منجي الزيدي: المــركــز والأطــراف
تُنظّم الدّولة حياة المجتمع في مختلف مجالاتها وأوجهها. وهي تحتكر وسائل الضّبط والقوّة من أجل تحقيق التّماسك الاجتماعيّ على النّحو الذي تقتضيه طبيعة النّظام السياسيّ السّائد والبناء الاجتماعيّ القائم. وهي تنهض بمسؤوليات متعدّدة منها تنظيم الشّؤون العامّة وتوفير أسباب العيش الكريم لمواطنيها.
وللدّولة الحديثة أصنافٌ وأشكال. وهي تنحدر من نموذج الدّولة البيروقراطيّة التي أرست دعائمها، على أنقاض الحكم المطلق، أفكار الثّورة الفرنسيّة. وطوّرتها المجتمعات الغربيّة وقيّدتها بالدّساتير والقوانين التي تحدّ من تسلّطها وجنوحها للاستبداد.
قد نجحت هذه الدّولة في اختراق المجتمع والتّدخل في تنسيق مؤسّساته، وصارت تُسمّى دولة الرعاية، أي الدّولة التي تتمتّع بصلاحيات تنظيميّة واسعة في تسيير الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة بهدف تحقيق الرّفاه الاجتماعيّ لمواطنيها. وهي تتميّز بخاصيّة المركزيّة إذ تحتكر لنفسها سلطة القرار والتّدخل. ولمّا كانت للمركزيّة سلبيات عديدة فقد ظهرت أشكال من التّنظيم الإداريّ مثل اللاّمركزيّة واللاّمحوريّة...لتحقيق قدر من المشاركة المحليّة والتّسيير الذاتيّ.
ويعيش المجتمع التّونسي منذ الاستقلال في ظل دولة مركزيّة، آلت على نفسها النُهوض بكافة المسؤوليات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة بهدف تحقيق الاندماج الوطنيّ، وتجسيم المشروع التحديثيّ الذي بلورته النّخب التونسيّة منذ نهاية القرن التّاسع عشر، فضلا عن توفير أسباب الحياة الكريمة وتحقيق النّمو و الرّفاهية.
وقد كانت هذه الدّولة مضطرة لقيادة المجتمع في المشاريع التي رسمتها، واستبقت الواقع الاجتماعيّ، وسَنّت قوانين و أنظمة لم يكن من اليسير سَنُّها و تقبّلها وهضمها والانخراط فيها من قبل فئات واسعة من المجتمع في فترة معينة من تاريخه مثل قانون الأحوال الشخصيّة...كما كانت تسعى إلى تحقيق الاندماج الوطنيّ عبر نشر ثقافة وطنيّة متجانسة فكان تعميم التّعليم وتوحيد مناهجه بهدف نحت شخصيّة تونسيّة متجانسة.
ومع ذلك، فقد شهدت البلاد إخفاقات في العديد من البرامج والمشاريع ولم توفّق في صياغة نموذج تنمويّ ومنوال اقتصاديّ ومشروع مجتمعيّ متكامل ومستديم. ولئن تعدّدت الأسباب داخليًا وخارجيًا، فإن بعضها يعود إلى الفشل في إقامة علاقة متوازنة بين المركز والأطراف، بين الإدارة والمجتمع، بين النّخبة والعامّة...فرغم سياسات اللاّمركزيّة واللاّمحوريّة والدّيمقراطيّة المحليّة ظلّت السّلطة المركزيّة مهيمنة على مختلف مفاصل الإدارة والمجتمع، هيمنةً تجاوزت حدود مسؤوليّة المحافظة على مقــــوّمات الوحدة الوطنيّة والتّماسك الاجتماعيّ لتنتج مبادرات فوقيّة، وبرامج مبتورة عن سياقاتها ومحيطها. برامجُ مُسقطة لم تحقق أهدافها المنشودة، ولم تَلقَ صدى لها في أوساط الفئات الاجتماعيّة الموجّهة لها. ذلك أنها برامج مبنيّة على تصور أحاديّ، وعلى جهل بالخصوصيّات الجهويّة والمحليّة. وأدّى الكثير منها إلى الإضرار بالبنى التقليديّة ثقافيّة كانت أم اقتصاديّة، ولم يُقدِّم بدائل واقعيّة وملائمة لتعويضها وتأمين وظائفها.
من ذلك مثلا البرامج المسقطة التي تمّ وضعها لتنميّة المناطق الداخليّة والتي أدّت إلى زيادة الفوارق بين المركز والأطراف وبين المناطق المحظوظة والتّخوم المحرومة... ولم تنجح في تحديث الرّيف ولم تساعد على المحافظة على خصــوصيّاته واستثمار مقدّراته، فنزح الرّيف إلى المدينة وتركّز في محيطها حزام متفجّر من الفقر والتّهميش والاستبعاد الاجتماعيّ، وتشكّلت وحدات اجتماعيّة وديموغرافيّة أصبحت حاضنة ملائمة لمختلف الظّواهر السّلبية النّاجمة عن التّهميش والحيف وفي مقدمتها ظواهر العنف والتّطرف...
ومن ذلك أيضا القطيعة بين بعض المناهج المدرسيّة والواقع الاجتماعيّ. فقد تمّت صياغتها وفق تصور نمطيّ مشبع بأفكار جاهزة ينظر إلى المجتمع كوحدة مغلقة، حتى أن اختبارا وطنيا طلب من تلاميذ لم يخرجوا البتة من «الدوّار» الريفي النائي الذي ولدوا به، أن يصفوا الشاطئ والمصطافين!.. كما ظلّت بعض الإنتاجات الإعلاميّة والترفيهيّة حبيسة نماذج لا تراعي الاختلافات والحساسيات، فهي تعتقد أنّ ما تروّجه صالح لكلّ زمان ومكان ولكلّ الناس وأن خطابها مستساغ من الجميع، الشيء الذي جعل بعضها ينحدر إلى الإسفاف وجرح المشاعر وإثارة النعرات الجهوية...
مثل هذه المشاريع وضعت بالعاصمة في مكاتب مغلقة في بنايات عالية ومتعالية. وكثيرة هي البرامج التي تم استيرادها جاهزة من مجتمعات أخرى دون مراعاة الخصوصيّات المحليّة وكانت نتائجها سلبيّة وأفرزت واقعا مُشوَّها. أضف إلى ذلك إملاءات القوى العالميّة ونماذجها المفروضة التي تَبيَّن فشلها وحجم الفجوة بينها وبين الواقع المحلي...فالمجتمع التونسي يتمتع بنعمة التّجانس ولكنّه أيضا يستمد ثراءه من التّنوعات والاختلافات والخصوصيّات.
لذلك كلّما تعالى السياسيّ عن واقعه، وابتعد الإداريّ عن محيطه، واحتكرت الدّولة المركزيّة وظائف التّخطيط والتّفيذ فإنّ الجهد يذهب هباءً منثورًا.
منجي الزيدي
أستاذ تعليم عال بجامعة تونس
- اكتب تعليق
- تعليق