خديجة معلَّى: تونس بين اجهاض مستمر وانتظار ميلاد جديد!
منذ المخاض الثوري الذي بدأ في ديسمبر 2010، تعيش تونس حالة إجهاض مستمر في كل المجالات وعلى جميع الأصعدة. إجهاض سياسي واجتماعي واقتصادي، وإجهاض لكل فكر إبداعي أومقترح تنموي... والسؤال المصيري حاليا هو: مَن مِنَّا لديه الاستعداد لتحمل مسؤولية انتظار ميلاد مستقبل جديد والسعي للوصول إليه؟
لن أتحدث عن المعارك السياسية وعن النهضة والنداء وعن خيانة البعض لوعودهم للتونسيين، كي يتحصلوا على أصواتهم، ولا عن السياحة الحزبية... لن أنجر إلى المستوى المزري الذي وصل إليه المشهد السياسي، حاليا في بلادنا، لكنني أفضل توجيه هاتين الرسالتين، واحدة إلى السياسيين والأخرى إلى الشعب التونسي.
أولا، رسالتي إلى سياسيين من كافة التوجهات: السياسة ليست تطاحناً ومعارك على حساب الفعل السياسي! حصلتم على أصواتنا بعد ثورة كبيرة فجرت ثورات في كل المنطقه بغض النظر عن المسارات التي أُخذت فيها هذه الثورات، وبعيدا عن مبتغى من خرجوا طلبا للعيش الكريم والحرية والعدالة الاجتماعية، ومن أجل التغيير والانعتاق من هيمنة الرأى الواحد والحزب الواحد والفكر الواحد...
لذا كان يجب أن تنحصر مهامكم، كسياسيين، في تحقيق هذه المطالب البسيطة والتي هي في مضمانيها تعبر عن أفعال ثورية للتغيير، جذرية وعميقة. لكنكم لم تلتفتوا لهذه المطالب وإنما انشغلتم بالإقتتال السياسي والمكاسب السياسية والمادية التي بالطبع جنيتم من ورائها، ولكن في نفس الوقت، جنيتم على تونس وعلى الشعب التونسي.
يجب على من يمارس السياسة أن يعي جيداً أنها ليست بالأمر الهين، بل إنما هي مسؤولية كبيرة وطالما هي مسؤولية، فهي تقترن بالمحاسبة وبالمسائلة عن كل الأفعال التي تحدث في إطارها.
السياسة هي الوسيلة والأداة لتحقيق أحلام الناس أوعلى الأقل، لتحقيق متطلباتهم الحياتية الملحة والعاجلة وهي في تونس واضحة. نحن إثنا عشر مليون مواطنة ومواطن، ولسنا 100 مليون ولا مليار، لتكون المسألة بهذا التعقيد البالغ، وكل ما إنجرَّ عنه من مؤشرات الفشل ووضعنا على كل القوائم السوداء أوالرمادية... وسأضرب مثالا بسيطا للتدليل على كلامي وهو ماحدث في 22 سبتمبر2018.
لما تم تفريغ السدود في الأودية، أغرقت العديد من المناطق الكبيرة وعشرات القرى، ستسألني ماعلاقة ذلك بالسياسة وماعلاقته بالفشل؟ سأجيبك بالتالي ..
نزلت أمطار على نابل والحمامات وغيرها من مدن وقرى الوطن القبلي، نعم نزلت أمطار لكن فوجئنا بسيول ومياه غزيرة لا نعرف مصدرها، أغرقت منازلنا، وأنا هنا أتكلم كشاهد عيان ومواطنة كأي مواطن تعرض لهذه الكارثة.الأمطار لم تكن بهذه الغزارة، لأن 70 مِم فقط نزلت يومها في قربة! من أين أتت الفيضانات؟ بالطبع من تفريغ السدود في الأودية! كنا في حيرة ونحن غرقى، ثم خرجت تصريحات بعضها ينفي وبعضها يؤكد بأنهم فتحوا السدود في اتجاه البحر والسؤال إذا: لماذا لم تذهب للبحر وأغرقت البيوت والطرقات والمغازات...؟ والسؤال الثاني الذي يفرض نفسه: لو كنا في دولة أخرى تحترم مواطنيها ما هي القرارات التي كانت ستتّخذ في نفس الظروف؟؟
القرار كان قبل أن يصل السدّ للحد الذي يجب تصريفه، هو إعلان الحكومة عن حالة الطوارئ وتحذير المواطنيين وأخذ كل الإجراءات اللازمة لحماية الأرواح والممتلكات. أما في مجال التخطيط، كانت ستقوم بحفر بحيرات لتخزين هذه المياه بدلا من تصريفها في البحر "حسب التصريحات". تخزينها للاستفادة منها فيما بعد، لأنها الثروة الحقيقية لأي برنامج تنموي في عالم تقلّ فيه المياه ويقتتل البشر من أجل قطرة ماء. ويا ليتهم صرفوها في البحر كما ادعت التصريحات الرسمية، ولكن صرفوها في المدن والقرى وأغرقونا بها وكبَّدونا خسائر فادحة طالت أرواح البعض منا، كما خسرت كل أسرة فينا أجهزتها الكهربائية وأثاثها وربما كل مااتملك، والبعض خسر سياراته... كما أجبر الفندق الوحيد في قربة على إغلاق أبوابه بالرغم من كل الحجوزات التي كانت لديه الى آخر شهر أكتوبر. لكن لم يتحدث أحد عن حجم الخسائر والأرقام التي تقدر بملايين الدنانير، ولم تلتزم الحكومة بتعويض المتضررين عن خسائرهم بعد، أو مساءلة المسؤولين عن أخطائهم على مستوى التخطيط والإجراءات المتبعة.
