فـاضـل الجمّـالي: التـونســي بصِـدق وشــرف

فـاضـل الجمّـالي التـونســي بصِـدق وشــرف

الدكتور فاضل الجمّالي من القلائل الذين ارتقوا، عن جدارة، وهم أحياء، منبر التاريخ؛ وبعد رحيلهم، بَقِيت نبضات ذِكرهم متواصلة، بلا انقطاع. لم يكن هذا فحسب عربيّا مُقيما بتونس. فقد كان – في آخر مسيرته – يردّ، على مَن يصفه بضيف تونس، أنّه تونسي محبّة، وأصالة، واستحقاقا ؛ وأنّه مُقيم بها لِمدّة تقارب التي قضّاها في بغداد. ولئن كان مُنح لقب مواطن تونسي، فقد كان يتصرّف فعـلا عن إحســاس عميــق بالانتمـاء إلى المجتمــع التونســي.

لا أعرف من التونسيّين مَن كان أكثر منه حرصا على المساهمة في المنتديات الأدبيّة، وحضور المهرجانات المتنوّعة، والاتّصال الدائم بمختلف الشرائح الثقافيّة والدوائر السياسيّة، مع نشر المقالات في شتّى المواضيع، بالصحف اليوميّة.

والحقيقة إنّ إسم «فاضل الجمّالي» كان له، عن بُعد، رنينه لدى الجماهير التونسيّة، منذ أوائل الخمسينات، لمّا كان الشعب التونسي يَخوض معركته الأخيرة في سبيل الاستقلال. وقد كان الجمّالي إذّاك يَحضر مداولات الأمم المتّحدة، ويتصدّى للدفاع عن القضيّة التونسيّة، ويُقدّم إلى مُمثّلي الحركة الوطنيّة ما يُطلب إليه من أنواع الدّعم والمؤازرة. وكان التونسيّون يترصّدون، بشغف، على أمواج الأثير، أخبار مداخلاته في مجلس الأمن، أو في الجمعيّة العموميّة ؛ ويَستمعون، بلهَف، إلى ما يُذاع من خُطبه وتصريحاته. وفي ذلك العهد، الكلمة التي تُقال عن تونس، في منابر المنظـّمة الدُوليّة، كان لها مفعول سحري في نفوس الجماهير : تَرفع من معنوياتهم في مواجهة القمع، وتزيد المقاومين، في المُدُن والارياف، تصميما وثباتا.فقد حدّثني – رحمه الله – أنّه أحسّ باعتزاز لا مثيل له، يوما، إذ سمع تاجرا يَذكر اسم الجمّالي وفضلًه على تونس، وهو لا يَعرف أنّه يتحدّث إلى الجمّالي نفسه. وكان الفقيد محلّ تبجيل من قِبل الدوائر الرسميّة، وخاصّة من لدن المجاهد الأكبر، الذي يشقّ الجموع، في الحفلات الرسميّة، لِتحيّة الجمّالي، أو ينزل من منصّة الخطابة، متوجّها إليه، وهو في مكانه بالصفّ الأوّل، للاحتفاء به. ولئن كان الجمّالي دائم التحمّس للقضايا العربيّة، فلم يكن ذلك منه تعصّبا، بل دفاعا عن قِيم أخلاقيّة، ومبادئ حضاريّة آمن بها منذ أوّل شبابه، فتجعــــل الإنسان مُكلـّفًا بواجبات، ومُقيَّدا بضوابط، تجاه غيره من البشر.

أبلغ مثال عن ذلك دفاعه المتواصل عن قضيّة فلسطين، باعتبارها قضيّة عربيّة وإسلاميّة وإنسانيّة، في نفس الوقت. فكان الفقيد يُكرّس قلمه السَيّال، وفكره الذي لا يَنِي، لإبراز فظاعة المعاملة التي يلقاها الشعب الفلسطيني. وكان لا يدع فرصــة لإبــــراز مـــا فـُرض عليه ممّا يتنافى والمبادئ التي قامت عليها الأمم المتّحدة، في ميثاقها. والدكتور الجمّالي من الموقـِّعين عليه، عند أوّل تأسيس المنظمـــة. وبوفـــــاته، فقـــدت وثيــــقــة San Francisco آخر من كـــــان على قيد الحياة، من شهودها الموقـّعين عليها.

واحترام ميثاق الأمم المتّحدة نقطة خلاف جوهري بين الجمّالي والإدارات الامريكيّة المتعاقبة، منذ سنة 1947. فقد كان – مثل ثلّة من رجـــال السـيـاسة والفكر العرب – يكنّ للشعـب الأمريكي الإعجاب والمودّة، لِمساهماته العظيمة في شتّى مجالات السلام والثقافـــــة والحضــارة ؛ كما كان يُكبر الدور السياسي الذي قام به، من خلال إعلان مبادئ Wilson، التــــي فتحَت السبيل، أمام الشعوب المُولـّى عليها، لِتُقرّر مصيرها بنفسها. لكن الجمّالي كان يرى أنّ الدبلوماسيّة الأمريكيّة حادت عن هذه المبادئ، لمّا تعلـّق الأمر بالقضيّة الفلسطينيّة.

وكثيرا ما كان يراسل الجهــات الرسمـــيّة في الولايات المتّحدة، للفت النظر إلى هذه أو تلك من القضايا العربيّة، مُضيفا دوما أنّ ملاحظاته صــــادرة عن «صديق قديم، يرجو (للولايات المتّحدة) الخير والتوفيق في سياستها الدُوليّة».

