عز الدّين عناية: كلّية الشريعة وعلم الأديان
يتميّز الإنتاج المعرفي في الكليات الدّينية في البلاد العربية بسمات جامعة، تتلخّص بالأساس في تخطّيه شبه التام أوضاعه الاجتماعية والاستعاضة عنها بخطاب هائم مفارق، لا غاص في الأرض ولا تشبّث بالسماء. حتّى خلّف ذلك المنهج اغترابا لافتا بين المشتغلين في الحقل الديني، تجلّى أحد أوجهه في تردّي دراسات الأديان والظواهر الدينية الاجتماعية.
ولا نزعم أنّ دراسة المسيحية أو اليهودية أو غيرها من الأديان الهندية والصينية مفتقَدة أصلا في كليات الشريعة، بل السائد أن المنهج المتّبع عقيمٌ لا يستجيب لمستلزمات التحوّلات الراهنة. فلم يدرك العقل الديني، في ثوبه المشْيخي المتدثّر بفكر الردود وبالمنظور المستند إلى مقولات أهل الذّمة، أنّه ما عاد قادرا على استيعاب الحراك الديني العالمي الراهن، لِما طرأ على الموضوع من تحوّلات. فلا أدلّ على وَهَن قدرة العقل الديني لدينا في الإحاطة بالأديان، وتردّي الإدراك في تبيّن المسارات المستحدَثة، من اختراق الوافد الديني للحصون الداخلية للإسلام المغاربي، وتهديد موعظة المبشّر و›الغورو› فتاوى الشيخ. ولولا تجريم ما يُسمّى بـ«التبشير المسيحي»، ومحاولة سدّ منافذ تسرّباته، وإنّ كان بأشكال تعيسة غوغائية، لبلغ السيل الزّبى.
الجليّ أنّ الأمر ما كان ليؤول إلى ما آل إليه، لولا ضعف الدراسات الحديثة للظواهر الدينية حتّى بات المفــــكّر يخـــشى المبشِّر. ففي بلاد المغرب الكبير، هناك غفلةٌ عن التعامل مع التراث الديني السابق، رغم أنّ المنطقـــة شهـــدت في سابق عهدها تطوّرات عميقة. كان أبرز تجلياتها الفلسفية واللاهوتية القدّيس أوغسطين ابن ثاغست (سوق اهراس). ولو بحثنَا عن تراث المنطقة المغاربية المسيحي لَما أسعفنا في الإلمام بحيثياته إلاّ إنتاج العقول الغربية. فالتاريخ الدّيني السّابق للإسلام، لا زال صناعة غربية، ولا زال إيديولوجيا تُسلَّط على المنطقة بغرض التّوظيف. وحتّى الذين اشتغلوا بالتّاريخ العام لتلك الحقبة، بفعل تكوين جلّهم غير العضوي، عادة مــا كرّروا ما تروّجه المدرسة التّاريخية الغربية. يعضد تلك الغفلة غياب عن متابعة حاضر الأديان، سواء في وجهها الأوروبي المجاور أو العالمي بشكل أعمّ. فهناك نفيٌ من الذات المغاربية لتاريخها ومستقبلها، وتغييب غير مبّرر لاهتمامها بالآخر الديني، تتحمّل فيه الوزر أن يأتيها التحدّي من حيث لا تحتسب.
لقد استغلّ الفكر الكَنَسي الغربي ذلك الوهن في الفكـــر المغاربي، حتّى جلب إلى حضيرته جمعا من الجزائريين والمغاربة والتونسيين، الذين باتوا يتبنّون الطروحات الغربية في أنّ المنطقة رومانية كنسية، في سابق عهدها، وغربية الطباع والهوى في حاضرها. تطوّر الأمر في السنين الأخيرة حتّى بات من يروّج للمسيحية الأوروبية بحماس مفرط، معتبرا الإسلام دخيلا وغازيا، والواقع أنّ تلك المقاربة يعوزها ربط الحلـــقة الإســـلامية بســابقتها المسيحية بوعي تاريخي رصين. فعادة ما متح الناكصون من غبن نفسي وما ركنوا إلى وعي فكري في انتمائهم الجديد. لقد شهد العالم تغيّرات هائلة في الحقبة المعاصرة، وصار من العبث، في بلـــدان ترنو للحداثة وحقوق الإنسان وحرية الاعتقاد، الحديث عن صـــدّ «التبشير» و«التنصــــير» و«التمسيح»، بلغ حدّ إصدار قوانين تجرّم من يروّج لغير ما هو سائد بدعوى ثَلْم الوئام الديني. في الحقيقة ليست تلك الأساليب عصرية، وليست عقلية، وليســت إســــلامية أيضا. فهناك في البلاد المغاربية قابلية للتنصّر و»الخروج من الملّة» يغذّيها بؤس الفكر الديني لدينا واغترابه، وضعف التكوين الأكاديمي بشأن الآخر في الجامعات الدينية بالأساس، فضلا عن عدم التنبّه للتحـــوّلات العالمية وما تتطلّبه من أدوات مستحدثة. من هذا الضعف يتسرّب الآخر الديني ليحاصر ويهدّد ويتحدّى العقل الخامل.
