرق باب المجهول وحلّ لغز الإنسان وإشكال منزلته في طرح عميق يستبعد فيه التّفاصيل المرغّبة عن إقبال القارئ.
وفي المرحلة التّاسعة، وهي ساعة الحقيقة في الأقمار التّسع، فإنّ عز الدّين المدني يذكّر بمسألة تبدو لأوّل وهلة، من قبيل البديهيّات، لكنّها في الواقع على قدر من الأهمّيّة وهي طغيان الخطاب الوعظي والمباشر في الإبداع ،اعتبارا لما يسود اليوم على السّاحة الفنّيّة: «لا تتعلمن على القارئ ولا تدعوه إلى مذهب سياسي أو ديني أو علمي لأنّك تحترمه وتجلّه، فلعلّه أثقف منك وأعلم ...وبابك مفتوح لكلّ راغب وقاصد ...هو ذخيرتك بعد أن ترحل، فأنت به وهو بك».
أقمار ومقامات صنّف فيها عزّ الدين المدني تجربته التّجريبيّة على مدى عقود برز في مستهلّها بقصّته «الإنسان الصّفر» التي تستدعي مقاربة نقديّة متعدّدة الجوانب. ومن أطرف ما كتب حولها الرّدّ الذي وجّهه الكاتب إلى النّاقد علي الشّملي الذي أصدر، في مجلّة الفكر عدد ديسمبر 1968، مقالا نقديّا «الإنسان الصّفر...خيال وإلحاد...». كتب في ردّه على أخطاء جمّة وقع فيها النّاقد وأهمّها الخلط بين «التّجربة القصصيّة « و»القصّة التّجريبيّة». واعتبر المدني أنّ التّجربة القصصيّة على الرّغم من إعلان صاحبها نيّة المحاولة والتّجريب، فهي تنطلق من نسق جاهز. وبالتّالي فهي منغلقة، على عكس القصّة التّجريبيّة. فهي «تفتّح على القارئ، تفتّح مباشر فيثير فيه صدمة فنّيّة وحيرة خلاّقة...» ويستخلص القول:»فالتّجربة القصصيّة هي عبارة عن همزة قطع، أمّا القصّة التّجريبيّة فهي همزة وصل.»
إنّ حديث هذا النّصّ التّقديمي يتفرّد عن سائر النّصوص من هذا الصّنف ليرتقي إلى مقالة نقديّة يمارسها الكاتب على ذاته، على أثره وبفعل العلاقة البعديّة- زمنيّا- التي تفصله عن إبداعاته، فإنّ تشخيصه للفعل الإبداعي جاء معتّقا بحكمة السّنوات خفّت فيه حدّة العنف الرّمزي الذي قوبل به ذلك الإبداع لا فقط من قبل قوى التّطرّف والتّراجع ولكن أيضا من قبل الكتّاب والنّقّاد أنفسهم.
قد يطرح السّؤال اليوم حول مدى أهمّيّة نشر هذه الأعمال القصصيّة التي سبق أن نشر أغلبها من قبل. تتشكّل الإجابة من خلال بعض العناصر التي تفيد في هذا المعنى. ومن أهمّها الشّبه الدّقيق بين الفترة التي كتب فيها عز الدّين المدني نصوصه التّجريبيّة في القصّة وهي أواخر السّتّينات والسّبعينات من جهة والمرحلة التي يمرّ بها الإبداع الأدبي في الرّاهن. فالأولى تميّزت بطغيان الفكر الإصلاحي للأدب الذي تزامن بروزه مع الحركة التّحريريّة الوطنيّة ثمّ تواصل مساره موازاة مع بناء الدّولة الوطنيّة. وقد جاء الأدب التّجريبي ليحدث حلبة للتّساؤلات الوجوديّة والاجتماعيّة والثّقافيّة، استشرافا لما بعد العقلانيّة وما بعد الحداثة. ونشهد في المرحلة الرّاهنة عودة للإبداع المطمئنّ إلى للأشكال الوضعيّة ولحرّيّة التّعبير التي يبدو أنّ إدراكها في حالة غموض يختلط فيهـــا التّســـيّب مــع التّحزّب، مع التّطرّف، مع الاستهتــار بالاختلاف.
فهل من بشرى بجيل أدبي تجريبي يعيد تركيب العلاقة بين الكتابة من جهة، والإبداع والمتلقّي والزّمن الحاضر والزّمن الماضي والوطن والكون من جهة أخرى؟.
فوزية بلحاج المزّي
- اكتب تعليق
- تعليق