ومع هذا التصريف، ظهر الفشل في البنية التحتية، وإنهارت الطرق والجسور الجديدة ومعها إنهارت شبكة الكهرباء وإنقطعت شبكة الإنترنت لمدة أسبوع، متسببة في تعطل الكثير من الأعمال. انكشف ضعف البنية التحتية وتهالكها، مثل الطرقات المعبدة فوق الرمل مباشرة دون وجود أسس صحيحة لهذه الطرقات وظهرت رائحة الفساد النتنة في العقود الخاصة بالمقاولات، ولم نر أي ممثل للسلطة أوجهة حكومية تساند الناس في ما أصابهم وهو خطأ حكومي بجدارة، خطأهم هم.
إذا كنتَ كسياسي منشغلا بالتصادم مع منافسيك ولستَ منشغلاً بحياة الناس وبالحفاظ عليها وعلى ممتلكاتهم التي تحصلوا عليها إثر تعب ومعاناة، لماذا لا زلت موجوداً في السلطة إذا؟
إذا كانت هناك ذرة كرامة، كان يجب على كل أعضاء الحكومة أن يتقدموا باستقالتهم، بل أن يحاسَبوا عن الخسائر الفادحة التي تكبدها الناس بسبب قراراتهم الكارثية والتي تسبّبت في فقدان الأرواح.
ماذا انكشف هنا؟
- سوء تخطيط وقرارات غير مدروسة هي وتوابعها.
- غياب تام للشفافية والصدق في التصريحات بل تضارب وكذب وخداع.
- غياب تام لمؤسسات الدولة وعدم تحمل للمسؤولية عن الأفعال والقرارات الخاطئة وغياب المحاسبة.
- تهالك البنية التحتية وفساد في عقود الإنشاء وغياب رقيب يستلم ما تم إنشاؤه والتأكد من مطابقته لكراس الشروط وللجودة المطلوبة وبالتالي فساد إداري ومالي.
الرسالة الثانية والمحورية في الشأن التونسي، تتمثل في الإحتياجات الملحة للتونسيين. فعلا لدينا مطالب عاجلة ومطالب أخرى يحتاج تحقيقها إلى بعض الوقت.
المطالب الملحة:
- أهمية تشغيل الشباب لبناء حياة كريمة. حسب تقرير البنك المركزي التونسي الصادر في جويلية 2018،فإن البطالة وصلت إلى 15% وبالأرقام إلى 639 ألف تونسي، رغم أنني أكاد أجزم أنّ الرقم الحقيقي ضعف هذا الرقم. أما بين الخريجيين الجامعيين، فإن الرقم يصل إلى 35% وهي أرقام مخيفة، لكن بالطبع يمكن الوصول بها إلى الحدّ الأدنى لأن في النهاية هي أرقام بسيطة مقارنة بدول أخرى في المنطقة وفي العالم، إذا كان لدينا رغبة حقيقية في خلق فرص العمل والسعي إلى تنمية حقيقية.
- توفير الأدوية خاصة للأمراض المزمنة والاهتمام بالتصدي لتدهور الخدمات الصحية وحل مشاكل الصناديق الاجتماعية.
- العناية بالمتقاعدين الذين أعطوا حياتهم من أجل خدمة تونس وتنميتها وإجبارية الاهتمام بهم وبصحتهم ورفع جرايات تقاعدهم التي لا تكفي لمجابهة صعوبات الحياة، فهم يحتاجون إلى رعاية خاصة صحية (علاج وأدوية) ومادية خاصة في ظل الغلاء الفاحش للأسعار.
- مجابهة غلاء الأسعار وزيادة سياسات الإفقاروالضغط الواقع على الأسر في مجابهة متطلبات الحياة البسيطة والخروج من الدائرة المفرغة في الزيادة في الأجور والأسعار في نفس الوقت الذي ينجر عنه تضخم مالي يكاد يصبح مزمنا.
- وقف استيراد المنتجات التي لها بدائل تونسية، كيف يسمح باستيراد، بل بإغراق السوق بمنتجات أجنبية نحن في غنىً عنها!!، هل هناك حكومة في العالم تتعمد تخريب الاقتصاد الوطني وتركيعه لصالح دول أخرى!!!.
- إعادة إصلاح وبناء شبكة الطرق التي تهالكت وتدمرت بسبب المياة والفياضانات وحل مشاكل صعوبة التنقل وخاصة مشاكل النقل الريفي.
- التخطيط لحفر بحيرات ومسارات للفيضانات تستوعب الكميات الكبيرة من الأمطارالمتوقع نزولها خلال هذا العام وعدم التفريط في هذه الثروة الحياتية، وإجلاء السكان الموجودين في مسارات
هذه السيول والفيضانات للمحافظة على حياتهم وممتلكاتهم وتعويضهم ببيوت في مناطق آمنة.
هذه احتياجات أساسية ملحة يجب الالتفات السريع إليها وإيجاد حلول لها، مع غيرها من الاحتياجات.
أما باقي الإصلاحات التي نحتاجها كتونسيين، فهي تتمثل في ثلاث مسارات سوف اتناولها في فرصة قادمة.
خديجة معلَّى
- اكتب تعليق
- تعليق