ومن أهمّ القضايا المصيريّة، التي عُني بها أستاذنا الجمّالي، النهوض بالشعوب العربيّة، لِتأخذ بأسباب الازدهار، وتقوى على الذود عن حياضها.: يرى أنّ بداية النهوض إنّما تكون بتركيز القِيم الاخلاقيّة، ونشر التربية الإيجابيّة، وإحياء الثقافة الاصيلة، وصيانة الشخصيّة القوميّة، لإيقاظ الضمائر، وانتشال الجماهير من هوّة التخلـّف. وتلك كانت من الأمور الأســــاسيّة التي ربـــطت بينه وبــين الزعيـــم الحبيب بورڨبـية. وفي نظره، من أكبر أسباب التخلـّف، عند العــرب، جمود مناهج التعليم، وفقـــدانها للاعتبـــارات التربويّة، وعدم استنادهـا إلى الاهتمامات الحضاريّة.

فكــان يدعـو إلى تأسيــس النهضــة على تعميم التعليم، وإصلاح المناهج، وغرس القِيم الروحيّة والمبادئ الأخلاقيّة والمناهج الاجتماعيّة. وإنّما بذلك، تنمو، في نظره، لدى الشعوب، روح التضحية، والغيرة على المُثل العُليا، ومقوّمات الأمّة، في تناغم مع روابط الإنسانيّة.

وكان كثير الترداد لاقتراح، صدَع به في بعض كتاباته، وهو إنشــــاء «مجلــس حكـــماء»، لِوضع اقتراحات أساسيّة، على ضوئها يكُون السعي إلى النهوض بالأمّة العربيّة. وصحيح أنّ الجـــمّالي، في شبابــــــه، تـأثـّر بــــآراء الفيلســــوف الأمـــريكي جـــــون ديــــوي – John Dewey– صــاحب النظريّة القائلة بمركزيّة دور التربية في النهوض بالمجتمعات، لإعطائها مراجع أخلاقيّة تكُون لها نبـــراسًا هاديًا لها. لكنّه كان، منذ فتوَّته، مسكــونا بروح النضال من أجل عراق حرّ كريم، ينتمي إلى أمّة عربيّة عزيزة ناهضة. وإنّما هذا الهاجس هو الذي جعله يتجاوب مع النظريّة البورڨيبـيّة، في معالجة الواقع العربي. فلئن كان شديد الإعجاب بالثقافة الغربيّة، فقد كان حريصا كلّ الحرص على أصالة ثقافتنا العربيّة الإسلاميّة، مع الدعوة إلى إذكائها بما يتلاءم وروحيتَها من إيجابيات الثقافات العالميّة. وكان يعيب على النظم المدرسيّة والجامعيّة، عندنا، سوء عنايتها بجذور الأمّة. ويضرب لذلك مثلا قِلـّة الاهتمام بتدريس القرآن والسُنّة في كلـّيات الآداب والقانـــون والفلسفـــة، باعتبـــارهما معينـًا من المعلومات اللغويّة والأساليب البلاغيّة والآراء الفلسفيّة والقِيم الاخلاقيّة – لا فقط مرجعا دِينيّا.

شخصية أخينا الكبير فاضل الجمّالي كانت مُتعدّدة الجوانب، ولكن تغلب عليها نبضات القــوّة: قــــوّة الرؤيا، وقوّة البيان، وقوّة الحضور.

وإنّي لأعرفُ عميقَ محبّتَه لِوطنه العراق، وشوقَه إلى بغداد، وحنينَه إلى بيته، على ضفاف دجلة، بما فيه من أنواع الأثاث، ونفيس الكتب. وقد غادر العراق في ظروف معروفة، ولم يعُد إليه قطّ. لكنّه – خلافا للكثيرين – لازم واجب الحفاظ على الصمت، والإمساك عمّا يُسيء إلى وطنه. ولئن كان ذلك رغبة منه في عدم إحراج تونس، فلا شكّ، أنّه أيضا لِخُلق ٍ فيه كريم، وهمّة تربو به عن مثل ذلك.

كان صديقنا الفاضل شديد المراس في الحقّ، لطيف الشمائل في الصحبة والمودّة،  حيّيي الطبع، يقنع بالقليل، ويأنف أن يستزيد : كان مُؤمنًا من الأتقياء، دون تظاهر ولا رياء ؛ مَرِحا بالمزاج، أنيسا بالطبع، وحدانيّا في الليل، يتفرّغ للفكر والقلم والعِبادة. أسبغ الله عليه شآبيب الرحمة والغفران، وبوأه، تعالى، مكانة الصِدّيقين، جزاء ما قدّمه لأمّته، مفكّرا، ومناضلا من أكبر فرسان هذه الأمّة..

الشاذلي القليبي

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
1 تعليق
التعليقات
علي رجب - 12-02-2019 00:17

رحم الله الزعيم الراحل الدكتور فاضل الجمّالي الذي كان فاضلا بحق ومزاياه على الشعب التونسي إبّان الكفاح التحريري كبيرة ورائدة ولا ينكرها إلاّ جحود وقد تميّز بالقناعة فلم يطلب مقابلا لذلك ولا تعؤيضا وإنّما قابل الزّعيم الحبيب بورقيبة فضله بالاعتراف والامتنان وفتح له أحضان تونس لتحتضنه وتنقذه من براثن البطش الثائر أيام عبد الكريم قاسم.. طيّب الله ثرى الفقيد واحتسبه من الصدّيقين البررة.

X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.