خديجة معلّى: ما معنى أن تعود من وراء جدار الموت!
أغزر مطر شاهدته في حياتي وأنا قد تخطيت عقدي الخامس.. ماء يهطل من فوق ومياه أودية تجري من تحت على طريق مهشم منذ فياضانات 22 سبتمبر الماضي تتدهور حالته يوما بعد يوم. كما أنّ كل أودية "بني خلاد" خرجت من مجراها وأبت إلاَّ أن تغسل شوارع مدينة نائمة لا تعرف هول ما قد يحدث لمن يتجرأ أن ينافس قوة الطوفان!
هو الطوفان إذا! وصراع ضد قوته وبطشه حتى الموت. هل الشجاعة أن تدخل هذه المنافسة غيرالعادلة أم هو الجنون بعينه؟ سؤال وعدت نفسي أن أرجئ طرحه الآن والعودة للتفكير فيه في أقرب فرصة!
ظلام حالك، مطر غزير يحجب الرؤية وأودية تأتي من كل صوب وحدب على طريق مهشم في العديد من الأماكن... وفجأة، ظهر بريق أمل في سيناريو فلم رعب كُتب من قبل وكان التحدي في القدرة على تغيير كل كلمة فيه، لا بل كل حرف! أنوار سيارة للحرس الوطني تقترب مني وتصارع نفس الطوفان كي تسبقني وتتوقف أمامي كي أتوقف أنا أيضا. هل يمكن أن يوجد شخص واحد يتحدى الطوفان كي يأتي لي برسالة طمأنة أنه ما زال في الحياة بقية؟
نزل "حِلمي" بطل السيناريو الجديد، ودون أن تكون لنا معرفة سابقة، قرَّرنا في نَفَسٍ واحد أن نكتب قصة وطننا من جديد! كان "حِلمي"، شابا في مقتبل العمر، بشوش الوجه بالرغم من خطورة الموقف، وأعطاني بصوت هادئ تعليمات لتخطي الطوفان، كانت سهلة وبسيطة لكن نتائجها كانت في أقصى الخطورة: فإمَّا أن نتبعها وسوف ربما يُكتب لنا حياة جديدة أو أن نخفق، وتكون ساعة الرحيل الى عالم آخر قد دقت!!!
التعليمات البسيطة كانت أن نبقى وسط الطريق مهما كلفنا الأمر كي نعطي لأنفسنا فرصة للنجاة من موت مؤكد. البقاء في الوسط لأنّ على مترين على اليمين أواليسار، كان الطريق مهشما وأي خطأ يؤدي إلى الكارثة. لكن الخطأ كان واردا في كل لحظة لأنّ الظلام كان حالكا وغزارة المطر لا تسمح إلا برؤية على بعد مترين للأمام على أقصى تقدير والخوف كان من السيارات التي تأتي في الإتجاه المعاكس والتي يمكن أن لا ترانا إلا بعد فوات الأوان. وظلّ "حِلمي" يقود سيارته ببطىء شديد وأنا وراءه، متعلقة بضوء سيارته التي أصبحت تمثل طوق نجاتنا الوحيد! ساعة رعب كانت بطول السنة!!!
كان هاجسي الوحيد هو أن لا أتمكن من إنقاذ مَن معي في السيارة والعبور بهم إلى بر الأمان. جملة واحدة ظلت ترِّنُ في ذهني وتغمر كلِّ مشاعري : "سوف أعيدكم الى عائلاتكم"! عهد قطعته على نفسي ورأيته مجسدا في النظرة التي تبادلتها مع "حِلمي" والتي أجاب عنها بصمت: "سوف أعينك على الإيفاء بوعدك"!
كان معي ثلاثة أصدقاء مصريين أعزاء، عرفتهم منذ خمسة عشر سنة في القاهرة، وشاءت الأقدار أن نجتمع في لقاء كان أن يمكن أن يكون اللقاء الأخير.... أصدقاء أصرُّوا على أن يتكبدوا عناء السفر كي يأتوا للاحتفال معي بحفل زفاف ابنتي. كنا معا في عشاء العريس في تونس وعدنا في منتصف الليل الى قربة حيث نقيم جميعا. كان معي الفنان القدير د. السيد الرفاعي وزوجته د. ألفة علام ولهم ثلاثة أطفال وصديقتي أماني ولها طفل. العهد الذي قطعته على نفسي هو أنّ حياتهم كانت أمانة في رقبتي وأنني سوف أعيد الأمانة الى أصحابها مهما كلفني الأمر. كنت مدركة أنّ طريقنا الوحيد للخلاص هو أن أتحكّم في الموقف وذلك ممكن فقط إذا تمكنت من التصالح مع خوفي وفزعي ولازمت التركيز التام !