خلال الصائفة المنقضية التقيتُ، أثناء إجازتي في كلّ من تونس والجزائر، بباحثين في الحقل الديني. حسبـــتُ قبـــل اللقاء أن الدراسات المغتربة، التي استعاذ منها سيد الخلق: «أعــــوذ بالله مـــن علم لا ينفع» قد كسدت بضاعتها مع دخول الألفية الثالثة، فضلا عن الإحجام عن الخوض فيها، بموجــب الزلازل السياسية التي هزّت بلاد العــــرب، التي يُفترض أنها نبّهت الغافل. ولكن حديثي وسؤالي كشفا لي خلاف ذلك، فما فتئت سوق الغيبيات رائجة وبالغافلين عــامــرة. فـ«هاجر» تُعدّ «ماستر» حول إغواء إبليس، و«رقيّة» تبحث في فوائد الطمأنينة، و«عبدالباسط» يزعم فكّ ما أشكل على السلف في مســـألة «القضــاء والقدر»... بالمقابل أستذكر طلابي الإيطاليين في الدراسات الشرقية، فأجدهم، باختيارهم لا بإيحاء منّي أو من زملائي، يركّزون في إعداد رسائلهم على ما هو معيش. «لاوْرا» تبحث في أثر العوامل الدينية في عدم ضمّ تركيا إلى المجموعــــة الأوروبيــــة، و«فــرانشيسكو» يتتبّع خطاب البرامج الدينية في التلفزيونات المغاربية بالتحليــــل والرصـــد، و«كـــارلا» تتنـــاول بالمقـــارنة حركات الإسلام السياسي وأحــزاب الديمقراطية المسيحية. لعــــلّ لتلك الأسباب غنم الغرب دنياه وفرّطنا نحن في دنيانا وأخرانا.
كانت جامعة الزّيتونة أوّل جامعة في الفضاء المغاربي تغامر بإحياء علوم الديانات، الذي أنجب البيروني (973 - 1048م)، وابـــن ربّن الطبري(ت.861م)، والسّمــــوءل بن يحيي المغربي (ت.1174م)، جـــرَت الانطلاقة سنة 1987، بيْد أنهـــا سرعــان ما توقّفت. كنتُ ممن قُدِّر لهم أن يتكوّنوا خلال تلك التجربة الخاطفة، حيث أعددتُ رسالة دكتوراه تناولت ما كتبه العرب بشأن اليهودية، خلال النّصف الثّاني من القرن العشرين، نُشِرت في بيروت تحت عنوان: «الاستهواد العربي في مقاربة التّراث العبري». تبيّن لي أنّ ما يناهز الأربعمئة مؤلَّف في الشّأن، ممّا تناولتُه بالتّحليل، ستّة منها علميّة، وما تبقّى هي مؤلّفات ثقافة عامّة. كما اتّضح أنّه لم يتناول كاتبٌ واحد التلمودَ مباشرة، الكتاب الثّاني بعد التّوراة من حيث الأهمية التّشريعية والعقديّة، باستثناء الرّاحل أنيس فريحة في كتاب: «في القصص العبري القديم» (دار نوفل، بيروت سنة 1992). اعتمد جلُّ من كتب نصًّا مترجَما لكاتب ألماني اسمه روهلنج، عرّبه يوسف نصر الله، أحد النّصارى العرب، بعنوان: «الكنز المرصود في قواعد التلمود»، جــاءت أولى طبعاته سنة 1899. هذا حال الاهتمام باليهودية، الأساس الثّقافي لدولة تستلهم وجودها الحضاري من تراثها الدّيني، ويخوض العرب معها صراعا منذ ما يناهز القرن.
أمّا حال دراسات المسيحيّة فهو أسوأ، فالمجلاّت المسيحية الصّادرة في البلدان التي فيها أقلّيات مسيحية ممنوعة في غيرها، والمؤلّفات النّقدية للمسيحية تكاد تكون غير موجودة، بدعوى أنها تسيء للوئام المسيحي الإسلامي، والكتاب المقدّس مصادَر بدعوى منع التّبشير، وكأنّ الجهل بالشّيء يصدّه ويمنعه! كما لـــيست هناك إحصائيات تتناول أتباع هذه الدّيانة، ولا متابعة لكنائسهم ولواهيتهم، إلاّ ما قامت به مؤسّسات غربية. وأمّا حال الاهتمام بالدّيانات الآسيوية: الهندوسية والبــــوذيّة والسيخيّة والبهــائيّة والشّنتاوية والجينــيّة، فحدّث ولا حرج. فالواقع يبيّن أنّ المؤسّسات الأكاديمية العربية أجهل المنابر العلمية بالدّيانات، وتشكو من أمّية قاتلة بالآخر الدّيني. في ظلّ تدنّي الوعي بالآخر، تشارك المؤسّسات الدّينية في البلاد العربيّة، انجذابا وتقليدا، في حوار الأديان، وتخوض ذلك في غياب استعداد علمي ودون أن تملك القدرات اللاّزمة لذلك. فأحيانا يتولىّ حوار المسيحيين من لا يفرّق بين «العهد القديم» و«العهد الجديد»، وفي أحسن الأحـوال لا تتجاوز المعرفة أدب «الملل والنّحل». في حين من الجانب الآخر في الغرب، لا تكاد تخلو مؤسّسة من مؤسّساته الجامعية من تدريس الإسلام بشتّى أوجهه السياسية والمالية والاجتماعية.
عز الدّين عناية
- اكتب تعليق
- تعليق