قررت أن أعيد الأمانة الى أصحابها وأن لا أستسلم للرعب الذي كنت أعرف بحدسي أنه لو غمرني لتوقفت عن السياقة وبالتالي سمحت للوديان بأن تجرفنا نحو المجهول.
خط رفيع جدا يفصل الحياة عن الموت! لم أدرك هذه الحقيقة إلا بعد أن عشت تجربة بمثل هذه الخطورة. فعلا، أن تعيش لحظات ما قبل الموت تجربة فريدة من نوعها ومن التجارب التي لا نعيشها إلا مرة واحدة طوال حياتنا. كنت أريد أن أتمعن في كل دقيقة فيها، لا بل في كل ثانية! لحظات ما قبل الموت تجبرك على إعادة ترتيب كل الأوراق وإعادة التفكير في كل الأولويات وأخذ القرار بالتمسك بالأشياء المهمة والتخلي عن الأشياء التي لا قيمة لها.
الإصرا رالجنوني على تحمل مسؤولية ، أي إعادة الأمانة الى أصحابها، هو الذي أخذ بيدنا من مشارف المجهول والعودة للوطن ولكل من يُحبنا ويعز عليهم فراقنا. لكن الأهمّ من ذلك إصرار عون حرس المرور الذي قرَّر أن لا يقوم فقط بواجبه بل أن يتخطى الخطر بمراحله ..أعاد إليَ الأمل : الوطن الذي يوجد فيه أشخاص مثل حِلمي" لن يندثر!
"حلمي بن جمعة" سوف تبقى نبراس نضالي القادم لأن تعاملك مع الموقف هو بالضبط ما تحتاجه تونس اليوم. هي في حاجة إلى قائد يشعر بالمسؤولية الى أبعد الحدود. "حلمي" أخذ على عاتقه أن لا يعود الى بيته وينام قبل أن يتأكدَّ أنه لا يوجد أي تونسي وتونسية وحده في ظلام دامس في مواجهة أودية تتلاعب بحياته ومطر شرس يحجب عنه ضوء الحياة وطريق الخلاص...
"حلمي" أنت أمل تونس لأنك رمز من يضع مصير كل التونسيين أمانة في رقبته ويقطع عهدا على نفسه أن يوصلهم إلى برّ الأمان. آن الأوان أن يقطع كل تونسي وتونسية العهد على إيصال تونس إلى بر الأمان!
خديجة معلّى
- اكتب تعليق
- تعليق
الحمد لله علي سلامتكم جميعا وشكرا علي هاته الرسالة المؤثرة جدا والتي أثارت في مخيلتي ثورة الاعتراف بالجميل وحب الحياة من أجل الآخرين فعلا أشاركك الرأي في كل ما تقولين وفي اصرارك علي بعث الامل وزرع التحدي من أجل الوطن في تجاوز الصعوبات والعراقيل وخاصة بعث الطاقة الإيجابية ونبذ السلبية في التعاطي مع الظروف وأمثالك وأمثال حلمي الغيورين علي تونس وشعبها يزرعون فينا روح الامل والصبر والتضحية من أجل مستقبل وطننا وأبنائنا شكرا لك وأحلامي ولكل اسود الوطن الساهرين علي سلامتنا تحيا تونس
المعني الحقيقي للحياة هو معايشة تلك اللحظات المرعبه الرائعة الفارقة بين الموت والحياة والتي اعتبرها لحظة ميلاد جديد خاصة لو ولدت في حضن الناس الطيبين الذين يبادرون بالفعل المسؤل ولا ينتظرون اي مقابل . تحية فخر واعتزاز وتقدير لحلمي الثائر العاشق لتراب الوطن .والف حمد الله علي سلامتنا جميعا ونحن في انتظار لحظة أخرى صادقة أكثر روعه تعيننا علي تحمل عبء المسؤلية وتزيد من مساحة وعينا رغم الخوف والألم أرانا نقول بصوت واحد ونفس واحد : حلمي ياوطني
صديقة و زميلة سابقة بمعهد العمران إسمحي لي أولا أن أهنيك بزواج درة ونحمد الله على سلامتك أنت ومن معك الثابت فينا أن لتونس رجال ونساء تنير ظلامها وتخمد غدرطوفانها وتحيي فيها نبض الحياة
مغامرة تشويق لن يقدر تحديها الا ذو العزيمة ذو قوم من نوع خاص